تدور احداث هذه المقالة في شباط ١٩٧٧ ، والتي بلغت ذروتها في الخامس والسادس منه ، اذ حاولت الحكومة منع اهالي النجف من احياء الذكرى السنوية لاربعين الامام الحسين ع، والتي تصادف يوم عودة نساء اهل البيت من الاسر ومعهم رأس الامام لدفنه مع الجسد في كربلاء بعد أخذه الى يزيد والطوفان به بالكوفة والشام ٠ لم يستجب اهل النجف لقرار المنع ، وخرجوا مشيا على الاقدام ، وواصلوا المسير رغم سقوط شهداء منهم ، ونزول وحدات مدرعة ومشاة لقطع الطريق عليهم ، وتحليق الطائرات الحربية على علو منخفض فوقهم ، فوصلوا كربلاء عبر الالتفاف حول بساتينها ، ودخلوا ضريح الامام الحسين ع ٠ اعتقل الامن الالاف منهم ومن غيرهم ، وفرضت السلطة الاحكام العرفية – بدون اعلان رسمي – على العراق كله لاسبوعين ٠
ولصرف الانظار عما جرى ، عرض التلفزيون الرسمي خلال الاحداث مقابلة مع شاب سوري ، ليعترف بان المخابرات السوريه ارسلته ليفجر ضريح الامام الحسين ع ٠ ويبدو ان الاحتجاجات قد اربكت النظام ، فاستعجل في اخراج هذه المسرحية الساذجة ، والتي لم يتطرق لها اعلام النظام بعد ذلك ابدا ٠
وكتبت جريدة الثورة – الناطقة بلسان الحزب الحاكم – افتتاحية حول الاحداث ، هاجمت فيها الامبريالية والصهيونية والرجعية !!!!!!!! ولكنها لم تنسب الاحداث لجهة خارجية ، كما جرت العادة ، فعلاقتهم كانت وقتها مع ايران الشاهنشاهية ممتازة ، والتي لزمت اذاعتها في طهران الصمت عن ذلك ٠ لكن الغريب اصدار الحزب الشيوعي العراقي – والتي كانت جبهته مع النظام على وشك ان تلفظ انفاسها – بيانا يدين فيه ما وصفه بالنشاطات التآمرية الموحى بها من قبل الاوساط الإمبريالية والرجعية والأحتكارات البترولية ضد السلطة الوطنية والمسيرة الثورية ، ودعا منظماته الحزبية والرفاق كافة الى مراقبة تلك النشاطات والتبليغ عنها . وكان المفروض بالحزب الشيوعي أن يدين – بدلا من ذلك – الاضطهاد الطائفي الذي كان سبب تلك الاحداث ، والتي لم يقع يوماً شيئاً منها منذ تأسيس الدولة العراقية ، وكانت هذه المناسبة تمر بسلام طيلة السنين الماضية ٠ المفارقة أن تقارير الامن وصفت بعض المعتقلين في تلك الاحداث بأنهم شيوعيون ( مؤسسة الشهداء- وثائق لا تموت ج١ ص ٣٦ ) ٠
شكل النظام محكمة خاصة برئاسة الدكتور عزت مصطفى وزير العمل والشؤون الاجتماعية وعضوية فليح حسن الجاسم وزير الدولة وحسن العامري وزير التجارة ٠ وما ان تم الاعلان عن تشكيل المحكمة ، غادر الدكتور عزت الى مدينته عانه وفليح الى مدينته المقدادية ، ولم يحضرا المحاكمة والتي اقتصرت على احضار بعض المتهمين بينما قُتل آخرون تحت التعذيب ، حيث قام العامري بالقاء قرار الحكم – والذي جاءه من فوق – وقد تضمن الحكم على ثمانية بالاعدام بينهم الشاب السوري ، وعلى ١٢ شخصا بالسجن المؤبد ، ومنهم السيد محمد باقر الحكيم ٠ وكانت صحيفة الثورة قد نشرت تصريحا لمصدر مسؤول باطلاق سراح الاخرين – والذين كان عددهم قد تجاوز العشرة آلاف ٠
وبعد ايام من ذلك ، أُعفي عزت مصطفى وفليح الجاسم من جميع مناصبهما الحزبية والرسمية ، وعُين الاول طبيبا في ناحية الشرقاط بالموصل ولم يسمح له بدخول بغداد ، والثاني معلما بتكريت ولم يُسمح له باصطحاب عائلته الى هناك الا بعد عامين من ذلك ، ويُقال أن صدام وفي احدى زياراته لتكريت وقد صادف الجاسم – في احدى الفواتح – فطلب منه العودة للحزب ولكن الجاسم رفض ذلك ، فتم اغتياله في ٩ / ٨ / ١٩٨٢ وعمره ٤٢ سنة ٠ وقد كتب عنه رفيقه في المنفى بتكريت ، القيادي بحزب الدعوة طالب الحسن ، كتابا مهما ٠ وظل عزت مصطفى على قيد الحياة ، وغادر العراق عام ٢٠١١ الى ماليزيا ، حيث توفي هناك في ٢٣ / ٨ / ٢٠١٤ ودُفن ببغداد وطبعا بدون اي حضور او اهتمام رسمي ٠ فللاسف لم يجر للرجلين اي تكريم رغم موقفهما النبيل والشجاع ، وتضحيتهما بمناصبهما بل وحياتهما ٠ والانكى من هذا ان قائمة للاجتثاث وحجز الاموال المنقولة وغير المنقولة ، ضمت اسميهما الى جانب ناظم گزار وغيره من المجرمين ( وياللعار والتفاهة وفقدان الانصاف والعدالة واحتكار الوطن والدولة ) ٠ الشيء بالشيء يُذكر ان القائمة المذكورة ضمت ايضا الكاتب المعروف باقر ياسين ، رغم انه انشق عن عفلق عام ١٩٦٦ وغادر العراق عام ١٩٦٨ ، وحُكم بالاعدام عام ١٩٧٣ ، وكان ابرز قادة التجمع الوطني ( الذي ضم احزاب المعارضة الوطنية ) في السبعينات !!!!!!!!
وبذل عيادة كنعان الصديد محافظ صلاح الدين آنذاك – وبتكليف من المرجعية عن طريق صديقه الشيخ احمد السماوي – جهدا مضنيا لاقناع صدام بعدم تنفيذ الاعدامات ولاطلاق سراح السيد الحكيم ، فغضب صدام عليه وقام بعزله من منصبه ٠ وقد أختفت والى الابد آثار الشيخ احمد السماوي – مبعوث المرجعية- عام 1979 عندما كان في سيارته متجهًا من بغداد الى مدينته السماوة .
اما الشاب السوري ، واسمه محمد علي نعناع ، فمن مواليد حلب ١٩٦٠ – وبالمناسبة هو ابن عمة عديلي هشام شهلا – وهو الثالث لعائلته بين سبعة اولاد وخمس بنات ، وبعد نجاحه في المتوسطة ( وفي سوريا تسمى الاعدادية ) ، تم قبوله بالمدرسة الفنية الجوية ، ولكنه لم يحتمل تدريبها الشاق فهرب منها وقرر المجيء للعراق للعمل مع جارهم ( محمود عجان ) والذي يمتلك مطبعة في بغداد ٠ وبعد اسبوعين من وصوله تم اعتقاله ، وصادف اعتقاله – لسوء الحظ – مع احداث الاربعينيه ، ثم حكموه بالاعدام وعمره ١٧ سنة ٠ وجاء والده – وهو موظف بالبريد – الى العراق ، لاستلام جثة ابنه بناءً على تبليغ الحكومة العراقية للسفارة السورية ببغداد ، ولكنهم رفضوا تسليمها اياه ٠ وبعد اشهر من ذلك ، وعندما تم توقيع اتفاق الوحدة السورية – العراقية ، جاء الاب للعراق ثلاث مرات للبحث عن ابنه من دون جدوى ، اذ كانت الاخبار تصله – من هذا او ذاك – بان ابنه حيّ وموجود بسجن ابو غريب ٠ وهو امر يتعرض له عادة كل الذين فقدوا اقرباءهم ٠ وظل الاب يبحث عن ابنه دون جدوى حتى وفاته عام ٢٠٠٥ ٠