18 ديسمبر، 2024 8:45 م

المشهد داخل ايران والعراق

المشهد داخل ايران والعراق

كتابة : نصيرا شارما
ترجمة : وليد خالد احمد

مازلنا نتذكر شهر ايلول1980 ولياليه الطرية المنعشة عندما وقعت الضربة الاولى على مجمع الصلب في اصفهان ، وكانت الضربة من الشدة بحيث اوجدت رعباً ايقظنا جميعاً ، وكانت العوائل الايرانية الموجودة حيث كنت اسكن ، تقطن دار مقسمة حسب ولاآتهم السياسية ، فالرجال مع شايهم المغلي على ( السماور)، جلسوا في الساحة المكشوفة مغطين اجسامهم بغطاء دافيء خفيف ، ويتبادلون الاحاديث المرتبطة بالحياة اليومية ومطاليبهم الصاخبة في عودة شاهبور بختيار الى السلطة وعواقب طرد خميني . وكانوا يعتقدون ايضاً بأن القصف والهجمات الجوية كانت من تدبير المنفيين الموالين للشاه والقوات المسلحة العراقية ، وذلك لتحرير ايران من قبضة المتعصبين . اما مجتمع النساء على العكس يعتقدن بثبات ايران تحت حماية الخميني سوف لاتطأطئ رأسها .

وفي اول ايام شهر (مهر) عندما فتحت المدارس كان الجو مناسباً لعودة الاشاعات القوية التي تدور حول عودة شاهبور بختيار والملكيين مرة ثانية الى السلطة ، واحتجاجاً على هذا ، فأن الحزب الاسلامي الجمهوري نظم موكباً كبيراً من الأفاطفال المدارس لاظهار دعمهم الكبير الى نظام خميني . وبالنسبة لايران فأن الحرب كانت لهم تجربة جديدة ، فالمشهد معقد وخاصة بعد ما تحرر الشخص الايراني الاعتيادي من ارهاب حكم الشاه الذي دام خمسون عاماً، ولم يتحقق امراً كالذي حدث فجعلهم متوقدي العاطفة ، وذهبت السلطة الى رجال الدين والمهتدين الذي كانوا يقدمون الى الشعب من خلال وسطاء غرباء قبلاً .

انا المثقفون فكانوا مشغولين في تتبع دراساتهم وتعليمهم وتأليف كتبهم لكنهم كانوا متفرقين كثيراً حول البرنامج الايدلوجي . اما التقدميين والماركسيين فأنهم منقسمون الى مجموعات صغيرة جداً تبلغ اكثر من (25) مجموعة وحزب ، كانت الجماعات الاسلامية ايضاً متعارضة باختلافات عدة مع الاحزاب الكبرى كالحزب الجمهوري الاسلامي ( جمهوري اسلامي) و حزب المجاهدين ، والفدائيين وحزب توده وغيرها من الفروع والوحدات الاخرى .

ان السواد الاعظم في ايران يعتقدون اعتقاداً راسخاً بأن العراق هاجم ايران في وقت كانت فيه خارجة تواً من ثورتها ، ومن خلال الاذاعات الوطنية والخطب الرسمية والاعلانات المعلقة والصور الكارتونية كانت تشير الى ان الملكيين سوية مع المخططين الامريكان تآمروا مع صدام حسين بشن هذا الهجوم لابعاد الدينيين عن السلطة . وكانت سنة 1979 ، سنة هامة لكل من ايران والعراق حيث حدثت تغييرات كثيرة فيها ، كخروج الشاه ومجيء الخميني مع موجة من المتعصبين له ، الذين ادخلواايران الى مجال قويم الرأي والفكر. وكان مجيء صدام حسين الى السلطة فاتحة عهداً من التمدن والتنمية في العراق كما حدث فيها عهداً خلق بذور النزاع بين الجارين . وكأن هناك انبثاق اسلامي كبير في ايران ، فكان الشباب الايراني متدفق العاطفة وكانت هناك روحية وغيرة وحماس نحو الاسلام والوطنية الايرانية واصبح من المألوف ان ترى عجلات محملة بالايرانيين ينشدون شعار ( انا ايراني ومطمحي الشهادة).

وفي وسط ذلك الجو المتهيج ، كانت بداية الحرب هي المؤشر الذاتي نحو اندماج آخر لكافة طبقات الشعب ، فأنها قدحت حماساً عظيماً وطاقة لاطلاق شرف الامة يصاحبه طموح قوي نحو تصدير الاسلام الى ماوراء حدودهم. ففي اثناء الايام الاولى من الحرب ذهب الاف من الحجاج الايرانيين الى مكة للحج لكي ينشروا اسلام الخميني حاملين معهم التصاوير الكبيرة له بايديهم صارخين بشعارات لاجل الخميني . فسَببَ ذلك لهم الاصطدام مع الناس الحجاج ولولا حضور الشرطة وسيارات الاسعاف الذين تدخلوا فيما بينهم لتوسع الامر وقد فسروا ذلك على ان السعودية ماهي الا عميلة لامريكا ولايسعها تَحُمل الخميني واسلامه.

وكان هناك جو حرب شاملة في المدن والقصبات الايرانية وكان الشباب مصمماً على دفع العدو الى الوراء ، وكان ( الملالي) يحثون الجماهير ويثيرونهم ويطلبون من كل قادر على حمل السلاح ان يذهب الى الجبهة وكان المشهد مختلفاً تماماً عما كان في عهد الشاه وماصاحبه من فيض كبير في التمدن واكتساب الروح العصرية الغربية . وكانت الجماهير المزدحمة نافذة الصبر في رؤية اسماء اخوانهم واقربائهم وابائهم على قوائم الشهداء في الحرب ، وكان ذلك مشهداً بديهياً امام المراكز الصحية ، كما وان المتطوعين للحرب وباعداد لاتحصى ينتظرون دورهم امام مقرات الجيش كما كانت الجماهير موجة بعد اخرى تضع نفسها تحت تصرف الحكومة لكي تستشهد في الجبهة وتكسب اكبر شرف وطني يمكن ان يتصوره انسان في تلك الايام الاولى للحرب.

ففي سنة 1979 كنت اتردد كثيراً على طهران عندما بلغت الثورة شفا ضم الشعب كله ، ومازال الشاه موجوداً على رأس السلطة ، واثناء تلك الاوقات كان التلفزيون يعرض نهجاً غريباً يتكرر عدة مرات وربما كان له علاقة بطرد الشاه فقد صورا الشاه في البرنامج على انه ذاهب الى الحج ، وتجمع الاف الايرانيين في مطار مهراباد في طهران لتحيته ، ومن المحتمل انني تمكنت ان اخمن بأن الملكيين كانوا على علم بأيامهم الاخيرة ومتأكدين من ان امريكا لاتريدهم بعد الآن ، ويمكن ان تحل محلهم جماعة دينية من الشعب تحجب جهود حزب توده من المجيء الى السلطة برفقه الاتحاد السوفيتي ، فقد اعلن مجيء الخميني الى السلطة كرمز للثورة الايرانية وكانت كافة المخازن والحوانيت والاماكن العامة وحتى السيارات تلصق تصايره وكان من المحرم على احد ان يسأل عن سلطته فقد صور وظهر كأنه مسيح مخلص عظيم جاء لتحرير ايران من قيود ( الشيطان الاكبر وبعد ان انفصل الايرانيون عن الشاه المعزول تجمعوا حول الخميني وشرعوا في صب اداناتهم وشتائمهم على صدام حسين ، ولم يكد يمر شهراً واحداً على قصف اصفهان حتى قصف مطار طهران واصيب باضرار جسيمة بالقنابل وعزل عن باقي انحاء العالم ولم يكن بوسع اية طائرة ان تطير او تحط فيه ، وكان بوسعي ان اشاهد الكراهية المتزايدة نحو العراق ونحو صدام حسين ومايصاحبهما من حماس نحو صيانة الشرف القومي فجذب ذلك الامر الضباط والجنود حول الخميني اما النساء من جميع قطاعات المجتمع الايراني فكن قليلات الصبر ومتشوقات لرؤية ايران منتصرة.

اما الطبقات الفقيرة والمتوسطة فكن يصلين جماعات للنصر الايراني وتقدم الهدايا كالبلوزات واللفافات والملابس للجنود في الجبهة سائرات بمواكب طويلة في شوارع طهران . وكان بوسع الاغنياء التضحية بمقتنياتهم الثمينة قدموها للشعب لادامة القتال . اما روحية المتعصبين الدينيين فقد اندمجت بالايرانيين من جميع الاصناف لقتال المعتدين وكان يحلمون برفع علم الجمهورية الاسلامية ترفرف على منطقة واسعة تمتد من الصين الى اسبانيا مرة ثانية بعد مرور 1400 سنة .

فقد كشف الشيخ علي طهراني نسيب رئيس الجمهورية خامنئي علنا الستراتيجية الامبريالية الكبرى للنخبة الحاكمة في ايران حين قال ( بأن رفسنجاني رئيس الحزب الجمهوري اخبره بأنه من المستحسن جداً ان نملك العراق ونسيطر على احتياطاته النفطية الوفيرة حيث ان ذلك يجعل من ايران بلداً كبيراً ذي (60) مليوناً من السكان مع اكبر احتياط نفطي في العالم وسنكون اعظم قوة في كافة انحاء الشرق الاوسط.

وعلى الرغم من الاسناد الامريكي المقدم الى بعض الاقطار كالسعودية فأنها لابد وان تستسلم وتخضع الى قوتنا لانها شبيهة بعنقود عنب ناضج سيهوى في احضاننا هو وباقي دول المنطقة . وعلى الرغم من كل هذا التصعيد والارتفاع المفاجيء، فقد كان هناك جماعة في ايران متحمسين لاندحار ايران لان ذلك يسبب بالضبط اندحار المتعصبين الحاكمين . اما الخميني وحكومته فقد كانوا حريصون ومتحمسون على البقاء بعد هذه الحرب ، وان مقاييس صداقتهم وحسن علاقاتهم هي الدعم الشفوي الذي يقال لهم او بخلاف ذلك دعمهم في الحرب من قبل اقطار اخرى فقد كانت الحرب هي عصا القياس لشعبيتهم بين الايرانيين.

ولقد تًمكنتُ من زيارة جبهة القتال وقابلت عدة طيارين ايرانيين وكان الحديث معهم ممتعاً  ، فقد قال لي احدهم بكل جدية : انه كجزء من تمارينه اليومية المقررة هو الطيران ورمي قنابل على الارض العراقية ، وقال بعضهم اننا نطير بكل تكريس بعد صلاتنا وقراءة القرآن بينما العراقيون يقاتلون والشراب في ايديهم فأنظر الى الاعلان المعلق على الحائط لترى ان بطل الشراب في ايديهم ومغطى بالمناديل .

وكان محتماً على الخميني ان يقاتل في هذه الحرب لعدة اسباب رئيسية فحزب توده يمكنه ان يقدم له دعماً كبيراً في قيادة بعض التحركات الستراتيجية دبلوماسياً او سياسياً وبذلك تتمكن سوريا من تقديم الدعم المباشر له ضد العراق ، وبذلك يعرقل ويضع حملاً ثقيلاً على وحدة كل العرب.

ففي بداية الحرب اكتنف جميع انحاء ايران ليلاً ظلام دامس وذلك لانقاذ مدنهم من قصف العدو . ومهما كانت انباء الهجمات الجوية الناجحة التي قام بها الايرانيون فأنها كانت تسمع بالراديو وعلى الفور تجد المدينة باجمعها اعتادت ان تردد اصوات النصر صارخة بنداء ( الله اكبر ، الله اكبر ) . اما البيوت التي لايسمع بها صدى هذا النداء فكان يعتقل اصحابها ويعتبر ذلك البيت ( بيت الخائن) . وقد كتب في كل مكان بأن التجسس على الغير ضروري لحماية الاسلام وعند سقوط القنابل كان الناس يتراكضون الى السراديب السفلى لحماية انفسهم من الهجوم الجوي . وكان بعضهم يبدو مضحكاً وهو يركض ورغوة الصابون او الشامبو مازالت على شعره وبعضهم يغطي جسمه بمناشف الحمام والاخر يحمل بيده اللباس والفانيلة وهو يحاول ايجاد زاوية يرتديها فيه ، واظرف مافي هذه الحوادث حالة الارملة التي استقبلت ضيوفاً من الرجال فبسقوط قنبلة يهرع الجميع الى السرداب تحت الارض ، ولكنها لم تتمكن من ان تقرر ما اذا ستقدم الى الضيوف ، فقد كانت ترتجف رعباً خشية ان تكون تحت الحطام في حالة سقوط البناية وخشية ان يشك بامرها في انها تسكن مع رجل او رجال طول الليل ، ومن المخيف جداً ان يعثر بهذه الصورة دون عقد زواج وعلى الشخص وفي هذه الحالة ان يحمل معه بطاقة الزواج في حالة الاستنطاق من قبل الحرس الثوري الاسلامي ( الباسدران) وبخلاف ذلك ستكون النتيجة الجلد بالسياط او الشنق ولايفيد في هذا الموقف اي تفسير . وحدث في حالات عديدة ان لم تنفجر القنابل العراقية فيكون ذلك رصيداً للتأثير السحري والقوة الالهية لدى الخميني ، وعلى عكس ذلك ايضاً يقال عندما يكون الله منزعجاً فقد يحدث زلزال متكرر . ومن المثير الى الدهشة انه منذ مجيء الخميني الى السلطة حدث مالايقل عن ثلاثة هزات ارضية في ايران.

وفي كل يوم جمعة تقام في جامعة طهران صلاة الجمعة يحضرها ويؤمها الرئيس خامنئي او على رفسنجاني يخاطب فيها الجماهير يحثهم فيها ان يحيوا حياة ملؤها الكبرياء القوي ونتيجة لذلك يطلب منهم ان يقدموا التبرعات سواءٌ بالمال او المواد العينية للحرب . اما القادرون على القتال فعليهم التطوع للحرب . وقد امتلأت طهران بالمهاجرين القادمين من خوزستان وهم يتتبعون بنظراتهم اسرى الحرب القادمين من سوح القتال . وهناكمؤسسة ترعى شؤون اللاجئين يديرها اية الله كاروبي وقد قابلته وتناقشت معه وقص علي انباء (70) الف عائلة مرحلين عن مناطقهم السكنية وترعاهم الحكومة.

اما الشرطة الايرانية فقد ورثت خلفيات التدريب ( الشاهي الامريكاني) وكانت على وجه الدقة مكروهة من قبل الخميني لذلك فقد كان الحرس الثوري يقوم بواجباتها او يعطلها عن اعمالها وجعلها غير فعالة وقد جرت تطهيرات في القوات المسلحة وعلى الخصوص في كبار ضباط البحرية الذين كانوا يرسلون تباعاً الى المشانق بتهم واهية حول اشتراكهم في مؤامرات موهومة ضد حكم المتعصبين وقد اغلقت الجامعات بحجة انها تدخل الثورات الثقافية اما البنوك فقد افرغت حيث ان الناس لايثقون بها كثيراً او قليلاً كما لايثقون بالحكومة ولم يروا من الامانة وضع نقودهم فيها حيث لايوجد وعد من الحكومة بحمايتها وبدلاً من ان تودع النقود في البنوك فقد سحبت الى المؤسسات المختلفة التي كانت تحت قبضة المتعصبين واصبح الحرس الاسلامي قادراً على كل شيء سواء في المحلات الحكومية او العامة او القوات المسلحة واصبح نفوذهم متسلطاً على طول البلاد وعرضها . وقد ادانت الحرب لاول مرة رابطة الكتاب التقدميين فجابهوا بسبب ذلك نتائج خطيرة على شكل هجمات مباغتة على مكاتبهم وطرد قادتهم منها بالقوة واعدم قسم منهم . ففي شهر مايس 1980 ومابعده كانت هناك حملات علنية لتصفيتهم.

وقد كان هناك قتال مميت بين (المجاهدين ) والحكومة ، كان يلقي القبض على المئات كل يوم ويقدمون للتعذيب والاعدام اما على جبهة القتال ولاسيما في خوزستان فكان نادراً مايتلقى اعداد كبيرة من الجرحى العناية الطبية اللازمة وحتى لم يدفن القتلى الا نادراً ما ، وكان معظم اقليم خوزستان عبارة عن بركة آسنة تحتوي على جيف كريهة الرائحة وقذرة للموتى في كل مكان اما على شاشة التلفزيون فكان على الاغلب يظهر الاسرى العراقيون وهم يتعرضون لاستجوابات قاسية لكن تأثير تلك البرامج التلفزيونية فكان مختلفاً عما ينتظرمن الناس. اما النساء فقد انتقدن بعنف وقسوة واسى هذه الحرب وكان الاطفال يريدون التأكد هل ان امهاتهم سوف يحضرون الزهور على قبورهم فيما اذا قتلوا في جبهة الحرب.

وكان صدى نداء الشهادة يعرض بطرق مختلفة لحفظ معنويات الاهالي عالية للقتال في الحرب فقد علقت الاعلانات والرسوم الكبيرة بوفرة على الجدران وعلى مواكب الجنائز والعزاء في شوارع القصبات والمدن وهي في طريقها الى المقابر وكان هذا هو الاسلوب النموذجي في ايام الحرب الاولى ، لكن الروحية والحماس قد تبخرت الآن واصبحت عابسة منهوكة في قتال حرب الاستنزاف . واني اذكر جيداً عندما حدث ان زرت احد المستشفيات حيث تمكنت من تشخيص نمطين من الجنود . احدهما يرغب بشدة في قتال العدو  حسب وصية واوامر الخميني والاخر متمدد على فراشه عابساً ومعه زوجته الحزينة او مع امه اللتان تتخيلان المستقبل المرعب لولدهما . وقد عرض عليّ رؤية اجساد عراقيين موتى فافهموني بأنها اجساد روس يقاتلون من اجل العراق.

وقد قابلت بعض الملالي الذين يخالفون سياسة الخميني ويمكنني ان احدد روح الموقف بأن الخميني يعتقد في خلق ايران جديدة باسلامالخميني وفي رأيه ( ان الاجيال الكبيرة فوق سن الثلاثين عديمو الفائدة . اما تحت الثلاثين فهم مزيجمختلف ، ومن المعقول ان يكون وراءه مليون تابع حقيقي من بين الـــ (48) مليون ايراني . ففي (جمران ) حيث يعيش الخميني تجد الحرس الثوري باعداد لاحصر لها ومعظمهم من اصل ريفي ويحمل كل منهم بندقية على كتفه قائمين على حراسته فقد ذهب الآلآف منهم الى جبهة القتال ورابط (50) الف من جنود التعبئة عند الحدود لكنهم لم يخترقوا الحدود نحو العراق ، ومن العجب ان نستفهم انه لماذا لم يأمرهم الخميني للدخول في الاراضي العراقية ، فعلى الجدران في طهران بدلاً من ان تجد شعارات (الموت) او ( الخميني ) او ( النصر) تجد شعار ايقاف اطلاق النار تلفت نظر الزائرين . والخميني وحكومته على علم تام بأنهم ليسوا قادرينعلى القتال الى الابد . وحتى هذه اللحظة فالخميني ليس متأكداً من اخذ ثأره المعلن بسبب قصف الاهداف النفطية من قبل العراقيين وذلك بغلق مضيق هرمز فالحزب الحاكم لايمكنه البقاء على قيد الحياة مثل منطق الحرب هذا فقد بلغوا هذا الحد لان المعارضة كانت غير موحدة وقد اثر التضخم المالي كثيراً على الرجل العادي ومن الواضح انه اصبح من الصعوبة بمكان المحافظة على استمرار القتال لكي يبقوا في السلطة والحزب الحاكم على علم ايضاً عن حقيقة ان افراد الجيش القديم اخذوا يزدادون قوة لدرجة يمكنهم معها ان يؤلفوا تهديداً حقيقاً الى الخميني وحكومته.

ففي لقاء مع (بني صدر) رئيس الجمهورية الاسلامية السابق في باريس انه وصف الخميني على انه (ملا داهي) اي انه ملا خشن خام وساذج واشار آية الله ( كانجي ) في باريس ايضاً على طبع الخميني الذي لايلين والذي لايقبل مطلقاً ان يحجب نوره ملا آخر وبهذه الاسباب لاق مصيره كل من (تلغاني) و ( شريعة مداري) وفي لقاء آخر مع ( موسى الموسوي ايراني) ممثل الشيعة في الولايات المتحدة شعرت انه يعتبر الحرب مع العراق عديمة الفائدة على ضوء ماعرضه العراق من رغبة في قبوله للمطاليب الايرانية ، كما وان رئيس الوزراء المتوفي   ( محمد رجائي) في لقاء معه في طهران سنة 1980 انه كان يستفسر عن معنى ايقاف اطلاق النار حيث انها كانت بالنسبة اليه ليس ايقاف ورمي الاطلاقات فقط بل وايقاف الاعتداء وغيرها من القواعد مما جاء به القرآن والاسلام والخميني وكلها امور هامة ، وان صدام حسين يجب ان يوافق على مايقوله الخميني وعندئذ فالحرب تضع اوزارها . وفي مقابلة للامام المقبل ( منتظري) في قم ، ادلى بحقائق معينة حيث قال بأن هذه الحرب افسدت مناهجنا حيث ان النفط هو مصدر مفيد لكل قطر اسلامي وان الشعب انهك كثيراً وهو يريد ان تنتهي الحرب حالاً سواءً اكان الخميني حياً او ميتاً واننا نتحمل اي انسان آخر ولكن ليس الخميني.

وقد قابلت في ايران بعض الاسرى العراقيين كما شاهدت بعض الموتى منهم ولكن عندما ذهبت الى العراق كنت ادرك بأن كلما سمعته في طهران كان غير صحيح . فأن بغداد وبعض المدن الكبيرة كانت تعيش حياة اعتيادية رغم حرب الاستنزاف ولايسع احد ان يشعر بالحرب الا من خلال الراديو والتلفزيون فقط ، لكن المدينة لم تعط اي دليل على واقع استمرار الحرب طيلة الخمسة والاربعون شهراً الماضية وقد حضرت المؤتمر الشعبي الاسلامي الذي ضم اكثر من (300) ملا وممثلين عن الهيئات الاسلامية ومراسلي الصحف والصحفيين فصوتوا بالاجماع على ان الخميني يجب ينصاع لايقاف اطلاق النار ، لكنه رد على ذلك بتسمية المؤتمر بـــ( مؤتمر الشياطين) ورفض باختصار كل جهود صدام حسين في ايقاف اطلاق النار . وقابلت في هذا المؤتمر (ملا) من سوريا وعندما سالته عن ايقاف اطلاق النار اجاب قائلاً( بأن اولئك الذين يعملون ماوراء المعتقدات الاسلامية ( كفاراً) واذا مارفض الخميني ذلك فأن العالم الاسلامي في هذه الحالة سوف لايعترف به كرجل اسلامي ، اي ان ذلك يعني انه كافر ) وكنت مؤخراً في بغداد في شهر مايس 1984 وكان بوسعي ان اتحسس بأن العراقيين اصبحوا غير ميالين الى القتال بدلاً من شعورهم بأن هذه الحرب مفروضه عليهم ، ومن هذا الوقت فأنهم قطعوا شوطاً اقتصادياً بعيداً في سبيل التمدن وان مرتسم خط الافق في بغداد وغيرها من المدن في تبدل مستمر بسبب فعاليات الاعمار الظاهرة للعيان . والحكومة العراقية لاتريد اطلاقاً ايقاف مشاريع التنمية زمن الحرب ، واني ارغب مخلصة في ان تنتهي هذه الحرب ، فعلى جبهة القتال في منطقة البصرة قابلت القائد ( ماهر رشيد) وتمكنت ان احرز مدى حراجة القتال في الحرب ضد الموجات البشرية من الصبيان الايرانيين والاطفال الذين ارسلوا الى الحرب وقال ( نحن هنا موجودين لنحارب في سبيل شرف وأمن وطننا ولايسعدنا الترحيب بمقدم العدو بالرياحين والزهور).

ولقد اتفق مسعود رجوي وطارق عزيز منذ سنتين على ان العراق سوف لايهاجم بل سيدافع عن نفسه فقط ضد هجمات الايرانيين . اما الايرانيين في ايران فأنهم يمطرون رجوي بوابل من الحنق والاستياء وقد كان لي موعداً لمقابلة رجوي في باريس منذ مايس 1983 وخلال استعراض طويل للحوادث لمح على ذلك الاتفاق وقد اخبرته بأن الشعب الايراني كان منزعجاً منه بسبب مثل هذا النوع من الاتفاقات لكنه اجاب بحده انها ليست الا اكذوبة الذين يتكلمون بصورة غير مسؤولة امثال من لم يذهب اولادهم واخوانهم الى ساحة الحرب.

وكان بني صدر يذم ويندد بالخميني لانه كان يرسل الى جبهة القتال وتحت رحمة نيران القنابل اناس لاسلاح بأيديهم وفي لقاء مع ( علي رفسنجاني) معي طالب بغرور وكبرياء بأن صدام حسين يجب ان يوافق على شروطنا حيث لاتعوزنا القوة البشرية ويمكننا القتال حتى النهاية اما العراق بملايينه الاربعة عشر فكان يقاتل ببسالة طيلة سنوات الحرب … ففي كل دائرة ومن كل مكان من العراق تقدمت النساء الى الطليعة للتعويض عن غياب الرجال الموهوبين في جبهة القتال والذي يحافظون عن شرف بلادهم.

ولقد تمكنت من مقابلة وزير الثقافة والاعلام لطيف نصيف جاسم مرتان وسألته سؤالاً مباشراً عن طرد مليون ونصف ايراني كانوا يسكنون العراق فبعد ذلك انهم كانوا يتآمرون ضد المصالح القومية العراقية ، وحول سؤال آخر وجهته اليه فيما اذا كان العراق هو المعتدي ويرى الملالي ان المعتدي في الاسلام يجب ان يعطي درساً قاسياً في القتال بالحرب حتى النهاية فأجاب ( لم نكن نحن المعتدين يريدون تصدير اسلامهم عبر الحدود فلو كنا نؤمن بالاعتداء لما التمسنا ضياء الحق رئيس الجمهورية الباكستانية للقيام بمهمة ايقاف اطلاق النار . ونحن لنا ثورة ايضاً ولكن لانقصد ان نعرضها على احد من جيراننا) وفي باريس 1983 اخبرني بني صدر في باريس بأن الخميني لايعطي اهمية للتقدم والحرية والالتحاق بالركب الحضاري وانه بعيد كل البعد عن مثل قيم الحياة هذه ، وكان ذلك واضحاً في ظرف الدمار الحالية في ايران ولو نظرنا الى روح التطور في العراق لادركنا فيه عكس مسببات الوضع في ايران وعكس الصلابة الخمينية وتعصبها ولايوجد ادنى شك بأن العراق قاسى وتحمل من اجهاد التضخم وبعض الاثار الجانبية لحرب الاستنزاف الطويلة لكنها لم تؤثر في نفسية العراقي . وبالكاد احداً صادف ان التقي بموكب جنازة شهيد ولاحظ الصراخ والعويل على الفقيد … والكل مشغول بواجبه . ففي المنهج الايراني الذي يعرضه الراديو والتفلزيون العراقي يمكن للعراق ان يساعد الايرانيين الخائبين للمجيء عبر الحدود لكي يغادر في النهاية بسفره الى السويد مقرونة باللجؤ السياسي وقد قابلت اسرى حرب ايرانيين في معسكر الرمادي في العراق وكان بعض الاسرى صبياناً يتصرفون كالمؤيدين الاوفياء للخميني وبحثت مع آخرين عن ضرورة حرب مثل هذه لاسيما مع العراقيين المؤمنين بالاسلام والذين ولدوا حيث ولد معظم اولياء المسلمين وانبيائهم … فيقولون ( اكان الخميني يسمى نفسه الامام الثالث عشر وهو الذي يفوق علينا اسباب الشهادة ويعطينا مفاتيح الجنة لكنا كنا نشعر بجد لماذا لم يرسل اولاده الى السماء مع المفاتيح لقد كنا مخدوعين فلماذا هرب الشيخ علي طهراني من ايران ؟ لانه كان يؤمن بالاسلام الصحيح ولذلك عزم على ترك الخميني … ونحن نشعر بالخجل عندما نقول لانفسنا اننا مسلمون كما يقول الخميني عن نفسه انه مسلم .

كانت تترواح اعمار اولئك الاسرى مابين (10) سنوات و (16) سنة وقد مكثوا في معسكر اسرى الرمادي لمدة ثلاث سنوات وقد ملوا دجل الخميني وطلاسمه واسلوبه في الاسلام وقد سألتهم مادمتم لاتحبون الخميني وفلسفته فلماذا لاتخرجوا وتقاتلوا ضده فقالوا نحن ايرانيون ولا احد يثق بنا هنا مع اننا حاضرون لقتال الخميني ونظام حكمه ونحن نحرص على ان نرى ايران سليمة ونفطها سالم وان يبقى اقتصادها مصان وعندئذ سوف لانضجر من الملالي بعد الآن فلماذا لاتأتين هنا وتصبحين قائد لنا لقتال الخميني . بهذه العبارات تكلم على رحماني من تلقاء نفسه خلال شهر مايس سنة 1984 في معسكر الرمادي اما اليوم فهو المسؤول عن معسكر الرمادي وقبل ثلاث سنوات كان عريفاً في القوات المسلحة الايرانية والتمس منى ان ارسل هذه الرسالة الى العالم : ( يا ايها الامهات لاترسلوا اطفالكم الى الحرب فأنها حرب لا فائدة منها ، فنحن نقاتل اخواناً يدينون بنفس دينناً ويحملون نفس الكتاب المقدس الذي نحمله ويصلون مثلنا نحو الكعبة ويا أيها المعلمون لاتضللوا الاطفال في المجيء الى الجبهة لأن هذه الحرب ستجعل من ايران مقبرة كبرى).

ان زياراتي المستمرة والمكوث مدة طويلة في كلا البلدين مكنتني من كشف حقيقة مهمة واحدة وهي ان هذه الحرب هي من صنع القوى العظمى فهي تستهدف الحصاد على حسابها وان المثقفون لايحبون هذه الحرب وان هذه الحرب ستستمر رغم ادانتها في جميع انحاء العالم . ولماذا لاتنتهي ؟ والجواب على هذا السؤال هو ان الايرانيين وحدهم هم الذين سيوقفون الحرب ، والايراني نفسه وهو الذي تمكن من انزال الخميني من على الطائرة على اكتافه في مطار مهرباد وحمله الى مركز المدينة في طهران عند عودته الى البلاد في شباط 1979.

الهوامش

الكاتبة نصيرا شارما ، خبيرة في الشؤون الايرانية ومنطقة الخليج العربي.
اود لفت انتباه القارئ ، الى ان المادة كتبت فترة الحرب العراقية الايرانية ، لذا ارجو مراعاة الظروف الزمانية لطرح الافكار والتحليلات التي جاءت بها المادة … ولا اهمية الافكار الواردة فيها وعمق فائدتها في كتابة تاريخ هذه الحرب ، ارتأيت ترجمتها اعماماً للفائدة . المترجم .
الفت الظر القارئ الى اني للأسف لم اجد ضمن ارشيف ترجماني نص المادة الاصلي بلغته الاجنبية حتى اتمكن من توثيقها ايراد اسم المطبوع المنشورة فيه ورقمه وتاريخه كما هو متعارف عليه في توثيق المرجع التي احرص عليها.

13