3
في تحاور دكتورة هناء مع عميد الجامعة في مكتبه يخبرنا السارد المتحكم
(تفحصته من جديد. عيناها لا تتركان عينيه، فأبتسم قائلا : تعرفين ؟ تعليق شخصي أريد أن أقوله لك : في مصر.. لا يوجد من يثبت نظره على نظر غيره وهو يتكلم معه هكذا. عيب. فاهمة يا هناء ؟ يعني ممكن في أمريكا تنظرين لعين المتحدث معك، ولكن ليس في مصر. ودائما تثبتين نظرك عليّ هكذا.. هذا غريب/122 ).. إذا كانت هذه النظرات أزعجت العميد وتوقف السرد عندها وامضا..
سيكون الأمر مختلفا في الحكاية الأولى من رواية (أولاد الناس) للروائية ريم بسيوني :
(*)
تعقبت قراءتي فاعلية العين وبلاغتها ومؤثريتها في موجهات السرد الروائي.. يسأل الصغير محمد أخته نفيسة عن أمهما، فتجيبه نفيسة (أمنا نفيسة غير كل النساء، ترى عينيها تلمع عندما يدخل والدنا، وتطارده بعينيها، وكأنها لاهثة في الصحراء وجدت الماء، وعندما تلتقي أعينهما يتكلمان ساعات دون أن ينبسا بكلمة واحدة../255 )
(*)
لولا الوباء الذي اجتاح مصر لتزوج يوسف بنت عمهُ .. (تأجل زواجهما سنتين بسبب الوباء../ 14 ) وهذا يعني أن للوباء سرده الأشد قسوة على الناس والمعاش وهناك السارد الكامن المباغت وهو المصادفة السالبة وهذه المصادفة هي التي تنتج سردا جديد لحياة زينب ويوسف. في ذلك اليوم يطلب الأب من أبنه الوحيد أن يصطحب أخته إلى الخان : لتختار ما تريد لجهازها عرسها. وهذا هو الظاهر، لكن الكامن هو طلب الأب من بنته في الخفاء أن تراجع حسابات الخان دون أن يلاحظها شقيقها أحمد !! والكامن الثاني(خبر خروجها للخان وصل إلى خطيبها وأبن عمها يوسف كما أرادت وكما خططت..)
(*)
يرى الأب أن الإنسان لا حول له ولا قوة يراه محكوما بالجبر الإلهي (ليس لنا اختيار ربما. لم يختر الأمير أن يكون محارباً، ربما أراد أن يكون شيئا آخر، ولم يختر يوسف السجن، ولم تختاري أنت الزواج من الأمير./ 31)
هل ما جرى هو جريرة الفعل الكامن..؟!
الأب بذريعة الملابس طلب منها جرد ما في الخان
البنت بحجة الملابس تريد ملاقاة خطيبها ابن عمتها : يوسف
في الخان تبدأ فهرست العين
في الخان يبوح يوسف (صبري نفذ منذ وقعت عيناي عليك/ 15)
تسأله زينب : كم بنتًا رأيت؟
يجيبها يوسف : عيناي لا تريان غيرك
بتوقيت يوحهما . تحدث مشادة بين جندي مملوكي وبين أحمد فيقوم الجندي بشق القماش الحرير وينظر إلى أحمد في تحدّ
ألتقت أعينهما وفار أحمد فورة الشباب ودفع بالجندي فوقع على الأرض، ثم صرخ فيه وأمره أن يرحل/ 16 )
من هذا المشهد المشطور بين داخل الخان وخارجه، لمست قراءتي وحدة الاضداد وهي متجسدة في نظرتين : نظرة الحب بين يوسف وفاطمة ونظرة الكراهية بين المملوك وأحمد
حين تخرج زينب وترى السوق في صمت ٍ مريب، تتوقع نهاية عمرها فتقع عيناها على (الحصان الواقف خارج الحارة وفوقه رجل بدا لها أنه الأمير: فالجنود حوله في كل مكان/16 ) تصرخ زينب مستنجدة بالأمير. لم تشعر أنها أصبحت سافرة بِلا خمار
هنا يركز السرد على العينين (تجري في طريقها والعرق يتصبب من جبتها وعيناها الواسعتان تنظران إليه في فزع.. /17 )
يطالبها الامير بالعودة إلى بيتها ويأمر جنوده ُ أن يأخذوهما إلى السجن وحين تحاول التوسل مجدداً يخبرنا السرد (ألتقت أعينهما، فتحت فمهما لتنطق، ولكن عينيه أخافتاهما وشعرت أنه سيقطع لسانها لو نطقت بكلمة ../18 )
نظرة الأمير المملوكي إلى زينب هي التي تغير مسار السرد الموعود ونظرة الامير تفسيرها يصدم الأب ويكسر النسق الاجتماعي لحقبة المماليك وتفسير النظرة يخبرنا به الشيخ عبد الكريم وهو يخاطب أبا بكر التاجر (أسمعني يا أخي. الأمير يريد الزواج من أبنتك/ 20 ).. كيف ذلك وزينب مخطوبة ليوسف ابن عمها وكلام الشيخ عبد الكريم جرى الآن والمفروض اليوم هو زفافهما. وإرادة الامير المملوكي تكسر النسق عند الطرفين :المصريين والمماليك وطلب الأمير لا سابقة له !! وما يريده الأمير : مقايضة لن اطلق سراح أحمد ويوسف بدون أن تكون زينب زوجته على سنة الله ورسوله.
(بدا الأب بعينين منكسرتين ومترددتين /22 ) بتأثير الخبر المملوكي الصادم
الشيخ عبد الكريم يتأنى كثيرا كأنه يتأهب ثم يستعمل عينيه شبكة صيد (يخترق حواجز العيون فيسبر أغوارهم ويفندهم ويغربلهم /25 )
يرغم الأب ويوافق أن يكون الأمير بعلا لأبنته يكون تأثير ذلك عليها مجسدا بقبضتيها وعينيها (أمسكت زينب برقبتها والدموع تخنقها وأغمضت عينيها وضغطت على يد أبنة خالتها../30 )
لما تدخل غرفتها )اتجهت عيناها إلى صناديق ملابسها وجهازها المرتبة في عناية منذ شهور../35 ) عيناها كانت تغوص في مستقبلها السعيد مع يوسف. لكن الآن ستبقي مستقبلها في بيت أهلها
وحين تسألها أمها : هل تريدين أن تأخذي الصناديق معك؟ يخبرنا السارد: قالت في صرامة : لا
في تلك الليلة وهو يدفع بها إلى السرير سيكون رد فعلها كالتالي (أغمضت عينيها تجمد جسدها وكأنه أنفصل عن روحها انفصالا تاماً../ 41 )
بعد أن ينتهي ويبتعد عنها قليلا تخيفها (هذه الريبة في عينيه ولا تعرف عواقب غضبه )
بيبرس وهو يخاطب الامير محمد، ويحرضه ضد السلطان الناصر
ويطالبه بالولاء له أي لبيبرس. هنا قبل الكلام يخبرنا السارد (ألتقت أعين الرجلين / 64 ) وهذه العلامة تضمن التوافق بين القائدين المملوكين
زينب أثناء لا تطيق المكوث مع نساء السلطان ليس بسبب حاجز اللغة بل بسبب سموم عيونهن نحوها وكذلك لا تطيق الحياة مع الأمير بسبب عدم الوفاء لوعده فهو لم يطلق سراح شقيقها أحمد وابن عمها، لذا أقسمت أنها ستصرخ في وجهه وستخبره برأيها فيه
وستقطعه بسيفه لذا( أغمضت عينيها وابتسمت لنفسها لأول مرة وهي تتصوره مبتورا وميتا أمامها../66 )هنا تتكشف سذاجة زينب
وعدم معرفتها بقدرات المملوك الامير محمد زوجها.
حين يعود الامير محمد شعرت بجسدها يبني حصونه ويستعد للهجوم فبقيت في مكانها والغطاء يصل إلى رقبتها .في هذه الحالة أكتفى الامير ببلاغة عينيه نظرة إليها فجأة وركّز في عينيها وهو ينتظر الحزن والتوق الذي يراه منذ البداية فهو أخبرها سيعاقب شقيقها وابن عمها. هنا يخبرنا السارد (قالت وهي تدير عينيها عنه …/69 )
تدير عينيها حتى لا يرى الأثنين في عينيها : اليأس والألم لكنه يباغتها قائلا ً (عيناك هي ما أعجبتني، كانت تعج بالحياة والشجاعة، لم أرَ امرأة ذات عينين كهاتين طوال عمري، كان لابد أن آخذك لنفسي../12 ) ما بين القوسين تتشكل منه الخلية السردية الموقتة في الباب الأول من رواية (أولاد الناس).. الأمير المملوكي توله بعينيّ زينب رأى فيهما امرأة بمنزلة المثال الأعلى وهناك تداعت إلى ذاكرتي تلك الجملة الشعرية لدى شاعر فرنسا الاعظم لويس آراغون وهو يخاطب ألزا(عيناك ِ من شدة عمقهما ضاعت فيهما ذاكرتي..)..
الأمير ميزانه عينه ُ لما تخاطبه (ربما خدعتك عيناك، ربما لا أملك أي قوة، يجيبها زوجها (ولكن عينيّ لا تخدعاني أبدا، لو خدعت المحارب عيناه لانتهى../70 ) نفس الكلام سيقوله للشيخ عبد الكريم بعد خطبة الجمعة حين يسأله الشيخ : أغضبتك كلماتي؟ فيجيبه الأمير (كنت أتوقعها. رأيتها في عينيك منذ التقينا في صلاة الجمعة، المحارب لا بد ألاّ تخدعه عيناه وإلاّ انتهى../ 71 )
وحين تأخذه العزة .. يخاطبها( يا زينب ربما أنت تخدعينني وليس عيني../70 ).. وحين تقول له بلسانها فقط : أفعلُ أيّ شيء تريده . يقترب ويهمسها (بل تفعلين ما تريدين أنت ../ 71 ) والسؤال الضروري كيف تفعل ما تريد هي؟ هي مسلوبة الإرادة قوله شَطرَ روحها فتناثرت زينب ذرات ِ رمال
وهبها الأمير المنتصر : حرية المهزومة . كشفت انتصاره ابتسامته الهادئة وحين تلتقي العيون سيدير الامير (وجهه ويغمض عينيه)
تصادف أحيانا أن العين ترى اللامرئي بعين المخيلة وهي تجالس زوجها(تخيلت رأسها بتره ووضعه على مائدته ليفتخر بها../ 82 )
فهو يمثل البطش في تعامله مع الوجود. على المملوك أن يقاتل ويموت مقتولا وليس حتف الأنف.
الأمير يعرف ما يؤثر عليها فهو(ينظر إليها ويرى ضوء الثورة في عينيها، يعرفه ويلاحظه حتى عن بعد، ويعرف أنه ضوء غالبا ما يتلاشى أمام الصرخات والسيوف../ 83 )
فاطمة أبنة خالة زينب تقيس حالة زينب من خلال مقياس العينين
فعندما زارتها فاطمة (ونظرت لعيني زينب المنطفئتين قالت بفضول: ماذا حدث يا زينب؟ قالت زينب في كرهٍ: هذا العبد التركي، كم أكرهه !/ 84 )
لكن عندما تزور فاطمة زينب وهي في حملها الأول، يخبرنا السارد
(عندما نظرت فاطمة إلى عينيها وجدت شيئا أخرج المارد من بين الأضلع، شيئا جديداً ولا بد من الانفجار بسببه، وجدت في عينيّ زينب هذا الرضا عن كل العمر، والثقة إلى الوصول والاكتفاء بما أعطاها الزمن وهذا الارتياح في عينيّ زينب والاطمئنان يزعجانها
إلى مدى ، ومع أنها تحب زينب وتعرف زينب منذ الطفولة، ولكنها قط لم تر زينب بكامل هذا الرونق كما رأتها اليوم../ 165 )
فاطمة هنا تمثل عين الحسد والغيرة القاتلة ولا تكتفي بل تتهم فاطمة صارخة في وجهها (تخافين من عينيّ؟ ) وحين تزور زينب في يوم وهي قلقة على زوجها الأمير، لا تحترم فاطمة مشاعر زينب بل تقول في حيرة (لم تسألي عن يوسف، كل هذه الأيام عنه ولو مرة واحدة، تغيرت يا زينب ما ذا حدث؟/ 137 ) كقارئ لا اتعاطف مع شخصية زينب فهي فضولية وحقودة وتشعر بندم لأنها فشلت في الهروب من بيتها والذهاب مع أحدهم إلى بولاق لتغني هناك!! وهي الوحيد التي بلغت أرذل العمر، بعد موت زينب والآخرون. ولماذا تريدها تفكر بيوسف وهي الآن حامل من زوجها ؟ هل لأن فاطمة تكره زوجها الذي لا يطيق غناءها، تريد أن تكون مثلها(يوسف أصبحت ذكراه بعيدة وصعبة المراس، وأصبحت تراه من منظور مختلف وكأنه طفل صغير يلعب معها ويلهو ساعات ويضحك ويجري معها، كان صديقها../ 138 )
ولما ترى زينب زوجها الأمير يقف مع جاريته سارة (ظلت عيناها مسلطتين عليهما حتى تركها الامير، واتجه إلى حجرته ولم يلاحظ وجود سارة/ 90 ) عين زينب هنا ترمي بشرر الغيرة
ثم تشهر غيرتها في وجه زوجها الامير ( فتح عينيه وهو لا يصدق ما تقول ولا طريقة مخاطبتها له/91 ) و تواصل جرأتها
يفتح الامير عينيه ودهشته تزداد ويتهما بسوء التربية
يمتزجان الكلام والنظر لدى الامير(قال وهو يطيل نظره إليها: سارة ستبقى هنا إلى الأبد / 93 ) بعد تجاوزها بالكلام سيزجها في سجن داخل قصره ولما يطلق سراحها يرى مدى وحشيته فيها (نظر إلى عينيها وشعر بقلبها الذي يخفق في قوة وكأنها ولدت للتو أو على وشك الموت../113 )
السارد أحيانا يعوّض بالفعل عن الاسم، فهو لا يذكر العين، بل يخبرنا عن الأمير (نظر إليها في حيرة لأول مرة) ثم يعود السارد للتسمية (أغمضت عينيها وهي لم تزل تتشبث به / 114) وكذلك الامر في زياراتها إلى الاميرات فالسارد لا يذكر العين بل يفكك علامتها (وعندما عرفت الاميرات بحملها نطقن كلمات قصيرة بالعربية لتهنئتها والاستعلاء واضح في نظراتهن../ 134 )
حين عرفت أن السلطان بيبرس أهدى زوجها الامير محمد جاريتين
فاضت غيرتها من روحها وتكدست في عينيها، فنظر الأمير (إلى عينيها رأى الحزن وتجاهله /123 )
ثم يخبرنا السارد (أطال نظره إليها../ 126 )
وحين تسدد غيرتها عليه ثرثرة ً . يخبرنا السارد(والتقت أعينهما، وعرفت أن صبره بدأ ينفذ../128 ) وأثناء صمتهما صارت(تحاول أن تستشف قراره من عينيه)
كل شخصية زينب ومشاعرها تتجسد في انفعالات عينيها وبشهادة زوجها (أنت لا تخفين مشاعرك جيداً، مشاعرك دائما واضحة في عينيك، أفهمها منذ رأتك عيناي../130 )
حين تقول فاطمة أن مقتل الأمير إذا وقع فهو يعني حريتك .رد فعل زينب يكون كالتالي
أمسكت قلبها
فتحت عينيها في فزع
ثم قالت : لا تقولي هذا، إياك أن تقولي هذا!! لن يموت! من قال : سيموت؟
(*)
زينب بعينيها اللتين قرأت من خلالهما الكتب، بهاتين العينين، بسحرهما ورحمتهما وبفيوض الوله والسخط انتصرت على قسوة زوجها الأمير محمد بن بيليك المحسني وجعلته يكتفي بها ويسرّح الجواري. وهكذا صنّعت لنا المرأة المصرية زينب قصة حب في زمن القسوة والاستبداد ..
*ريم بسيوني / أولاد الناس المماليك : الحكاية الأولى/ ط7/ 2020/ نهضة مصر للنشر
* في بداية مقالتي أقصد (دكتورة هناء) رواية ريم بسيوني.. يمكن الاطلاع على مقالتنا عن هذه الرواية في المواقع الثقافية