ربما قبل أكثر من عقدين لو وَجَدتَ أحدهم يتحدث عن إمكانية إختفاء أو زوال الصحافة الورقية لإتهمتهُ بأنه ضَربٌ من الجنون، أو حتى من مُبالغات الأمور، إذ كيف تزول من بين الأيادي والأصابع تلك المُتعة التي كانت تأخُذنا إلى عالم الأخبار والفضاء الواسع من المعلومات في ذلك الزمن الجميل؟ وكيف يختفي ذلك الشوق للمعرفة والإطلاع على أحداث العالم مكتوباً أو مُصوّراً على صفحات الجرائد ونحن نُطالعها في ساعات الصباح أو في أوقات الإستراحة، لكنها مع كُلّ ذلك الحضور الفعّال رحلتْ عن عالم القارئ مع شَغفها مرحلة التوثيق كما كان يُسمّيها المُختصين في مجال الإعلام على إعتبار أن الصحافة الورقية هي من بديهيات توثيق الأحداث وأرشفتها.
تزامن مع هذا الزوال تناقص الإهتمام بالإعلام المسموع (الراديو) وإنقراضه التدريجي حيث لم يعُد له وجود أو سماع لإصوات المُذيعين في هذا الجهاز سوى في السيارات والمركبات وقليلاً من المنازل التي لازالتْ تحتفظ به للذكرى.
ولملئ هذا الفراغ إستطاعتْ الفضائيات بإشغال المساحة الفارغة التي أحدثتها الصحافة الورقية برسائل إعلامية وبث يستمر لمدة أربع وعشرين ساعة مُتواصلة، خصوصاً مع توفر آليات ومُستلزمات أوفر وأوسع في إيصال المعلومة إلى المُتلقّي عندما تحققت نبوءة أن العالم أصبح قرية صغيرة، وهي فعلاً بعد أن تحوّل هذا الكون الواسع إلى حارة صغيرة في تبادل الأخبار والرسائل الإعلامية.
ومن الأمور التي ساعدتْ الفضائيات في سرعة الإنتشار هو غياب الرقيب الحكومي أو المَقّص الذي كان يُحدد المرغوبات من الممنوعات في الصحافة الورقية وكذلك إعطاء حُريّة وفضاء أوسع للإنتشار وتبادل المعلومات عكس الحدود الجُغرافية للبلد التي كانت تتقيد بها الصحافة الورقية، لذلك أصبح نقل المعلومة وإنتشارها ربما يتوازى مع سُرعة الصوت في الوصول إلى حيث يُريد المُرسل أو يرغب بإيصالها، فكانت النتيجة تناسُل أعداد الفضائيات وإزديادها بشكل مُخيف أثّرَ حتى على المستوى المهني والغاية من الرسائل الإعلامية، فإزدادت أزمات التخبّط والفوضى وعدم إدراك معنى الإعلام ومفهوم الرسالة الإعلامية وأصبحت أغلب الفضائيات مَرتعاً خَصِباً لمن لا مهنة له بعيداً عن التخصص والموضوعية وحتى المهنية في إرباك لم تَسلَم مِنه عقول المُشاهدين، وما ساعد على هذه الفوضى هو الإنترنت الذي ساهم بشكل أو آخر في سُرعة إيصال المعلومة التي كانت تفتقد إليها الصحافة الورقية في التأخير وربما الإستهلاك الزمني للخبر إلى الحدّ الذي باتَ المُتلقّي يجد صعوبة في تنوع مصادر الخبر وتشتُت إنتباهه وعدم تركيزه بعد أن أصبحت أغلب الفضائيات عبارة عن دكاكين للسمسرة والرقص على جِراحات الفقراء والمُتاجرة بملفات الفساد مما أسقطها في فخ الإعلام الرخيص.
وبعد ذلك الإنتشار المُفزع للفضائيات العربية يبدو أنها وصلت اليوم إلى مرحلة الحقيقة والواقع الذي يفرض عليها التقنين والإختزال خصوصاً بعد التخبّط والفوضى الذي رافق أغلب الأنظمة العربية ومافرضه هذا الواقع من ظروف إقتصادية بدأت بالتهالك والتهرؤ طالتْ جميع المرافق ومن بينها المجال الإعلامي مُتزامنة مع حركة الكساد العالمي الذي طال الواقع العربي وكان لابد من إيجاد حل والشروع لتقنين وإختصار أو حتى إغلاق الكثير من الفضائيات تحت ذرائع العجز المالي وعدم وجود جِهات داعمة لهذه الفضائيات بصورة متواصلة لذلك كان من البديهي أن يبدأ العدّ التنازلي لِتناقص أعداد هذه الفضائيات مع كل تلك الصعوبات الإقتصادية وقِلة الدعم وإنتشار المُنافس إلى إختصار أعدادها ومؤسساتها وتقنين نفقاتها شَمِل حتى العاملين بين أروقتها، بحيث لم يعدّ من البعيد أن ترى إحدى الفضائيات قد أعلنت إعتزالها أو إغلاقها بسبب قِلة الدعم أو تعثر في برامجها.
الغريب بل العجيب في الأمر أن يشمل هذا التقنين حتى الفضائيات التي كانت تتربّع على عَرش المقدرة الإقتصادية في توفير أفضل التكنولوجيا وخُبراء الإعلام وإستوديوهات في دول أوروبية تعتبر أرضاً خصبة للإعلام الحُر، لكن هذه الفضائيات وعلى مايبدو بدأت تَطالها الأوضاع الإقتصادية الصعبة التي يُعاني منها العالم اليوم، لذلك بدأت بنقل أكثر إستوديوهاتها ومُعداتها والعاملين فيها إلى أماكن ودول أقل تكلفة وتوفيراً وربما إلى إختزال الكثير من الإستوديوهات وإنتقالها إلى الدول المؤسِسة لها.
بِدايات الإنحسار لتلك الفضائيات قد بانتْ على مايبدو في مؤشر إن الإعلام العربي بدأ يفقُد رونقه ومساحته في البث بعد تلك العثرات التي بدأت تُطيح ببعض الفضائيات بين الحين والآخر لِيبقى السؤال الأهم الذي يختصر المشهد الإعلامي وهو..هل أصبحنا اليوم على أعتاب مرحلة شبيهة بإختصار وإندثار الصحافة الورقية؟ ثم هل هناك من يستطيع أن يأخذ كل هذه المساحة والفضاء التي سيتركها تناقص تلك الفضائيات؟ سؤال بإنتظار الإجابة عليه.