أرسل لنا صديق أحدى روابط المواقع الإخبارية ، وقد أصيب ” بالصدمة ” لما قرأه من خلاله من تصريحات أدلى بها الممثل الأعلى للسياسة الخارجية جوزيب بوريل مؤخرا ، والتي وصف فيها أوروبا بالحديقة وبقية العالم “غالبا” بالأدغال ، واعتبرها البعض بأنها غير دبلوماسية ، وأثارت الجدل ، في الأوساط غير الحكومية دون غيرها ، إلا أننا لم نتفاجأ قط من تلك التصريحات التي جاءت من الدبلوماسي الذي تعتبره أوربا مخضرما، وفق سجله الوظيفي، الا انه على ما يبدو قد تخلى عن هذه ” الخضرمة ” ، حتى قبل افتتاح الأكاديمية الدبلوماسية في بروكسل، عندما أكد إن “أوروبا “حديقة” الحرية السياسية والازدهار الاقتصادي في العالم، بالمقابل بقية العالم كان في الغالب غابة.
أختيار ” عجوز ” السياسة الاوربية ( الاسباني الأصل ) المكان في الاكاديمية الدبلوماسية في بروكسل ، كمكان لأطلاق مثل هكذا تصريحات ، لم يكن ” اعتباطيا ” ، فهذه الاكاديمية هي المكان الذي يعد فيها الدبلوماسيين الاوربيين ، والذين يجب ان يعرفوا ومن لسان شيخ السياسة الخارجية في الاتحاد الأوربي ، والذي على ما يبدو قد بلغ من الكبر عتيا ، حتى وصل الى مرحلة ” الخرف ” ( فهو من مواليد 1947 ) ، ليجسد في المقابل ” خرف القارة العجوز ” ، ليقوم بوريل بدور ” تلقين ” دبلوماسيي أوربا الجدد ، بأنه “يمكن للغابة ( والمقصود هنا العالم الغير اوربي ) أن تغزو الحديقة ( أوربا ) ، لقد أنشأنا هذه الحديقة جميعنا… فيها أفضل مزيج من الحرية السياسية والآفاق الاقتصادية والتماسك الاجتماعي … بقية العالم ليس في الحقيقة حديقة. معظم بقية العالم أدغال، وقد تغزو الأدغال الحديقة”.
وهذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها هذا ” العجوز ” ، اخراج ما في داخله من ” حقد وغل ” تجاه الشعوب الأخرى ، فبعد الضربات الروسية على رؤوس النازيين الجدد في أوكرانيا ، قال بوريل “حتى الآن ليس لدينا خطة محددة حول كيفية هزيمة روسيا الفاشية ونظامها الفاشي ، سئلت عن هذا، لكن هذه ليست مهمتي، مهمتي أكثر تواضعا وهي مساعدة أوكرانيا”، وهو ما قيل فيما بعد إنه خطأ في الترجمة ، في حينها توقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن يكون المفوض الأعلى للسياسية الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، إلى جانب الانقلابيين التابعين للديكتاتور فرانكو، إذا ما كان دبلوماسيا في ثلاثينيات القرن الماضي، نظرا لأنه يدعم الآن “النازيين” في أوكرانيا ، وقال بوتين، خلال الجلسة العامة لمنتدى الشرق الاقتصادي ، ” إن بوريل يدلي بتصريحاته لا كدبلوماسي، وإنما كوزير للدفاع”.
وان ما يفاجئنا اليوم ، هي ليست التصريحات ” الخنفشارية ” التي يطلقها العجوز بوريل هنا وهناك ، ولكن المفاجأة في ذلك الصمت الدولي ( المريب ) تجاه تصريحاته الأخيرة ، والذي شبه فيها العالم ممن هم خارج ” الحديقة ” الاوربية بأنهم أناس برابرة و وحوش ، وتوصيفات أخرى سموها ما شئتم ، ولم يتجرأ أحد في أن ” يلصم ” فم هذا العجوز واسكاته ، وضربه على رأسه حتى ولو بكلمة ( كأضعف الايمان ) ، عله يستفيق من ” غفوته ” ، وكما قال عزالدين بن زغيبة الباحث الجزائري، مخاطبا السيد بوريل “إن الشخص يصاب بالهذيان في حالتين عندما يشتد به الخوف من خطر أو عندما تحاصره الأزمات من كل مكان تضيع جميع حساباته في الماء” ، والغريب اننا لم نسمع حتى موقفا أوربا رسميا من ( داخل حديقة الحرية ) يرد على التفاهات التي اطلقها العجوز بوريل تجاه دول العالم الأخرى ، ويبدو ان ما قاله بوريل يتوافق مع رؤية وعقول أصحاب الحديقة الاوربية ” الخرفة ” ، مع ممثلها .
ووسط هذا الصمت الرسمي المطبق تجاه تصريحات بوريل ، الا من البعض والذين لايعدون أصابع اليد الواحدة ، ومنها وزارة الخارجية الإماراتية التي استدعت القائم بأعمال رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي لدى الدولة ، وأعربت عن استنكارها للتصريحات الأخيرة التي أدلى بها جوزيب بوريل ، وأشارت إلى أن “أية تصريحات من هذا النوع غير مناسبة وتتسم بالعنصرية ، وتساهم في تفاقم التعصب والتمييز على المستوى العالمي”، وكذلك في قطر علق وزير الدولة القطري في تغريدة عبر “تويتر”: ان “تصريح جوزيف بوريل، يعبر عن عنصرية واختلال توازن، وفلس حضاري وقيمي”، معتبرا أن “الغرب يفتقد القيادات القادرة على القرارات الشجاعة التي تتعامل مع القدرات الذاتية، وواقع الغرب بعد نهاية الاستغلال الاستعماري لعالم الجنوب إلى أين؟ وإلى أين يقود العالم؟” ، اما بقية الدول العربية وجامعتهم ، فهو صم عمي فهم لايبصرون ، وكأن الكلام لا يعنيهم .
ان سياسة أوربا المبنية فلسفتهم في الفصل والتفوق أصبحت هي الفكرة الأساسية للفاشية والنازية ، وكلتا الحربين العالميتين في القرن العشرين كانتا ناجمتين عن طموح ألمانيا “لاستعادة العدالة” وإعادة تقسيم مستعمرات أوروبا التي فشلت تلك الدولة في انتزاعها لنفسها ، بهذه الكلمات ردت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، على بوريل ، وخاطبته بالقول إن “أوروبا أنشأت تلك “الحديقة” من خلال النهب البربري لـ”الغابة”، ولم يكن بوريل ليصيغها بشكل أفضل ، النظام الأكثر ازدهارًا في العالم، الذي تم إنشاؤه في أوروبا، والذي ترعاه جذور في المستعمرات التي اضطهدوها بلا رحمة.
وعلى عكس المواقف الرسمية ، جاءت مواقف المغردين في مواقع التواصل الاجتماعي ، التي ” شاطت غضبا ” من هذه التصريحات ، فمنهم من أكد إنّ عبارات الحديقة والغابة تعود الى الذهنية الاستعمارية المرفوضة والتي تعطي للغرب حق الاعتداء والاحتلال، والاشارة إلى أنّ ،العالم المتعدد الاقطاب خلف الباب وعلى الاتحاد الأوروبي تقبّل الوقائع وإلا سيواصل المسار نحو الزوال ، وبحسب المتابعين والمعلقين والسياسيين وغيرهم، فقد استحضر بوريل كلمات بائدة منذ حقبة الاستعمار، وفتح على نفسه “أبواب الجحيم” عبر ردود فعل شعبية ورسمية، وصلت حد استدعاء ممثليه ، وآخرون يرون أن الدب الروسي قد أصاب الاوربيين بالحالتين معا حتى صاروا يرون أوروبا الجنة، وغيرها الجحيم، وهي الواحة وغيرها الأدغال ، وتمنى آخرو لبوريل “الشفاء العاجل من التوهان ” ، ورفضا لتواجده أو زيارته للدول الذي وصفها بالغابة، علق حساب آخر قائلا: “عزيزي البستاني يرجى التزام حديقتك الخاصة.. أنت غير مرحب بك في (الغابة)”.
ان الغضب والانتقاد تحول إلى التشكيك في استحقاق بوريل لوظيفته، إذ كتب ماريك كلاين الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد ، وهي إحدى أعرق الجامعات في العالم، ” ان بوريل كان ولا يزال غير مناسب على الإطلاق لوظيفة الممثل الأعلى للشؤون الخارجية” ، أما عضوة البرلمان الأوربي سفينيا هان، فقد اعتبرت تصريحات بوريل بأنه “لا يزال لغزا كيف انتهى بنا المطاف مع شخص غير دبلوماسي مثل بوريل بصفته أكبر دبلوماسي في الاتحاد الأوروبي” ، وطالب آخرون بأن يقدم جوزيب بوريل بصفته بستانيا عنصريا في أوروبا، “استقالته واعتذاره لأولئك الذين يٌسمون الغابة”.
ولعل سائل يسأل لماذا تلك التصريحات ، والتي حملت ” العجوز ” بوريل ” بالهذيان ” وبأسلوب فج وسافر ، والجواب يكمن انه في الآونة الأخيرة، عقد الاتحاد الأوروبي، ومجموعة السبع الكبار، وحلف شمال الأطلسي قممهم الخاصة ، حيث بدا أن كل شيء يسير كالمعتاد؛ لم تظهر ذرة واحدة من الأدلة على نية إجراء استعراض مقبل للسياسات المتبعة ، وفي الوقت نفسه، فإن أسوا سيناريوهات تجدد حالة “جيه بي مورغان” لأسعار النفط هو ارتفاع هائل قد يصل إلى 380 دولارًا للبرميل إذا دفعت العقوبات الأميركية والأوروبية روسيا إلى الرد بمزيد من تخفيضات الإنتاج ، في الوقت الذي يخاطب الرؤساء الاوربيين شعوبهم ” بأن زمن الرفاهية قد انتهى ” ، تلك الرفاهية التي بنيت على السرقة والسيطرة على مقدرات الشعوب ، كي يصل اليهم النفط والغاز والكهرباء والثروات المعدنية الأخرى التي تمتلكها الشعوب الضعيفة ، بالأسعار التي يريدونها ، ليضمنوا لشعوبهم هذه الرفاهية على حساب جوع وقتل الشعوب الأخرى .
وعلى ما يبدو أن القادة الغربيين يفضلون الاستمرار في حساباتهم الخاطئة وعدم كفاءتهم وأوهامهم ، وقد اختُزلت سياستهم إلى تنويع آخر فقط من نهج “دعونا نحاول ونر ما سيحدث” -وعلى نطاق عالمي ، وربما اشترى الصيف لهم بعض الوقت، ولكن وبحلول الخريف، يجب أن يستعدوا للحصاد وحساب البيدر ، ومع ذلك ووفقا لماركو كارنيلوس ، وهو دبلوماسي إيطالي سابق ، فانه لا داعي للقلق -سوف يلقون باللوم في كل شيء على كاهل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الطريق، وسوف يصدقهم معظم الناس.
وبحسب خبراء الاقتصاد فإن الاتحاد الأوروبي يواجه أزمة اقتصادية غير مسبوقة تقوده للتفكك أو عقد صفقات وتحالفات ثنائية بعيدا عن التبعية الأمريكية في المستقبل القريب ، وأن هذه الأزمة في أوروبا تمر بمنعطف صعب، وفي ظل إشكاليات الصناعات والمصانع التي تعتمد على الغاز بشكل أساسي ، فأن أوروبا اليوم تدفع ثمن تبعيتها للولايات المتحدة الأمريكية وتعنتها، خاصة وأن واشنطن لم تقم بأي دور لإنقاذ صناعات أوروبا ، ويرون أن روسيا يمكنها أن تساعد بعض الدول في تجاوز محنتها الحقيقة من الجانب الأوروبي، الذي لم يعد موجودا على الأرض، وأصبحت إمكانية تفككه واردة، خاصة أن بعض الدول تتجه لعقد اتفاقيات ثنائية وتحالفات دون العودة للاتحاد.
واسمحوا لنا ان نقتبس من كلمات الدكتور ديفيد ولو، الخبير السياسي والمتخصص في الشؤون الجيوسياسية، بعض من كلماته التي نشرها على “تويتر” ، لأننا لم نجد أكثر وصفا منها للعجوز ” الخرف ” بوريل ، ويقول فيها “غباء رئيس السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، بوريل يلحق به ، وأن هذا الرجل موهوم ويحتاج إلى دورة مكثفة حول الجغرافيا السياسية حتى يتمكن من وضع الأمور في نصابها.. هل حان الوقت لتقاعده؟”.