كنت، وما زلت، أكثر واحد غير مصدق بوطنية مقتدى الصدر ووعوده وشعاراته الأكبر من قدرته على الإنجاز.
وما حدث يوم الخميس 13 تشرين الأول، دليلٌ صارخ على أنه لم يغادر، يوماً، خيمة الولي الفقيه.
ولكن يبدو أن حاجة الحرس الثوري ومخابرات النظام الإيراني إلى مواقفه المتطرفة، وتقلباته، وتصريحاته المشاكسة، وتظاهراته المزعجة، قد انتفت الآن، وآن لصاحبها أن يترجل ويفسح الطريق لأشقائه الولائيين الآخرين الأكثر حظوة لدى الحرس الثوري ليقوموا بأدوارهم المرسومة لهم في الحلقة القادمة من مسلسل اللعبة الإيرانية الأمريكية في العراق والمنطقة.
في آخر تصريح قال مقتدى، “لست ممن يتنصل من المسؤولية، إلا أن ما يحدث في العراق هو ضمن مخطط شيطاني دولي لإذلال الشعب وتركيعه وإحراقه، خوفاً من وصول عشاق الإصلاح الذين سيزيلون الفساد”.
إذن، فقد فهم الرسالة، فأمر نوابه بالاستقالة من البرلمان، دون سبب مشروع ومعقول، مهديا لأشقائه الإطاريين وحلفائهم الكرد والسنة فرصة العودة بالوطن إلى ما قبل انتفاضة تشرين التي كان هو وأصحاب قبعاته الزرق أكثر الذين غدروا بها وذبحوا شبابها.
ونجح عدوه اللدود نوري المالكي وجعله يختار، مجبرا، أن يتقاعد، ويغادر الملعب بصمت، بلا سلام ولا كلام.
عند هذا المفصل لابد من القول بأن من غير الممكن وجود عراقي وطني واحد لا يتمنى أن يخرج وطنه وأهله من دائرة الخوف والقلق والفقر والعمالة والفساد، وأن يكون عهد رئيس الوزاء الجديد خيرا وبركة.
ولكن الواقع الذي جاء به هو نفسه الواقع الذي جاء بمصطفى الكاظمي، وقبلَه بعادل عبد المهدي، وقبل قبلِه بحيدر العبادي، وقبل قبلِ قبلِه بنوري المالكي، ومن غير المسموح له ولغيره بأن يخرج عن حدود المرسوم والمقسوم، حتى لو أراد.
والشعب الذي فرح بنهاية حكم المحاصصة الفاسد الفاشل المتخلف المتواطيء مع المحتل الأول، ومع المحتل الثاني، لن يفرح اليوم بعودته الجديدة بثياب محمد شياع السوداني، خصوصا بعد أن استفاق الشبابُ التشرينون من النوم والخرافة والضلال، وأشعلوا، بدمائهم وأحزانهم وآلامهم، روحَ الثورة على الظلم والفساد والعمالة، وأيقظوا في الجماهير حلم الحرية والاستقلال.
هذه هي المشكلة. لقد قيل الكثير عن السوداني أنه لم يختلس، نعم، ولكن لم يقل أحدٌ إنه لم يكن شريكا ساكتا في حكومات السرقة وقتل المتظاهرين وتجارة المخدرات وتزوير الشهادات.
ألم يتفاءل كثيرون، مثلا، بمقدم عادل عبد المهدي الذي بشرتنا المرجعية وأميركا وإيران والفضائيات والإذاعات والجرائد والأحزاب ذات الولاء الإيراني والأميركي بأن عهده سيكون عصر العراق الذهبي، وبأنه سيكون الحاكم العادل القوي الذي يُخرج الزير من البير، ويقطع دابر الفساد، ويدقُّ أعناق الفاسدين، كبيرِهم قبل صغيرِهم، ويسترجع الأموال التي اختلسوها؟
ولكنه، فور أن خرج شباب طائفته ذاتها مطالبين بحقهم المعلوم في الحرية والكرامة ولقمة العيش أخرج من عباءته سكاكينَه المسمومة، فذبح منهم العشرات، وجرح واختطف وغيَّب المئات.
وبعد أن صمد التشرينيون في وجه ديمقراطية الخنجر والساطور، وأرغموا إيران وأمريكا على ترحيله والبحث عن بديل آخر يُهدّيءُ خواطر المتظاهرين، ويُخدّر أسر المغدورين، جاؤوا بمصطفى الكاظمي الذي خطب، في يوم تنصيبه، كما خطب أسلافه المغضوبُ عليهم والضالّون، فوعد بمحاكمة قتلة المتظاهرين، ومحاسبة المختلسين، وضبط سلاح المنفلتين، واستعادة هيبة الدولة وسلطة القانون، ولكن عندما أهانه المسلحون سكت، وحين هددوه بقطع أذنه صمت، وحين قصفوه بالصواريخ لاذ بالفرار.
لا كان إيرانيا خالصا فيَرضى عنه الولي الفقيه وينجده وقتَ الشدة، ولا صار أميركيا كاملا، قلبا وقالبا، لتحميه أمريكا بنفوذها وأموالها وجواسيسها من كل سوء.
ثم حدث القصف الإيراني الأخير لأربيل، فأوقعه في شر حساباته الخاطئة. فقد احتج على القصف، وطالب الأمم المتحدة بمعاقبة المعتدين الذين انتهكوا السيادة الوطنية، فكان كمن سب العنب الأسود الإيراني، وحق عليه القول، وكان من المُغرَقين.
فقد خرج عليه إخوته الحشديّون فأهدروا دمه الرئاسي، وتعهدوا بإسقاطه، وبعقابه أشد عقاب. وفي أعقاب اندلاع ثورة الحجاب الإيرانية، وبعد فشل مفاوضات النووي، لم تعد لإيران حاجة إلى وساطاته لدى أمريكا والسعودية ومصر ولا إلى خدماته التي لا تعد ولا تحصى.
فقد صدرت الأوامر العليا بتغيير طاقم الدولة كاملا، وبتنصيب رئيس جديد للجمهورية لا يشاكس ولا يعاكس، وبرئيس وزراء من عظام رقبة حزب الدعوة، ومن حاشية نوري المالكي تحديدا، نكاية بمقتدى وبالتشرينيين، وتهديدا وتلويحا لهم جميعا بأشد عقاب.
وكما فعل أسلافه ظهر المكلف برئاسة الحكومة على شاشات التلفزيون ليعد رعيته بجنة الفردوس، وبالأمانة والصدق والنزاهة والقوة والشجاعة، وبأن يكون الفارس الآتي على حصانه الأبيض لينقذ هيبة الدولة وسلطة القانون.
ناسيا أن أبسط مواطن عراقي، عربي أو كردي، شيعي أو سني، يعرف أنه جاء بصفقة مختار الإطار، نوري المالكي، ومختار الكرد مسعود البرزاني، ومباركة السفير الإيراني والسفيرة الأمريكية في العراق. وأن من حوله خطوط عرض وطول هو مجبر على أن يدور داخلها، دون جدال ولا نقاش.
ولا يشك أحد في شطارة الإيرانيين في ضبط أمور التعيينات في الوظائف الصغيرة قبل الكبيرة في العراق، لضمان أمنهم واستقرار احتلالهم.
فإذا كان الذي يمسح أحذية رئيس الجمهورية، صباح كل يوم، واحدا من جواسيس الحرس الثوري والحشد الشعبي، فمن المؤكد أن يكون مدير مكتب رئيس الوزراء والقائد الأعلى للقوات المسلحة وأفرادُ حمايته ومرافقوه من نفس الطينة وبنفس الواصفات.
إذن، فالذي انتصر يوم 13 تشرين على كاكه برهم ومقتدى الصدر والتشرينيين وملايين العراقيين هو نوري المالكي ومسعود البرزاني ومحمد الحلبوسي وخميس الخنجر وهادي العامري وقيس الخزعلي وعالية نصيف وحنان الفتلاوي.
فهل يفعلها التشرينيون فيحررون هذا الشعب الأسير، في يوم قريب، أم ننتظر الشعب الإيراني ليحرر نفسه ويطلق سراحنا، نحن العراقيين؟.