18 ديسمبر، 2024 9:19 م

في ذكرى وفاته الـ 52 : زعامات خاصمت عبد الناصر

في ذكرى وفاته الـ 52 : زعامات خاصمت عبد الناصر

اثنان وخمسون ايلول مضت على غياب جمال عبد الناصر (ت 28/ ايلول/ 1970)، لعل النفوس بعدها قد هدأت والجروح قد التأمت بالقدر الذي يسمح للباحث ان يقلب بسرعة احوال ووقائع الحقبة العاصفة، لينتزع منها ابرز الشخصيات والزعامات التي سعت جهدها لمخاصمة عبد الناصر، او وجدت نفسها متورطة رغماً عنها في مواجهته. ثم ينفض غبار الزمن عنها في محاولة لسبر اغوار نفسية وسياسية في حياة وفكر ومواقف هؤلاء الرجال، بعضها ما زال مجهولاً ولكنها تكفلت كلها بقيادتهم الى الصدام معه.
– هل اكتشف عبد الناصر وعيه القومي بأمته العريضة قبل ام بعد ثورته؟
من الظلم لناصر اتهامه بالانتهازية السياسية والزعم بان مصلحة نظامه عرَّفته بهويته القومية. فهو خلافا لسائر زملائه في قيادة الثورة، اكتشف وعيه القومي مبكراً. عرف الانتماء في ساحة اللاشعور العميق بحكم انحداره من قبيلة بني مر الصعيدية المهاجرة منذ قرون من شبه الجزيرة العربية. ثم تنامى الوعي اليقظ للضابط الشاب بالقراءة السياسية المستمرة التي نبهته لحقيقة ازلية، وهي ارتباط مصر بالمنطقة المحيطة بها. فاذا قوي الارتباط تعزز الاستقلال الداخلي واستقر، والعكس صحيح. ثم صلته المستمرة مع الرفيق عزيز المصري والتي وضعته في تماس مباشر مع تاريخ متألق للكفاح الوطني. فهذا الضابط المغامر الكبير المتوهج المزاج لم يكف قط عن تزويد حفنة من الضباط المصريين الشباب بذكريات الثورة العربية الكبرى على الحكم العثماني التي شارك وأبلى فيها. لكنها فلسطين التي سالت فيها دماء عبد الناصر مرتين، هي التي شكلت لديه القناعة الحاسمة بأن خلاص العرب وتحررهم يرتبطان بوحدتهم.
وانصافا لناصر وللحقيقة. فثورته حملت منذ يومها الاول شعاراتها الوطنية المصرية الصميمية، ولم تكن لغتها قط قومية عربية. عبد الناصر اصبح بطلاً قوميا عندما انهمك في المعركة ضد الاحلاف العسكرية الغربية التي يتبناها العراق بزعامة نوري السعيد، ثم عاد عندما امم قناة السويس عام 1956 وواجه بنجاح سياسي كبير الغزو الثلاثي لمصر.
كانت الدعوة للارتباط باحلاف عسكرية بالغرب غباء سياسياً كبيراً في منطقة تتفجر عواطفها باحساس قومي يفيض نقمة على بريطانية بالذات التي غدرت بالاماني العربية وسلمت فلسطين لليهود. الواقع ان نوري السعيد لم يكن سياسيا غبيا، ولكنه في لحظة من اللحظات خالف قاعدة ذهبية في السياسة عندما راح يسبح ضد التيار ويغالب مد الموج واضعاً نفسه في مواجهة جمال عبد الناصر، تلك المواجهة التي انتهت نهاية جسدية وسياسية مأساوية بالنسبة له ولنظامه بكامله.
– كيف يصاب الساسة الاذكياء بعدم الاستشفاف او بُعد النظر؟
نوري السعيد ايضاً بدأ حياته السياسية كضابط قومي التحق بالثورة العربية الكبرى بقيادة حسين شريف مكة، وارتبط بعلاقة صداقة حميمة بابنه الثاني الامير فيصل –الملك فيما بعد- وشاركه في الزحف العسكري من الحجاز الى الشام عبر الاردن، ذلك الزحف الذي وضع نهاية عربية موفقة لامبراطورية اجنبية حكمت العرب خمسة قرون.
الذين عرفوا نوري السعيد في تلك الفترة حكموا له. فقد كان يتوقد حماسة وجرأة تنم عنها طلعته الشجاعة الوسيمة ومشيته العسكرية المتوثبة بالطرقات السريعة لحذائه العسكري الثقيل على ارض ممرات ودهاليز رئاسة الاركان الفيصلية في دمشق. وعندما طوى فيصل حلمه الوحدوي بزحف الفرنسيين من لبنان على مملكته المستقلة، وغادر سوريا متوجها الى العراق ملكاً عليها بموافقة بريطانية، كان نوري السعيد في ركابه.
في عام 1920، انتهت مرحلة من الكفاح القومي العسكري، وبدأت مرحلة سياسية طويلة، انطفأ فيها المد القومي الوحدوي بشكل بث الخيبة في نفس قطاع كبير من جيل نوري السعيد. واقترنت هذه الخيبة برؤية بريطانيا المسيطرة بقوتها ودهائها، فكان الانبهار بها طريقاً للاستسلام التدريجي المذل والكامل لارادتها وسياستها. وكان توزيعها للادوار في السلطة السياسية في العراق سبيلاً للايقاع بهذا الجيل الذي تذوق حلاوة السلطة واستمرأ نعيمها ثم شرب كأسها حتى الثمالة.
– هل كان فيصل الاول من مدرسة نوري السعيد؟
الحقيقة ان الجيل السياسي المحترف في تلك الفترة كان ثلاث مدارس، مدرسة نوري السعيد التي استسلمت بلا مناقشة لادارة بريطانيا ونفذت مشيئتها بحذافيرها. الملك فيصل كان من مدرسة اخرى توفيقية في موقفها. كانت تعتقد ان مقاومة بريطانيا ضرب من العبث، لكن الاستسلام الكامل لها يتناقض مع كبرياء النفس والايمان القومي.
عبد المحسن السعدون رئيس وزراء العراق المنتحر في اواخر العشرينات من هذه المدرسة. كان اتهام الناس له بالاستسلام للانكليز يعذبه، وبث عذابه هذا قبل انتحاره في رسالة مؤثرة وجهها لابنه يبرئ نفسه فيها.
الملك فيصل كان هاملت السياسة العربية في النصف الاول من القرن العشرين. كانت التوفيقية التي اتبعها تعذب وجدانه القومي. كان حائرا بين عرشه، وفردرياً في السر للذين استسلموا بالكامل كنوري السعيد، ومتسامحاً مع المدرسة الثالثة التي ابت الاستسلام- وهي قلة- وراحت تلومه وتحمله مسؤولية تقبل الامر البريطاني الواقع، ولم يطل عذاب فيصل فقد توفي سقيماً حزيناً في سويسرا عام 1933، بعد ثلاثة عشر عاماً من ارتقائه عرش العراق.
بعد وفاة الملك فيصل ثم مقتل ابنه ووريثه الملك غازي في حادث سيارة غامض، تمادت مدرسة نوري السعيد في غيها واستسلامها. ولم يتمكن انقلاب بكر صدقي ثم الحركة القومية العسكرية بقيادة صلاح الدين الصباغ في بداية الاربعينات، من كبح جماحها، بل كان الانتقام اشنع واكبر. فقد اشرف نوري السعيد بنفسه على اعدام الصباغ ومجموعته الثائرة، واصر على سماع تكسر عظام رقبة احدهم عندما ارتاب في موته على المشنقة.
في الاربعينات والخمسينات، كانت مدرسة نوري السعيد قد احكمت قبضتها على العراق، ودعمت حكمها بالارتباط بالاقطاع، وباتت لها مصالحها الاقتصادية الضخمة. وكان الاعتماد المطلق على قوة ودهاء الحليفة الكبرى هو الذي اصاب نوري السعيد ومدرسته بعدم الاستشفاف وبعد النظر السياسي. وعندما خاض معركة الاحلاف في الخمسينات ضد التيار القومي وضد رفض عبد الناصر، لم يدرك بذكائه وحنكته السياسية ان كثبان الرمال في صحراء السياسة سريعة التحرك والتموج والتشكل. وكانت النهاية عام 1958، بعد اربع سنوات (1952) من المواجهة الخاسرة.
نوري السعيد، الضابط العسكري الشجاع خرج من الاحتراف السياسي من مخبأه في بغداد بملاءة النساء – رواية مشكوك فيها- وعندما رفعت الجماهير النقاب عن وجهه وعرفته، قطعته ارباً اربا. ولم يبقى من جثته سوى اصبع- بعض الروايات تقول اصبع الوصي عبد الاله- حمله بعضهم الى عبد الناصر زلفى وتقرباً، فاستشاط غضباً وأمر بدفنه باحترام يليق برهبة الموت.
الملك حسين بن طلال، اصطدم وتصالح مراراً مع جمال عبد الناصر، لكن الملك الشاب كان منذ البداية قارئاً جيداً للمستقبل السياسي، فسرعان ما اسقط عام 1956، العلاقة البريطانية، وطرد رمزها ورجلها الجنرال غلوب، وانهى الخصومة الهاشمية التقليدية مع السعودية، ورصد بدقة واهتمام النجم الصاعد للسياسة الامريكية في المنطقة. براعة الملك حسين السياسية تتجلى في حرب 1967. فعبد الناصر ظل مديناً للحسين لآخر يوم في حياته عندما لبى الملك ندائه ودفع بجيشه الصغير الى اتون الحرب للتخفيف من الهزيمة الماحقة في سيناء والانسحاب غير المنتظم من جولان.
– ألم يكن الحسين يدرك امكانات جيشه في ارض باتت مكشوفة امام تفوق العدو؟
بكل تأكيد، لكن ماذا يفعل الحسين امام الاعصاب الفائرة في جيشه وبلده؟ بل ماذا سيكون عليه حكم التاريخ لو لم يفعل؟ اما كان الاتهام له بالتلكؤ قاسياً، سيما ان اللاتهامات – الخيانة- تكال في هذه المنطقة المنكوبة بالعواطف المجردة عن العقل، بحساب وبغير حساب؟
الرئيس السوري ناظم القدسي، كان ضحية اخرى من ضحايا الخصومة مع عبد الناصر، هذا السياسي المحترف الذكي والحساس ختم حياته السياسية بخطأ كبير. فقد قبل بعد تردد طويل منه والحاح شديد عليه من ضباط وساسة الانفصال، ان يتسلم منصب رئاسة الجمهورية، بعدما ابى المنصب زميله رشدي الكيخيا في حزب الشعب قائلاً- ان اليد التي وقعت ميثاق الوحدة لا يمكن ان توقع مراسيم الانفصال.
تحمس الرئيس القدسي، وراح يتجول في المحافظات السورية يخطب ضد عبد الناصر، وتنقل اذاعته خطبه وتصفيق فريق الهّتافة من الشيوعيين الذي يرافقه. وفجأة مل الانقلابيون جمهورية القدسي، وذات ليلة وضعوه في سيارة مصفحة ونقلوه الى سجن المزة العسكري، ثم ركبوا الطائرة متوجهين الى القاهرة، وامام عبد الناصر بكوا مكفرين عن جريمتهم في صنع الانفصال، مبدين استعداداهم لاعادة الوحدة بانقلاب آخر. لكن عبد الناصر الذي احترقت اصابعه في سوريا قال لهم- ان الوحدة التي ذهبت بانقلاب لا يمكن ان تعود بانقلاب- وعاد الانقلابيون الى دمشق. وعاد القدسي رئيسا للجمهورية وكأن شيئاً لم يكن، الى ان ازاحه في 8 / اذار/ 1963، انقلاب اخر من صنع البعثيين والناصريين.
ربما كانت الخصومة مع الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم والزعيم السوري ناظم القدسي والزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، عابرة في حياة عبد الناصر السياسية، لكن الخصومة التي استأثرت باهتمامه ووقته ثم لعبت دورها في صياغة مستقبله السياسي التي كانت تلك التي ربطته بالعاهل السعودي فيصل. السعودية في سياستها العربية تؤكد على التضامن العربي من خلال استقلالية وسيادة كل بلد عربي، الى درجة ان الملك المؤسس عبد العزيز تردد في الانظمام الى جامعة الدول العربية، ولم يحسم موقفه الا بعدما تأكد ان ميثاقها لن يتجاوز استقلالية القرار السياسي العربي القطري، وكانت السياسة المصرية الملكية تلتقي عربياً مع هذا المنطق السعودي في مواجهة السياسة الهاشمية التي ظلت تراودها احلامها الوحدوية. واستمر اللقاء السعودي- المصري بعد ثورة عبد الناصر. سيما ان السعودية انتابتها الشكوك ازاء الدعوة للاحلاف التي حمل لواءها العراق المثقل بالتزاماته البريطانية. لكن الزجاج الشفاف والهش الذي يغلف هذه العلاقة، سرعان ما تحطم وتناثر عندما راحت سوريا تندفع بقوة الى حضن ناصر متخلية لمصر عن استقلاليتها وسيادتها.
عبد الناصر، اتهم السعودية والاردن بانهما كانا وراء انفصال وحدته مع سوريا. واعتبر تأييده للثورة اليمنية بمثابة رد على السعودية في عقر دارها ومنطقة نفوذها. ولأن اليمن تشكل دائما زاوية اساسية في الرؤية السياسية السعودية، فقد جوبه التدخل المصري هناك برد فعل سعودي عنيف تعبيراً عن الدفاع عن النفس، وتمثل بدعم فوري مباشر للطرف الامامي وللقبائل اليمنية، ثم ما لبث ان الحقه تغيير في القمة السياسية لادارة المعركة باعداد داخلي اكفاء وبقاعلية خارجية اقوى، فحل الملك فيصل محل شقيقه الملك سعود عام 1964، ومن يومها اتخذت المعركة المسلحة في اليمن طابع المواجهة الشخصية الحادة بين ناصر وفيصل.
ومع ذلك، فهناك عناصر تشابه كثيرة جمعت بين الرجلين على الرغم من كل هذه الخصومة. فيصل اكثر حذراً وتحفظاً من ناصر وربما اكثر دهاء بالفطرة وبالتجربة المكتسبة من خلال الممارسة الطويلة للمسؤولية منذ نعومة اظفاره. ولكن في تقشفه وبعده عن مباذل السلطة فهو يقترب منه كثيراً، بل هما ينطويان معاً على تلك الضفة النادرة التي تميز رجال الدولة الكبار- الكبرياء والترفع والسمو عن الصغائر والترهات والاستعداد الدائم لنسيان الخصومة الشخصية عندما تستدعي مصلحة الوطن ذلك. فعندما فرضت الهزيمة امام اسرائيل على عبد الناصر الانسحاب من اليمن مد يده الى فيصل، واذا بفيصل يمد يده فوراً لليد الممدودة اليه. وامكن ايجاد حل مشرف بسرعة مذهلة، قبل ناصر الثائر بالانسحاب، وقبل فيصل الملك بثقة مطلقة في النفس بجمهورية تقوم على حدود مملكته. بل هما يذهبان معاً الى قمة اللاءات الثلاث في الخرطوم ليؤكد صمود امتهما من جديد بعد الهزيمة.
لم تكن الولايات المتحدة لتسمح على المدى البعيد ببقاء جمال عبد الناصر قوة دافعة لتحقيق اماني امة عريقة وقوة محرضة على استقلالية القرار السياسي والاقتصادي في المنطقة العربية. كانت حرب 1967 لتحطيم جمال عبد الناصر سياسياً، واذلاله عسكرياً، وارهاقه نفسياً، وجاءت في اطار سلسلة محكمة الحلقات لتدمير الزعامات الوطنية في الوطن العربي التي نهجت نهجه او على الاقل استلهمت طريقه وتشجعت بوجوده.
كذلك لم تغفر الرأسمالية الامريكية لفيصل قراره الجرئ باغلاق انابيب النفط لدعم محاولات العرب قطف الثمار السياسية لحرب 1973. السعودية لم تعتبر قط النفط سلاحاً سياسياً، ولكن قرار فيصل النابع من صميم ايمانه العربي والاسلامي تقاطع مع مسار الازدهار الطويل للرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية، ووضع النفط سعراً وقدراً في مكانه الحقيقي كسلعة خام كانت مغتصبة بالثمن البخس للرمال المدفونة تحتها.
في الراهن العربي الرديء، نترحم على جمال عبد الناصر وعصره، راهن يعصف بأمة لا يبدو في الافق المنظور من نهاية سريعة لخيباتها..
*بعض الافكار التي وردت في مقالنا،استخلصناها _ للتوكيد والمراجعة _من مقال لغسان الامام منشورة في احد اعداد مجلة الوطن العربي الباريسي.
[email protected]