الأهمية المفتاحية لقصيدة(الببغاء)
منذ(غيم لأحلام الملك المخلوع) ..وأنا منجذب لشعريات ومسرودات هذا الخيميائي الفاتك، الذي من أسمائه الشاعر( محمد علي شمس الدين)..
يلتقط أحدهم كلمة ً ويحشرها قسرا في نصٍ…. ويأتي الشاعر الحقيقي، يلتقط الكلمة ذاتها، ينفضُ غبار المعجم عنها ..يصقلها.. بزيت سُراج روحه .أحدهم ..يقبض ضمن سياقها النحوي ،على ماهية اللغة (كموضوع يمكن تصوره على نحو متطابق ) أما الشاعر الحقيقي فيشتغل على الفائض الدلالي بتنويعاته الثرة من أجل مأسسة عذراء للمعنى ، يجدد الشاعر صياغته بقدر اندفاعه في صوغه قصيدته.. وهكذا يتنزهان معا :الكلمة والشاعر المحسوس والملموس
(*)
الكلمة متحجبة طواعية في روحه متدفقة في غصون دمه ..ثم ترمي الكلمة حجبها كلها لتسفر عن حمامة خضراء كدعاء أمهاتنا..والشاعر محمد على شمس الدين ينتمي لهذا الجوهر المتفرد من الشعراء.. الذين يتبرعمون مع كل قصيدة تكتبهم…فالقصيدة من هذا الطراز من الرهف البشري ليست محاولة شاعر بل هي مكابدات الإنسان في الشاعر ..اعني ليست تجربة كتابة بل نتاج معايشة إنسانية…وهذا هو الفيصل بين شاعر على الصليب
ومهرج في سيرك شبكات عنكبوت الاتصال
(*)
ألتقط ُعينة ً من تشبيهات نصوص المجموعة الشعرية..فهي الخريطة التي توصل عماي إلى بصيرة القراءة المنتجة في قصيدة (الببغاء)..فمن فاعلية تركيم هذه التشبيهات نحصل على ذهب إبريز يعجنه الشاعر بيديّ عجّان لتنهض من العجين الذهبي، ببغاء القصيدة..
(*)
كاف التشبيه وأخواتها..
(مقابر تنمو كفطر التلال
وعيناك فيها
كبدرين يرتجفان من شدة الخوف)
(عيناك تندلعان..
كسبع حدائق لله تزهو بأوراقها)
(حفنة من ملوك الزمان
هرمت مثلما تهرم السلاحف في البحر
……………………………
واندثرت كالقباب القديمة)
نفقت وهي مقلوبة على ظهرها
وأعينها كالزجاج)
(حتى غدا الصوت بوقا عجوزا)
(ونيسان مر ولم يلتفت
بين وحشين مضطربين مر
كما مر وجهك بين سيفين يلتمعان
شعرتين على عنق ألأرض تنحدرا)
(فلا تتركيني..
كطفل تدوس على ظهره ألأرجل الحافية)
(وقف المجوس محدقين كأنهم جن ..
كأن هذا الشرق موسيقا )
(ما للسفينة…
وكأنها تعلو وتهبط ثم تعلو كي تطير بطائرين
من الخيال ولا ترى إلا كطاووس يسافر)
(طير تدور كأنها ثملت وجن جنون هذا الماء
والنجوم تعوم هائمة)
(حيث السماء قريبة وتكاد تلمس بالأصابع
أو تشم كأنها ريح الشمال على التلال
كأنها بين الصفا والركن بارقة الخيال
كأنها في الغيم هودج حسنك العالي
أنا من نام منطرحا على عتبات جسمك في النخيل)
(أن الريح تنشرني هناك)
(أنقل خطوتي كالظل أو
كتقلب ألإعصار)
(لربما برقت لألئ من حصى الأعماق في كفي كومض النار)..
من ثريا هذه التشبيهات المميزة ،بل هي تجليات/ كشوفات الصوفي في المضنون بها على غير أهله ..من هذه الثريا نصنع سلما لننوش قصيدة (الببغاء)
(*)
على شاشة القراءة نعرض قصيدة الببغاء :
الببغاء
رأيت بين كفيّ والسرير
ببغاء سيرتي
تمد رأسها إلى الأمام مرةَ
ومرة إلى الوراء
أقول لا
تقول لا
أسير خائفا
تسير خلفي مثل ظلي خائفة
وحين أنحني على التراب تنحني
وحين يفرش الظلامُ
فوق بيتنا جناحه
وتخبط الطيور خبطها العجيب
في غياهب الفلك
أقول : ما ألذ ظلمة الحلك
تقول مثلي…..ظلمة الحلك
ومرةً
وجدتها تنام في سرير وحدتي
وتأكل الطعام من يدي
وتشرب المياه
وحينما أيقنت أنها ترى الذي أراه
قتلتها
ولذت بالفرار
حاملا دماءها إلى الإله
(*)
إجراءنا التنفيذي …
مفتتح القصيدة يكشف عن حيز مشخصن بين قوسي :
(كفيّ) ——– السرير
(رأيتُ بين كفيّ والسرير
ببغاء سيرتي)…
ويمكن لهذه الترسيمة توضيح فضاء التموضع
: كفان —- ببغاء ——– سرير
الببغاء: فيصل/ حاجز/ جملة اعتراضية….
وهي لا تدخل ضمن النموذج الطبيعي : كببغاء
بل ضمن الأيقوني العلاماتي هي تنتسب معرفيا لسواها،الذي من غير جنسها اعني المتكلم نيابة عنها،الآدمي..من خلال كهفه أبصر افلاطون ثنائية النفس الإنسانية ،أبصرها حصانين : أحدهما ابيض والآخر اسود..في (البحث عن الزمن الضائع) يقبض مارسيل بروست على غبار يسميه النفس الإنسانية.
: ببغاء سيرتي
يمكن وأكرر اقول (يمكن )النظر إلى اليد علاماتياً : قوة عمل
والسرير: جغرافية النوم المزودة بمروحة أقواس قزح أو فضاء فعل الحب الحقيقي لا الذي نسجته عنكبوت الافتراض….ثم تنقلنا سيرورة القصيدة للفاعلية الثانية للببغاء سيرورة أفقية ضمن مخطط الصورة نحو جهويتين : تمد رأسها إلى الأمام مرة
ومرة إلى الوراء
هل تمارس الببغاء هنا فعل الرصد؟ مراقبة الأنا؟ مراقبة الفضاء؟
ثم يحدث التطابق الحركي/ اللساني :
أقول لا
تقول لا
أسير خائفا
تسير خلفي مثل ظلي خائفة
وحين أنحني على التراب تنحني
وحين يفرش الظلام
فوق بيتنا جناحه
أقول : ما ألذ ظلمة الحلك
تقول مثلي…..ظلمة الحلكة
هنا يحدث النص: قطعا..بعد ان أخبر بأفعال المحاكاة التي تتقنها الببغاء
*الرصد
*اللسان
*السير
*رد الفعل
*القول ثانية
كل هذه المطابقات يمكن التعامل معها كممهدات لسرة النص..
إذ ستنتقل الببغاء إلى طور الفعل لا رد الفعل وهنا كسر نسق الطبيعي من خلال تمرد الشعري على النمطي والمألوف حيث تباغت الشخصية في النص بالخارق وتنقل رد فعل الأول المتمثل بعرض شريط لاقط للمباغتة
(مرة
وجدتها تنام في سرير وحدتي
وتأكل الطعام من يدي
وتشرب المياه)
لهذه الأسطر وظيفتان
الأولى تقديم قراءة من داخل النص لبداية النص اعني جغرافيا تموضع الببغاء في بداية النص ،رأينا السرير: عبر النوم وفعل الحب.
الآن تكشف لنا انه سرير العزوبية وليس الزوجية
(سرير وحدتي)
الثانية: انها صارت تسخره لها:
(وتأكل من يدي.
وتشرب المياه )
وربما يكون سبب التسخير، انها انتقلت من الاستقبال إلى كشوفات الرؤيا :
( وحينها أيقنت أنها ترى الذي أراه)..
فالنص يقول( مرة وجدتها) ولم يقل(مرة رأيتها)
ثانيا ..نحن هنا أمام منسوب يمكن تسميته، رؤيويا (رأيت فيما رأى يرى النائم) فالمتكلم في النص رأى نفسه / قرينه..هل نحن في علاقة مرآوية اليس هنا نحن في اتصالية الخيالي/ الرمزي.. وسيكون رد فعل الشخصية في النص، من الافعال الشرسة لحذف الببغاء ..هل السبب هو هتكها للمستور من الشخصية :
(وحينما أيقنت إنها ترى الذي أراه
قتلتها)..
هل رد الفعل البشري ..يتوازى مع فعل الرمز الببغاء هل الببغاء انتزعت الأقنعة من السييري..لذا قرر منتج السيرة ،انتزاع الحياة من الرمز؟
هل قتل الشخص حياته؟ قتلا رمزيا؟ ولم يبق أمامهُ سوى الفرار إلى الله
كما تقول الصوفية؟! قصيدة قصيرة متماسكة..أثاثها : طبقات جيولوجية خصبة تحتوي منشّطات لقراءات تأويلية غزيرة
(*)
الببغاء عبر لقطتين ..
يبدأ النص بفعل ماض (رأيتُ) ومن خلال سارد الحكي نراها(رأيت..ببغاء سيرتي) وهنا ينهض تساؤل القراءة هل نحن أمام نص سيري يجسده سيمولوجيا حضور السيرة بهيئة ببغاء من دون كل الطيور، وثمة اتصالية مع ببنية أهداب النص،وتحديدا إهداء المجموعة الشعرية :
( إلى الشجر وهو أمة
وإلى الطير وهي أمة
أهدي هذا الديوان)..
وسنجد من أمة الطير غير الببغاء في الديوان والعنوان يؤكد تداخل العلاقة بين الأمتين في:
(ينام على الشجر الأخضر الطير)..
*القراءة بالمجاورة..
سنوقف بث قراءتنا في نص(الببغاء) لنتقرب إليه من خارج النص/ داخل الديوان نفسه..سيكون بث قراءتنا عبر مقتربات مجاورة لقصيدة الببغاء..نلتقط من قصيدة (فخ الثعالب) ما يعيننا :
(…خيال الظل
أتراه ظلي؟ أم تُرى أبصرت فيما كنت
قد أبصرتُ ظِل أبي؟ /19)..
لمن تعود ملكية المضايفة في المضاف والمضاف اليه؟( خيال الظل)؟
للمتكلم؟( أتراه ظلي؟) أم هي خدعة بصرية، تشي بها الاحالية التكرارية / الماضوية
( أبصرتُ فيما..قد أبصرت) لتنسب الملكية ذاتها إلى الأب( ظل أبي؟)
والمكتوم في النص يوصل قراءتي إلى تماهي الابن في أبيه ضمن علاقة ظلية..ومن خلال المكتوم النصي، نتوصل إلى أن الابن ليس وحده، بل الإبن من خلال أبيه وقيد شرط الأبوة مشروطة ب(بنونته)
في قصيدة( محا جر العميان):
(أبصرتُ
فيما يبصر الرائي
كأن
تتحرك الأشجار
كي تلج الحديقة
من ثقوب محاجر العميان
……………………..
………………………….
كلهم عبروا
وكان الخائفون أشد خوفا
من وقوع ظلالهم
فوق التراب/ من قصيدة/ محاجر العميان/ 27)..
المخيلة ..تنتج مراياها البصرية من خلال (كأن).. وللظل سطوته التي تشترط على العابرين الخائفين أن لا يجعلونه يتترب..
(من عاش هذا الليل
أم من عاش في جسدي
سواي؟
ولست إلا
عابرا كالرمل
في هذا الإناء من الظلام// 43)..
رهف الوعي يصوغ مشروعية التحرر ،عبر جرأة التساؤل.. حيث الأنا ليست مطوقة بذاتها،بل من خلال أنا أخرى.. قسيمة الأنا /الأصل. .قسيمتها جسدانيا في عبور فضاء ضيق :الإناء الذي يومئ صوب : الروح..
وحين نكشط مفردة الظلام،تواجهنا مفردة: ظل وما الظلام سوى تكثيف مادي للظل وزيادة حرفين عليه والزيادة الحروفية من باب تكثيف اللون..(لأن الظل والظلمات هي أوعية البرد وانكماشاته /37)حسب جان فرانسوا ماركيه..وبخصوص الظل ..نلمس سطوته على:
*العابرين
*الأب
*الابن
*الأنا عبر الآخر..
(الكلب
وصاحبه
كل
ينبح
في
وجه
الآخر/من قصيدة شجيرة الأسف/176)
اليست هذه القصيدة القصيرة: نطفة تتخلق منها قصيدة (الببغاء)
فنحن أمام ذروة التراسل المرآوي
(هب شتاءٌ عاصفٌ
ورأيتُ بأرض حديقتنا
شبحا
يمشي
فخرجت
فلم أبصر
إلا نعشي/ 180/ من قصيدة مرآة ألأعمى)
الشبح هنا (يمكن) ان نراه الإنسان بالوكالة عن ظل الإنسان..والبصر ليس الرؤية أو النظر..ألا يحيلنا فعل (بصرتُ) إلى سورة ق
(..فكشفنا عن غطاءك فبصرك اليوم حديد/22)..
وهكذا تفعّل طراوة هذه النصوص ثنائية الواحد حيث يرى الواحد في الذات ..مستقبل انويتها..
(كأنها
منذورة لكي يعيشها سواك
وأنت
كي تموتها الحياة/189/ من /ثلاث تحولات)..
بهذه القصيدة يمكننا قراءة القصيدة السابقة..
(سره
ستره
وانكشاف الذي لا نراه/190/ من قصيدة/ لم يكن على النبع إلا جمال
الحبيب)…..على اتصالية/ انسجام التضاد تشتغل قصائد الديوان وهنا تكمن الأهمية المفتاحية لمهيمنة قصيدة الببغاء..
(*)
وحده الشعر من ينشّط قنونة ديالكتيك وحدة وصراع ألأضداد
ويتعطل السؤال او يتعلق ظاهراتيا..عن كيفية تحول الجواني(سره)/ برانيا(ستره) ضمن كشوفات اللامرئي (انكشاف الذي لا نراه)
(لأشاهد النار في أصلها ماءً/196/ من/ قصيدة دار زينب).
هنا يتضوع ( الكمون) ضمن مفهوم المعتزلة.. نلاحظ ان هذه النصوص.. متجذرة في قراءتنا لمنجز الشاعر الجميل محمد علي شمس الدين..ولكن الجميل لم ينشرها على حبل غسيل الشعر كمواد خام/ مواد إنتاج كما يفعل بعضهم للأسف فيفسد الشعر ويمسخ الأصول الفلسفية في النص..
الأسد الشاعر محمد علي شمس الدين ،أعانته معدته المعرفية في تحويل كل هذه الخراف وشعرنتها في نصوص هي الطراوة الشعرية المتجاوزة نفسها دائما كما عهدناها في الفاعلية الشعرية للشاعر محمد علي شمس الدين في كتابة القصيدة وفي مسرودات كتبه المشعرنة دائما
(*)
هي عينات شعرية منتخبة.. يمكن أن تخيطها القراءة المنتجة بخيط المجاورة وبإبرة الاتصال لنحصل على فرشة من الفضاء الغرائبي السحري..ويمكن ان نصوغ من هذه الضفائر المنتخبة،تعويذة نستعملها مفتاحا في إنتاج قراءة لنص (الببغاء)..خصوصا وان الحكي المشعرن أو شعرنة الحكاية متوفر بطراوة غزيرة.. في الديوان.. و(الببغاء) ليست القصيدة النافرة بل تراها قراءتنا هي القصيدة بشروطها المتكاملة والمنفتحة على أفق الاحتمالات الخضلة بغزارة شعرية
(*)
العودة إلى فضاء الببغاء:
التموضع المكاني
*التموضع الأول:
في مفتتح القصيدة : للببغاء وظيفة تجسير(بين)
كفيّ———— الببغاء————-السرير
رأيتُ بين كفي والسرير
ببغاء سيرتي
*التموضع الثاني
ومرةً..
وجدتها تنام في سرير وحدتي
وتأكل الطعام من يدي
وتشرب المياه ..
نتوقف عند الفاعليات الثلاث.. التي تكشف عن المتغير او النقلة المكانية التي حازتها الببغاء بالسيطرة على الأنا واكتشاف الأمر من قبل الذات ..
نستهدي بنظرية يونغ ونعقد اتصالية بين الذات / ألأنا. يعتبر يونغ الذات بمرتبة المركز وبصيغة الكلية وللذات من الأشكال الهندسية شكل الدائرة ،أما الأنا فلها نفس الشكل وتتموضع كدائرة ضمن الدائرة الأولى أعني دائرة الذات والأنا لها ذاكرة ،حمولتها الماضي والحاضر.. اما الذات فهي
تنماز بذاكرة بأفق ثلاثي: ماضي/ حاضر/ مستقبل.. على وفق هذا الضوء تؤول قراء تنا الأمر كالتالي..ان الأنا أصبحت مشروط بمهيمنة الببغاء..ولا يمكن تحريرها إلا بقسر يعادل قسر الخضوع،وهو قتل النمطي/ التكراري/ الخانع.. المشارإليه علاماتيا : الببغاء..
ودون ذلك القتل وهو فعل رمزي،لايمكن تخليصها من مستقبل استعباد..
أليس الذات تتذكر حتى المستقبل وليس الماضي والحاضر فقط؟
إذن لابد من فعل القتل يعقبه طلب المغفرة من الرب :
(قتلتها
ولذت بالفرار
حاملا دماءها إلى ألإله)
وهكذا استعادت الأنا موضعها الدائري الطبيعي ضمن
الدائرة
الكلية/ دائرة الذات..
…………………………………………….
* هذه المقالة/منشورة في صحيفة طريق الشعب/ 21/ 22/ كانون الثاني /2013
*المراجع..
1- محمد علي شمس الدين / ينام على الشجر ألأخضر الطير/ كتاب مجلة دبي الثقافية/عدد فبراير/ 2012
2- جان – فرانسوا ماركية / مرايا الهوية / ترجمة ا.كميل داغر/ مركز دراسات الوحدة العربية / بيروت / ط1/ 2005/ ص37