تم سوقي لأداء الخدمة العسكرية في معسكر تدريب السليمانية الأساسي في منطقة واقعة بين مدينة سنجار وقضاء البعاج على الحدود العراقية السورية. كان ذلك بتاريخ 1/11/1995 حيث الجنود الملتحقين لأداء الخدمة العسكرية آنذاك كانوا من مواليد 1977.
أنا وأحد الأصدقاء من خريجي كلية الهندسة في جامعة الموصل كنا أكبرهم لأننا خريجي جامعة. لكننا التقينا هناك بشخص يكبرنا بكثير، شخص يقف على انفراد مبتعداً عن الجماعة. أثار فينا أنا وصديقي المهندس تساؤلات عن شخصيته الغريبة. فليس من المعقول أن يكون هذا الشخص جندياً ويلتحق مع مواليد 1977. وليس له أن يكون من الخريجين أيضاً فنحن خريجين وهو يكبرنا بكثير كما يبدو.
الفضول دفعنا للتقرب منه والتعرف عليه عن كثب. اسمه عبد الله وهو من مواليد 1957وقد ترك العراق عام 1978 ذاهباً إلى الجزائر لتكملة دراسته الجامعية. درس الهندسة الجيولوجية في الجزائر وتزوج هناك من جزائرية. استقر في الجزائر ولم يعد إلى العراق إلا بعد سبعة عشر عاماً. هكذا أصبح متخلفاً عن الخدمة العسكرية ومطلوباً للدولة لهذا السبب. عاد اليوم بعد أن أصدرت الدولة عفواً عاماً عن الهاربين والمتخلفين وهو الأن يستفيد من العفو وقد تم سوقه إلى هذا المعسكر التدريبي للخدمة عوضاً عن السابق.
كانت لكنته في الكلام مغايراً لنا وهو متأثر باللهجة العربية الجزائرية كما يبدو، الأمر الذي دفع الجميع أن يطلق عليه تسمية عبد الله الجزائري.
يروي لنا عبد الله شيئاً من حياته في الجزائر وكيف كان يقضي العطل الصيفية في باريس. يجيد اللغة الفرنسية بطلاقة متأثراً بسياسة الفرنسة التي اتبعها الفرنسييون في الجزائر والدول العربية التي احتلوها. عبد الله متأثر للغاية بالديمقراطيات الغربية وهو لا يعي لحد اللحظة أنه في بلد في أوج دكتاتوريته.
أطلع عبد الله على المعسكر ونظرات عينيه تسرح في الأرجاء. جذب انتباهه الشعارات الكثيرة التي كتبت على الجدران. ففي حين أن الجندي لا يجد ما يأكله، تجد أن لا مساحة في الجدران لكتابة المزيد من الشعارات حتى أن الجدران كانت غير كافية لاستيعاب الكم الهائل من الشعارات.
بعد أن أكمل عبد الله الاطلاع على ما في حوله التفت إلينا قائلاً:
– الدولة التي ترفع شعارات كثيرة لا تطبقها.
كانت الجملة كافية لأن نعيش نحن جميعاً حالة رعب. فإذا سمع أحدهم ما تفوه به عبد الله سيكون هو في خبر كان وسنكون معه نحن أيضاً لعدم الابلاغ عنه. قررنا أن نفهم عبد الله بشكل سري بأن أي كلام يمس الدولة يكون خطراً جداً وعقابها يكون فوق ما تتصور. وبعد الشرح والأمثلة استوعب عبد الله الأمر وسكت بعد ذلك ولم يكن يتفوه بكلمة خشية العقاب، وأصبح ينظر إليّ وفي وجهه ابتسامة تفيد ألف معنى وتحمل الف عبارة.
الشعارات كثيرة ومن الممكن أن يكتب المرء ألاف الشعارات في جلسة واحدة. حتى أن هناك من ينشأ المئات من الشعارات في خلوة واحدة. الحكمة ليست في الشعارات التي سئمناها نحن أبناء الشعوب المغلوبة على أمرها، بل في تطبيق الشعارات وتحويلها إلى حالة ملموسة.
الشعارات ظاهرة لا نجدها في الدول المتقدمة ذات الشعب الواعي. ففي هذه الدول الكل يعي بأن العمل يكون بالعطاء وليس بالكلمات المجوفة العقيمة. على العكس منها في الدول النامية التي تجد السلطة تقود البلاد والعباد بإنشاء الشعارات الملونة والرنانة التي تداعب مشاعر المواطنين البسطاء دون أي عطاء يذكر.
من الشعارات التي ما زالت عالقة في ذهني منذ أيام النظام البائد، تلك المقولة التي كانت تقول “الحزبي هو أول من يضحي وآخر من يستفيد”. لكن الأمر كان عكس ذلك تماماً، حيث كان الحزبي أول من يستفيد وآخر من يضحي حتى أن المستفيد أيام النظام هو اليوم مستفيد أيضاً. وغيرها من الشعارات التي حفظناها عن ظهر قلب كأسمائنا لنكتشف فيما بعد انها كانت مجرد كلمات للضحك على الذقون.
فالشعارات خاصة بنا وليس لأحد غيرنا، وهي لم تعد تجدي نفعاً كما كانت في سابق عهدها بعد أن اكتشفنا أن الشعارات اخترعت لتجعل من المستفيدين مستفيدين أكثر ومن الخاسرين خاسرين أكثر.
Android’de Yahoo Postadan gönderildi