إنَّ الأنبياء والمرسلين يمثلون نماذج بشرية بلغت من السمو والعلو منزلة رفيعة، سواء في ذواتهم أوفي منهجهم في الدعوة، ولا غرو في ذلك فهم المصطفون الأخيار المجتهدون من قبل الخالق عزّ وجل، الذين خصّهم بكرامته وأهّلهم للرسالة والنبوة، من غير أن يكون ذلك منهم على رجاء، أو كسب أو توسل إليه بعمل، بل هو أمر أُريد بهم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا..} ]مريم:58[، ومعنى اجتبينا: أي اصطفينا من العباد حتى جعلناهم أنبياء. [زبدة التفاسير، محمد سليمان الأشقر، ص402].
فمناهج دعوة هؤلاء الأنبياء الفردية والاجتماعية بما تحويه من اعتقادات وسلوكيات وأفعال، تعدّ ترجمة أو تطبيقاً واقعياً فاعلاً لهذا الدين الذي أنزله الله هدى ورحمة للعباد. [منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، 1/180].
قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ …}]الأنعام:90[، والخطاب هنا لنبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، والمؤمنين به من بعده، وأولئك أي: الأنبياء الذين هداهم الله لدينه الحق، وأهّلهم لحمل دعوته وهداية الناس إليه والاقتداء بهم: أي اتخاذهم أسوة ومثالاً ونموذجاً فيما هديناهم إليه من الأقوال والأفعال والمناهج، فهم المعصومون الهداة إلى الحقِّ بإذن الله. [تفسير الطبري، ص141].
وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاقتداء بهداهم يُؤذِن بأن الله زَوى إليه فضيلة من فضائلهم الَّتي اختصَّ كل واحدٍ بها، فقد كان الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم أعظم قدوة للناس فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، جمع الله عزّ وجل له من الفضائل ما لم تجتمع بهذا الكمِّ العظيم في غيره، وهو صاحب الخُلُق الموصوف بالعظيم.
وفي قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ]القلم:4[، يشمل هداهم ما كان منه راجعاً إلى أصول الشرائع، وما كان منه راجعاً إلى زكاء النفس وحسن الخلق والفضيلة. [تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، 7/356-357]
قال الشيخ العلّامة محمد متولي الشعراوي: وإذا أُمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمراً من ربّه، فلا بُدّ أن نعتقد أنه صلّى الله عليه وسلّم قد نفذ الأمر، وما دام أنه صلّى الله عليه وسلّم قد اجتمعت فيه مزايا الأنبياء، فحقٌّ له أن يكون خاتم النبيين والمرسلين. [تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، 6/3776].
وقال الرازي: لا شكّ في أن قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} أمرٌ لمحمد عليه الصلاة والسلام، وإنما الكلام في تعيين الشيء الذي أمر الله محمداً أن يقتدي فيه بهم، فمن الناس من قال: المُراد أن يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه، وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال وسائر العقليات، وقال آخرون: المراد الاقتداء بهم في جميع الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة الكاملة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم. والجواب: إن قوله {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} يتناول الكل. [التفسير الكبير مفاتيح الغيب (تفسير الرازي)، 5/56]
إنّ صفات الشرف وخصال الكمال كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، فداوود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء، ويوسف كان مستجمعاً لهاتين الحالتين، وموسى كان صاحب الشريعة القوية والقاهرة والمعجزات الظاهرة؛ لأنَّ الغالب عليهم خصلة معينة من خصال العبودية والطاعة، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كانوا أصحاب الزهد، وإسماعيل كان صاحب الصدق، ويونس صاحب التضرّع، فثبت أنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء؛ لأنَّ الغالب عليه كان خصلة معينة من خصال المدح والشرف، ثم أنه تعالى لما ذكر الكل أمر محمداً عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بهم بأسرهم، فكان التقدير كأنه تعالى أمر محمداً صلّى الله عليه وسلّم أن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ولما أمره الله تعالى بذلك، امتنع أن يقال: إنه قصر في تحصيلها، فثبت أنه حصلها، ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أنه اجتمع فيه من خصال الخير ما كان متفرقًا فيهم بأسرهم، ومتى كان الأمر كذلك، وجب أن يقال: إنه أفضل منهم بكليتهم والله أعلم. [التفسير الكبير مفاتيح الغيب، الرازي، 5/57].
وقال محمد رشيد رضا: أمره أن يقتدي بهداهم الذي هداهم إليه في سيرتهم، سواء ما كان منه مشتركاً بينهم، وامّتاز في الكمال فيه بعضهم، كما امتاز نوح وإبراهيم وآل داود بالشكر، ويوسف وأيوب وإسماعيل بالصبر، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس بالقناعة والزهد، وموسى وهارون بالشجاعة وشدة العزيمة في النهوض بالحق.
فالله تعالى قد هدى كل نبي، ورفعه درجاته في الكمال، وجعل درجات بعضهم فوق بعض، ثم أوحى إلى خاتم رسله خلاصة سير أشهرهم وأفضلهم، وهم المذكورون في هذه الآيات وفي سائر القرآن الكريم، وأمره أن يقتدي بهداهم ذاك.
وهذه هي الحكمة العليا لذكر قصصهم في القرآن، وقد شهد الله تعالى بأنه جاء بالحق وصدق المرسلين، وأنه لم يكن بدعاً من الرسل، فعلم بهذا أنه كان مهتدياً بهداهم كلهم، وبهذا كانت فضائله ومناقبه الكسبية أعلى من جميع مناقبهم وفضائلهم؛ لأنّه اقتدى بها كلها، فاجتمع له الكمال ما كان متفرقاً فيهم إلى ما هو خاص به دونهم، ولذلك شهد الله تعالى له، بما لم يشهد به لأحد منهم، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ]القلم:4[، وأما فضائله وخصائصه الوهبية، فأمر تفضيله عليهم فيها أظهر، وأعظمها عموم البعثة، وختم النبوة والرسالة وإنما كمال الأشياء في خواتيمها، صلى الله عليه وعليهم أجمعين. [تفسير المنار، محمد رشيد رضا، 7/597-598].
وقال العلامة محمد أبو زهرة: قد أُمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاقتداء بهم جميعاً في صفاتهم كلها مجتمعة؛ لأنّه خاتم الأنبياء، ولأنّه مخاطب للأجيال كلها، وأرسل للناس كافة بشيراً ونذيراً، فكان هو وشريعته صالحين لكل الأجيال؛ لأنّه وشرعه جمعه كل ما عند الأنبياء السابقين من صفات فاضلة ومراتب من التكليفات عالية. [زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، 5/2584].
وإذا كان ذلك من مقام رسالته، فقد أوجب الله سبحانه وتعالى الدعوة إليها؛ لأنّها الكمال البشري، ولأنه لا يريد منهم جزاء ولا شكوراً؛ ولذا قال تعالى مخاطباً نبيّه الكريم: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}، لا أريد منكم أي أجر من مال أو جاه أو سلطان؛ لقد ظنوا بادي رأيهم أنه يريد مالاً فعرضوا عليه مالهم، أو يريد السلطان فيسودوه عليهم، فبيَّن الله لنبيّه أن يقول لهم إن شيئاً من أعراض الدنيا لا يريدها، ولكن يريد الإصلاح والتذكير بالله واليوم الآخر {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}.
إنَّ المقصود من إنزال الله تعالى القرآن على نبيه الكريم ليس مالاً يأخذه، ولا سلطاناً يفرضه، ولا سيادة يطلبها، وإنما جاء للذكرى والموعظة والهداية للعالمين أي: للعقلاء أجمعين، فهو ذكرى لهم بما فيه صلاحهم، وقيام أمرهم، ونشر العدالة، وذكرى لهم باليوم الآخر، وما فيه من حساب وعقاب، وذكرى ربّهم بأن يكونوا دائماً ذاكرين، أي: تذكر دائم لله تعالى، وفي ذكر الله طب للقلوب من أدوائها. [زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، 5/2584].
وهذا يدل على عموم رسائل الإسلام، فهي رسالة كاملة وعامة ومنزهة عن الأغراض المادية كلها، فعلى حمَلة الرسالة ودعاتها أن يعرفوا طبيعة هذه الرسالة؛ ليرتفعوا إلى مستواها، وينزّهوا أنفسهم وحياتهم ودعوتهم عن أعراض الدنيا ومتاعها الرخيص. [التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، 2/475].
ملاحظة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” إبراهيم – عليه السلام – أبو الأنبياء والمرسلين”، للدكتور عليّ محمد الصّلابي.
المراجع:
إبراهيم (عليه السلام) أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.
تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور.
تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، القاهرة، 2013م.
التفسير الكبير مفاتيح الغيب (تفسير الرازي)، فخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط 2، 1417ه- 1997م .
تفسير المنار (تفسير القرآن الحكيم)، محمد رشيد رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1990م.
التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، نخبة من كبار علماء القرآن وتفسيره بإشراف الأستاذ الدكتور مصطفى مسلم، كلية الدراسات العليا والبحث العلمي، جامعة الشارقة، الإمارات العربية، 2010م.
زبدة التفاسير، محمد سليمان الأشقر.
زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، 2008م.
منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط14، 1414ه، 1993م.