خاص: قراءة- سماح عادل
تناول الكتاب الحياة الاجتماعية في الدولة الفارسية، وكيف هي أخلاقهم وشرائعهم، وترتيبات الزواج لديهم والاهتمام بالأبناء وتعليمهم. وذلك في الحلقة الثالثة والأربعين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الحياة الاجتماعية للفرس وأخلاقهم..
انتقل الكتاب للحكي عن أخلاق الفارسيين: “إن الذي يدهشنا بحق هو ما بقي لدى الميديين والفرس من وحشية رغم دينهم هذا. انظر إلى ما كتبه دارا الأول أعظم ملوكهم في نقش بهستون: “وقبض على فرافارتش وجيء به إليَّ. فجدعت أنفه، وصلمت أذنيه، وقطّع لسانه، وفقأت عينيه، وأبقيته في بلاطي مقيداً بالأغلال يراه كل الناس. ثم صلبته بعدئذ في إكباتانا.. وكان أهورا- مزدا أكبر معين لي، فقد بطش جيشي برعاية أهورا- مزدا بالجيش الثائر، وقبضوا على سترنكخارا وجاءوا به إليَّ، فجدعت أنفه، وصلمت أذنيه، وفقأت عينيه. وبقى مقيداً بالأغلال في بلاطي يراه الناس جميعاً، ثم صلبته”.
وإن في حوادث الإعدام التي يقصها أفلوطرخس في سيرة أرت خشتر لصورة مروعة لما كانت عليه أخلاق ملوك الفرس في العهد الأخير. لقد كان الخونة يقضى عليهم بلا شفقة ولا رحمة: فكانوا يصلبون هم وزعمائهم، ثم يباع أتباعهم بيع الرقيق، وتنهب مدنهم، ويخصي غلمانهم، وتسبى بناتهم ويبعن. ولكن ليس من العدالة في شيء أن يحكم الإنسان على شعب بأسره من سيرة ملوكه. ذلك أن الفضيلة لا ترويها الأخبار، وأفاضل الناس لا تاريخ لهم، شأنهم في هذا شأن الأمم الهنيئة السعيدة. بل إن الملوك أنفسهم كانوا يبدون في بعض المناسبات شيئاً من مكارم الأخلاق، وكانوا يشتهرون بين اليونان الغادرين بوفائهم. فإذا عاهدوا أوفوا بعهدهم، وكان من دواعي فخرهم أنهم لا ينقضون كلمتهم. ومما يجب أن نذكره للفرس مقروناً بالثناء والتقدير، أن من العسير علينا أن نجد في تاريخهم فارسياً قد استؤجر ليحارب الفرس، على حين أن أي إنسان كان يسعه أن يستأجر اليوناني ليحارب اليونان.
وخليق بنا أن نذكر أن أخلاقهم لم تبلغ من القسوة ذلك الحد الذي يتبادر إلى أذهاننا من قراءة تاريخهم الحافل بالدم والحديد. لقد كان الفرس يتحلون بالصراحة والكرم وحفظ الود وسخاء اليد. يراعون آداب المجالس ويحرصون عليها حرصاً لا يكاد يقل عن حرص الصينيين. وكانوا إذا تقابل منهم شخصان متساويان في المرتبة تعانقا وقبل كل منهما الآخر في شفتيه؛ فإذا قابل الواحد منهم من هو أعلى منه منزلة انحنى له انحناءة كبيرة تشعر بالخضوع والاحترام، وإذا التقى بمن هو أقل منه قدّم له خده ليقبله، فإذا قابل أحد السوقة اكتفى بإحناء رأسه”.
الطهارة..
ويواصل الكتاب عن اهتمامهم بالنظافة: “وكانوا يستنكرون تناول شيء من الطعام أو الشراب على قارعة الطريق، كما يسوؤهم أن يبصق الإنسان أو يتمخط أمام الناس. وقد ظلوا أيام خشيرشا مقتصدين في مأكلهم ومشربهم، لا يطعمون إلا وجبة واحدة في اليوم، ولا يشربون إلا الماء القراح. وكانوا يعدون النظافة أكبر النعم لا تفضلها إلا الحياة نفسها، وأن الأعمال الطيبة إذا صدرت عن أيد قذرة كانت لا قيمة لها، “لأن الإنسان إذا لم يقض على الفساد (ولعله يريد “الجراثيم”) فإن الملائكة لا تسكن جسمه”. وكانوا يفرضون أشد العقوبات على من يتسببون في نشر الأمراض المعدية. وكان الأهلون يجتمعون في الأعياد وكلهم يرتدون الملابس البيضاء”.
وكانت الشريعة الأبستاقية كالشريعتين البرهمية والموسوية مليئة بمراسم التطهير والحذر من القذارة. وفي كتاب الزردشتيين المقدس فقرات طويلة مملة خصت كلها بشرح القواعد الواجب إتباعها لطهارة الجسد والروح. وقد جاء فيها أن قلامة الأظفار، وقصاصات الشعر، وإخراج النفس من الفم كلها أقذار يجب على الفارسي العاقل أن يتجنبها إلا إذا كانت قد طهرت من قبل”.
الشرائع الفارسية..
ويضيف عن قوة الشرائع: “كذلك كانت الشرائع الفارسية صارمة في عقاب خطايا الجسد صرامة الشرائع اليهودية، فكان الاستمناء باليد يعاقب عليه بالجلد، وكان عقاب من يرتكب جريمة الزنا واللواط والسحاق من الرجال والنساء “أن يقتلوا لأنهم أحق بالقتل من الأفاعي الزاحفة والذئاب العاوية”. لكن في مقدورنا أن نستدل من الفقرة الآتية التي أوردها هيرودوت على وجود الخلف المعتاد بين القول والعمل: “يرى الفرس أن خطف النساء قوة واقتداراً عمل لا يأتيه إلا الأشرار، ولكن اشتغال الإنسان بالثأر لهن إذا اختطفن من أعمال الحمقى؛ أما إهمالهن إذا اختطفن فمن أعمال الحكماء؛ فغير خاف أنهن لو لم يكن راغبات لما اختطفن”.
ويقول في موضع آخر إن الفرس “قد أخذوا عن اليونان اشتهاء الغلمان”، وإنا وإن كنا لا نستطيع أن نثق بكل ما يقوله هذا الراوية العظيم لنستشف ما يؤيد قوله هذا في العبارات القاسية التي تشنع بها الأبستاق على اللواط. فهي تقول في مواضع كثيرة إن هذا الذنب لا يغتفر وإنه “لا شيء يمحوه قط”.
ولم يكن القانون يشجع البنات على أن يظللن عذارى ولا العزاب على أن يبقوا بلا زواج، ولكنه كان يبيح التسري وتعدد الزوجات، ذلك بأن المجتمعات الحربية في حاجة ماسة إلى كثرة الأبناء. وفي ذلك تقول الأبستاق: “إن الرجل الذي له زوجة يفضل كثيراً من لا زوجة له، والرجل الذي يعول أسرة يفضل كثيراً من لا أسرة له، والذي له أبناء يفضل من لا أبناء له، والرجل ذو الثراء أفضل كثيراً ممن لا ثروة له”، وتلك كلها معايير للمركز الاجتماعي شائعة بين مختلف الأمم، وكانت الأسرة لديهم أقدس النظم الاجتماعية.
وكان من الأسئلة التي ألقاها زردشت على أهورا- مزدا: “أي إلهي خالق العالم المادي- إلهي القدوس! ما هو المكان الثاني الذي تحس الأرض فيه أنها أسعد ما تكون؟”. ويجيبه أهورا- مزدا عن سؤاله هذا بقوله : “إنه المكان الذي يشيد فيه أحد المؤمنين بيتا في داخله كاهن، وفيه ماشية، وفيه زوجة، وفيه أطفال، وفيه أنعام طيبة، والذي تكثر فيه الماشية بعدئذ من النتاج، وتكثر فيه الزوجة من الأبناء، وينمو فيه الطفل، وتشتعل فيه النار، وتزداد فيه جميع نعم الحياة”.
الحيوانات..
ويكمل الكتاب عن الاهتمام بالحيوانات: “وكان الحيوان، خاصة الكلب، جزءاً أساسياً من الأسرة، كما كان شأنه في الوصية الأخيرة التي أنزلت على موسى، وكان واجبا مفروضاً على أقرب الأسر إلى أنثى الحيوان الحامل الضالة أن تعنى بها، وفرضت أشد العقوبات على من يطعمون الكلاب طعاماً فاسداً، أو طعاماً شديد الحرارة؛ وكان عقاب من “يضرب كلبة علتها ثلاث كلاب “أن يجلد أربعمائة وألف جلدة. وكانوا يعظمون الثور لما له من قدرة عظيمة على الإخصاب. كما كانوا يصلون للبقرة ويقربون لها القربان”.
الزواج..
وعن علاقات الزواج يوضح: “وكان الآباء ينظمون شئون الزواج لمن يبلغ الحُلُم من أبنائهم. وكان مجال الاختيار لديهم واسعاً، فقد قيل لنا إن الأخ كان يتزوج أخته، والأب ابنته، والأم ولدها. وكان التسريّ من المتع التي اختص بها الأغنياء، ولم يكن الأشراف يخرجون للحرب إلا ومعه سراريهم. وكان عدد السراري في قصر الملك في العصور المتأخرة من تاريخ الإمبراطورية يتراوح بين 360ر329، فقد أصبحت العادة في تلك الأيام ألا يضاجع الملك امرأة مرتين إلا إذا كانت رائعة الجمال”.
مكانة المرأة..
وعن مكانة المرأة لدى الفرس: “وكان للمرأة في بلاد الفرس مقام سام في أيام زردشت كما هي عادة القدماء؛ فقد كانت تسير بين الناس بكامل حريتها سافرة الوجه، وكانت تمتلك العقار وتصرف شئونه، وكان في وسعها أن تدير شئون زوجها باسمه أو بتوكيل منه. ثم انحطت منزلتها بعد دارا، وخاصة بين الأغنياء، فأما المرأة الفقيرة فقد احتفظت بحريتها في التنقل لاضطرارها إلى العمل، وأما غير الفقيرات فقد كانت العزلة المفروضة عليهن في أيام حيضهن على الدوام تمتد حتى تشمل جميع حياتهن الاجتماعية، وكان ذلك أساس نظام البردة عند المسلمين.
ولم تكن نساء الطبقات العليا يجرؤن على الخروج من بيوتهن إلا في هوادج مسجفة، ولم يكن يسمح لهن بالاختلاط بالرجال علناً. وحرم على المتزوجات منهن أن يرين أحداً من الرجال ولو كانوا أقرب الناس إليهن كآبائهن أو إخوانهن. ولم تذكر النساء قط أو يرسمن في النقوش أو التماثيل العامة في بلاد الفرس القديمة. أما السراري فكن أكثر من غيرهن حرية، إذ كان للنساء في جميع الأوقات سلطان قوى في بلاط الملوك حتى في العهود الأخيرة، وكن ينافسن الخصيان في تدبير المؤامرات، والملوك في تمحيص وسائل التعذيب”.
الأبناء..
وعن الأبناء يحكي الكتاب: “وكان الأبناء كما كان الزواج من الشروط الأساسية للإجلال والإكبار. فالذكور منهم ذوو فائدة اقتصادية لآبائهم وحربية لملوكهم؛ أما البنات فلم يكن يرغب فيهن، لأنهن كن ينشأن لغير بيوتهن، وليستفيد منهن غير آبائهن. ومن أقوال الفرس في هذا المعنى: “إن الرجال لا يدعون الله أن يرزقهم بنات، والملائكة لا تحسبهن من النعم التي أنعم بها على بني الإنسان”. وكان الملك في كل عام يرسل الهدايا إلى الآباء الكثيري الأبناء، كأن هذه الهدايا ثمناً لدمائهم يدفع مقدماً.
وكان الحمل سفاحاً سواء ممن لم يتزوجن من البنات أو ممن تزوجن منهن يغتفر أحياناً إذا لم تجهض الحامل، ذلك أن الإجهاض كان في تقديرهم أشد جرماً من سائر الجرائم، وكان عقابه الإعدام.
وقد ورد في أحد الشروح القديمة المسماة بالبندهش وصف لجملة وسائل لمنع الحمل، ولكنها تحذر الناس من الالتجاء إليها. ومما جاء فيها: “وفيما يختص بالتناسل قيل في الكتاب المنزل إن المرأة إذا خرجت من الحيض تظل عشر ليال وعشرة أيام عرضة للحمل إذا اقترب منها الرجال”.
وكان الوليد يبقى في أحضان أمه حتى السنة الخامسة من عمره ثم يحتضنه أبوه حتى السابعة، وفي هذه السنة يدخل المدرسة. وكان التعليم يقصر في الغالب على أبناء الأغنياء، ويتولاه الكهنة عادة. فكان التلاميذ يجتمعون في الهيكل أو في بيت الكاهن؛ وكان من المبادئ المقررة ألا تقوم مدرسة بالقرب من السوق حتى لا يكون ما يسودها من كذب وسباب وغش سبباً في إفساد الصغار. وكانت الكتب الدراسية هي الأبستاق وشروحها، وكانت مواد الدراسة تشمل الدين، والطب أو القانون، أما طريقة الدرس فكانت الحفظ عن ظهر قلب، وتكرار الفقرات الطويلة غيباً.
أما أبناء الطبقات غير الموسرة فلم يكونوا يفسدون بتلقي ذلك النوع من التعليم، بل كان تعليمهم مقصوراً على ثلاثة أشياء- ركوب الخيل، والرمي بالقوس، وقول الحق. وكان التعليم العالي عند أبناء الأثرياء يمتد إلى السنة العشرين أو الرابعة والعشرين، وكان من يعد إعداداً خاصا لتولي المناصب العامة أو حكم الولايات؛ وكانوا كلهم بلا استثناء يدربون على القتال”.
المدارس..
وعن المدارس الطلاب يذكر: “وكانت حياة الطلاب في هذه المدارس العليا حياة شاقة. فكان التلاميذ يستيقظون مبكرين، ويدربون على الجري مسافات طويلة، وعلى ركوب الخيل الجامحة وهي تركض بأقصى سرعتها، والسباحة، وصيد الحيوان، ومطاردة اللصوص، وفلاحة الأرض، وغرس الأشجار، والمشي مسافات طويلة في حر الشمس اللافح أو البرد القارس؛ وكانوا يدربون على تحمل جميع تقلبات الجو القاسية، وأن يعيشوا على الطعام الخشن البسيط، وأن يعبروا الأنهار دون أن تبتل ملابسهم أو دروعهم.
لقد كان هذا في الحق تعليماً ينشرح له صدر فردرك نيتشه في اللحظات التي يستطيع فيها نسيان ثقافة اليونان الأقدمين وما فيها من تنوع وبريق”.