وكالات – كتابات :
تُشكل الإستراتيجية الأميركية الخارجية القائمة على تعزيز التحالفات؛ وكذلك الوجود العسكري المتقدم مرتكزًا مهمًا في تحقيق فوائد سياسية وعسكرية واقتصادية لـ”الولايات المتحدة”، وبينما يرى البعض أن هذه الإستراتيجية تُعزز استمرارية المصالح التجارية والاستثمارية الأميركية، فإنه على العكس فإن آخرين يدعون إلى تقليل الإلتزامات الأميركية الأمنية ووجودها في الخارج في ظل الأزمات المالية المختلفة.
في هذا الإطار، تُجيب دراسة نُشرت مؤخرًا في مركز (راند)؛ للباحث “بريان روني” وآخرون، على تساؤل رئيس وهو: هل يستفيد الاقتصاد الأميركي من التحالفات الأميركية والوجود العسكري المتقدم ؟.. حيث تُقيِّم الجدل حول الفوائد الاقتصادية للإستراتيجية الأميركية بين الرافضين والمؤيدين لتوسع المشاركة العسكرية الخارجية ودورها كمزود للأمن العالمي.
منظوران أميركيان مختلفان..
تُمثل المصالح الأمنية مرتكزًا رئيسًا في صُنع السياسة الخارجية الأميركية، لذا يولي بعض صانعي السياسة للمشاركة العسكرية الخارجية أهمية كبرى تحقيقًا لإستراتيجية الردع للخصوم أكثر من الفوائد الاقتصادية.
في هذا الإطار، برز منظوران أساسيان أحدهما يؤيد توسيع تلك المشاركة على أساس ما تُجلبه من فوائد أمنية ومن ثم اقتصادية، والآخر يرفض ذلك؛ كالاتي:
01 – الداعمون للتوسع العسكري الأميركي..
تبلورت أطروحات هذا التوجه بصورة كبيرة منذ نهاية “الحرب الباردة”، وتكمن وجهة نظره في أن التحالفات الأميركية والوجود العسكري المتقدم يُحقق فوائد عديدة لكونها عاملاً رادعًا للصراعات ويحّول دون اندلاعها وتفاقمها بما يحد من انعكاساتها السلبية على الاقتصاد الأميركي ويُساهم في تعزيز التبادل التجاري.
لذا، فإن مكاسب “الولايات المتحدة” من الانتشار العسكري الخارجي يُحقق فائدتين، الأولى: تعزيز المصالح الأمنية الأميركية وتقليل مخاطر الحرب والحد من الصراعات على مستوى حلفاء وشركاء “الولايات المتحدة”، والثاني: وهو نتيجة للسابق وذو علاقة وثيقة بالاقتصاد، حيث إن منع الحروب والصراعات له فوائد اقتصادية مجدية لـ”الولايات المتحدة” عبر تعزيز التجارة والاستثمار بها وبشكلٍ عام الحفاظ على وضعية النظام الاقتصادي العالمي الذي يخدم مصالحها، خاصة في ضوء الاعتماد الاقتصادي المتبادل.
ذلك أن الترابط الاقتصادي يجعل الاقتصاد الأميركي شديد الحساسية للاضطرابات التي تُسبّبها الحروب في جميع أنحاء العالم.
نتيجة لذلك؛ يُجادل المدافعون عن المشاركة العسكرية الأميركية بأن الآثار الاقتصادية للصراعات الخارجية كبيرة، وأنه من الأهمية بمكان منع الصراع في المقام الأول من محاولة التعافي اقتصاديًا عندما يبدأ الصراع.
علاوة على ذلك؛ فإن هناك مكاسب اقتصادية أخرى في ضوء الشراكات الأميركية؛ تتمثل فيما تُقّدمه الدول الشريكة من حوافز مباشرة لشراكاتها المحلية للتعاون مع “الولايات المتحدة” تعزيزًا للتحالف الثنائي بينهما، إلى جانب تقديم دول أخرى تنازلات اقتصادية لضمان استمرارها في تلقي الضمانات الأمنية الأميركية واستضافة الوجود العسكري، ومن الآثار المحتملة لهذا المنطق الحصول الأميركي على شروط اقتصادية أفضل من الحلفاء والشركاء في “آسيا” مع زيادة قوة “الصين”.
02 – الرافضون للتوسع العسكري الأميركي..
يُقلل أصحاب هذا الاتجاه من الطرح السابق؛ حيث يرون أن الاقتصاد الأميركي يتميز بالتنوع والقدرة على التكيف بما يسمح للشركات المحلية والمستهلكين والمستثمرين بالتعويض عن بعض الاضطرابات في التجارة والاستثمار، إلى جانب أن الاقتصاد الأميركي يُعتبر من بين الاقتصادات الجاذبة لعقد الشراكات، فضلاً عن التعددية التي تمتاز بها “الولايات المتحدة” من شبكة واسعة من الشركاء التجاريين على مستوى العالم، الأمر الذي يوفر أسواق استيراد وتصدير جديدة.
ويرى أصحاب هذا التوجه أن الكثير من التجارة الأميركية تتم مع “كندا والمكسيك”؛ وهما دولتان على مقربة من “الولايات المتحدة”، إلى جانب أن الاضطرابات المحتمل حدوثها يمكن التحكم فيها، فضلاً عما تُشّكله الاضطرابات الخارجية من فرصة اقتصادية لـ”الولايات المتحدة”؛ لما تُحققه من فتح أسواق جديدة تزيد من تدفقات التجارة والاستثمار لملء الفراغ الذي تركته الدول المتحاربة.
إذًا؛ فإن التكلفة الاقتصادية لمنع الحروب أكثر مما ستخسره اقتصاديًا إذا وقعت صراعات من وجهة نظر المؤيدين لهذا الاتجاه.
منع الصراع وتعزيز الاقتصاد..
ثُمثل الصراعات ورقة ضاغطة على الاقتصاد الأميركي؛ وبرز ذلك بصورة كبيرة عقب الحرب “الروسية-الأوكرانية”، وذلك لتأثر سلاسل الإمداد والتوريد إلى جانب نقص مواد الإنتاج الرئيسة وتزايدت معها أسعار الطاقة، الأمر الذي أثَّر على الشحن العالمي والمستهلكين، ولعل ارتفاع أسعار “النفط” وزيادة معدلات التضخم بصورة غير مسبوقة، علاوة على اضطرابات السوق سوف يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي لـ”الولايات المتحدة”، هنا يمكن توضيح مدى تأثر الاقتصاد الأميركي بتلك الصراعات كالآتي:
01 – التجارة والصراعات الخارجية..
تاريخيًا؛ شكلت الحرب العالمية الأولى؛ (تموز/يوليو 1914 – نيسان/إبريل 1917)، وما آلت إليه من حدوث اضطراب في التجارة العالمية على ضوء زيادة أسعار الشحن واضطرابات أسعار الصرف؛ فرصة أمام التجارة الأميركية التي حلّت محل بعض الدول المنخرطة في تلك الحرب، وعززت الاقتصاد الأميركي في ضوء المؤشرات الثلاثة التالية؛ أولاً: كان الاقتصاد الأميركي؛ بعد الحرب، أكبر من ذي قبل على الرغم من ركود ما بعد الحرب.
ثانيًا: تم استئناف الاتجاه طويل الأجل للنمو الذي حدث قبل الحرب عمومًا؛ بعد ركود ما بعد الحرب، حيث ظلت “الولايات المتحدة” على مسار النمو طويل الأجل نفسه على الرغم من التكاليف الاقتصادية للحرب.
ثالثًا: زيادة ثروة “الولايات المتحدة”؛ خلال الفترة التي كانت فيها دولة غير محاربة لأن الأرباح الخارجية زادت أكثر من تكاليف التعديل بالنسبة للشركات الأميركية.
وعلى الرغم من أن الحروب الخارجية يمكن أن تؤثر على اقتصاد الأطراف غير المتحاربة في ضوء تأثر التجارة وانخفاضها، سواءً أكانت تجارة الدول المتحاربة أو غير المتحاربة، فإن هذا التأثير يتباين فيما يتعلق بـ”الولايات المتحدة”؛ نظرًا لحجم الاقتصاد الأميركي ودوره في الاقتصاد العالمي، علاوة على ما تتسم به المنظومة الدولية من اقتصاد معولم، وفي ضوء الانفتاح الاقتصادي والرأسمالي يمكن أن يُساهم في تخفيف حِدة التغيرات الاقتصادية على “واشنطن”.
ويرتبط هذا التأثير وفقًا لاختلاف الموقع الجغرافي للدول المتنازعة، فمن المحتمل أن تؤثر بعض النزاعات فقط – على سبيل المثال، صراع في “أوروبا” يضم شريكًا في الـ (ناتو) – على التجارة الأميركية، وبالتالي تنخفض التجارة الثنائية لـ”الولايات المتحدة”؛ إذا حدث الصراع على حدود شريك تجاري رئيس.
02 – الصراعات وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر..
بالإضافة إلى تغيير أنماط التجارة تؤدي الصراعات إلى تراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر والمخزون الإستراتيجي من الاحتياطي النقدي، فالدول المتصارعة تشهد انخفاضًا في الاستثمار الأجنبي المباشر، وتعتمد تأثيرات الحروب على غير المتحاربين على السياق، ففي حالة انخراط حلفاء “الولايات المتحدة” في الصراع؛ بصورة مباشرة أو تلك الصراعات التي تحدث بالقرب من شركاء “الولايات المتحدة” التجاريين، سيتأثر الاستثمار الأجنبي أكثر مما لو كانت الصراعات بين أطراف بعيدة جغرافيًا عن “الولايات المتحدة” أو ليست لديها شراكة أو تحالف معها.
ومن ثّم، فإن العديد من الصراعات الأجنبية ستُفرض على الأقل بعض تكاليف التعديل على الاقتصاد الأميركي، وهو الرأي الذي يتوافق بشأنه الداعمون لإستراتيجية الانتشار العسكري أو الرافضون لها.
جدوى التحالفات العسكرية..
تستهدف الإلتزامات الأمنية الأميركية والوجود العسكري الخارجي بصورة كبيرة تحقيق الاستقرار الإقليمي، وتُمثل القوة العسكرية الأميركية التقليدية والنووية مصدرًا حيويًا نحو تعزيز تحالفاتها الخارجية ولعل تلك القدرة العسكرية تؤدي دورًا مهمًا في ردع خصوم حلفائها ومن ثّم تقلل احتمالية نشوب صراع، وتقتصر تلك التحالفات فقط على تقديم الدعم العسكري في حالة الهجوم على أحد حلفائها، ولعل الوجود العسكري الأميركي يجعل الدول المضيفة أقل احتمالية أن تشهد خلافات وتصعيدًا عسكريًا بما في ذلك الحرب.
فالوجود العسكري الأميركي يُقلل احتمالية أن يبدأ الشريك الأميركي صراعًا مسلحًا ويتوقف ذلك على طبيعة الوجود ونوع القوات الأميركية.
واتصالاً بما تم طرحه سابقًا من أن المشاركة العسكرية الأميركية يمكن أن تمنع بعض الاضطرابات الاقتصادية التي قد تحدث في حالة تورط حلفاؤها في الصراعات، فإن الزيادة في عدد الاتفاقيات الأمنية التي أبرمتها “الولايات المتحدة الأميركية” تتوافق مع مستويات أعلى من التجارة الثنائية بشكلٍ عام والواردات الأميركية على وجه الخصوص، وترى دراسة مؤسسة (راند) أنه إذا ما تم تخفيض نحو: 50% من الاتفاقيات الأمنية سيؤدي إلى انخفاض إجمالي الناتج المحلي لـ”الولايات المتحدة الأميركية” بما يصل إلى: 490 مليار دولار، أي حوالي: 2% من الناتج المحلي الإجمالي لـ”الولايات المتحدة الأميركية”؛ في عام 2021.
فالدول تُشكل تحالفات عسكرية لحماية شركائها التجاريين الحاليين، ومن ثّم فإن التجارة ذات تأثير مهم على خيارات التحالف وليس العكس. ففي الفترة اللاحقة لعام 1950؛ زادت مستويات التجارة بين “الولايات المتحدة” والقوى الثانوية من احتمالية حدوث تحالف عسكري بينهم، أي أن التحالفات الدفاعية لها ارتباط كبير ودائم إحصائيًا بالتجارة الثنائية، فوجود تحالف دفاعي بين بلدين يقترن بزيادة بنسبة: 79% في التجارة الثنائية في المتوسط.
ختامًا؛ يرى الباحثون أن القرارات المتعلقة بالتحالفات الأميركية والوجود العسكري المتقدم يجب أن تستند إلى مجموعة عوامل تتجاوز الفوائد الاقتصادية المحتملة، وإذا ما كانت هناك أدلة على أن المشاركة العسكرية الأميركية ساعدت تاريخيًا الاقتصاد الأميركي من خلال تعزيز التجارة الدولية.
إلا أن القدرة على الصمود في تلك الشركات التجارية والسياسات الأمنية الأميركية هي المحدد الرئيس الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أمام واضعي السياسات لفهم النتائج الاقتصادية لخياراتهم السياسية بشكلٍ أفضل، خاصة أن التكاليف المادية للمشاركة العسكرية الأميركية تظل نقطة خلاف رئيسة لبعض صانعي السياسات.