للفيلسوف والكاتب الألماني فولرام إيلنبرغر (1972)، الذي سبق وأن حقق كتابه “عصر السحرة” … العقد العظيم للفلسفة (1919 – 1929)” أفضل المبيعات في العام 2018، وتناول فيه حيات كل من فنغشتاين وهايدغر وبنيامين وكاسيرير، صدرت ترجمة باللغة الهولندية لكتابه المهم الآخر ” نيران الحرية”، الذي تناول فيه حياة وفكر أربع فيلسوفات من عصر واحد؛ هُنَّ: آين راند، هنّا أرنت، سيمون فاي، وسيمون دو بوفوار.
لقد تناول إيلنبرغر، المعروف أيضاً ببرنامجه التلفزيوني الشهير “فلسفة اللحظة العظيمة”، في كتابه هذا، أحلك فصل في تاريخ أوروبا الحديث الذي تمثل في السنوات (1933 – 1943). ورصد صيرورة وتطور الأفكار المستقبلية لهؤلاء الفيلسوفات الأربع، حول العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الفرد والذات، بين الرجل والمرأة، بين الجنس والجندر، وبين الحرية والشمولية. وتتبعهن من لينينغراد الستالينية إلى هوليود، ومن برلين هتلر واحتلال باريس إلى نيويورك.
الهروب من الحرب
ففي العام 1919، شدت آين راند الرحال ووالداها إلى شبه جزيرة القرم. ثم انتقلت، في وقت لاحق، إلى الولايات الأمريكية بمفردها. أما سيمون فاي وهنّا آرنت ففرا من النازيين في الثلاثينيات بسبب أصولهما اليهودية. وعندما تقدم الفهرماخت إلى العاصمة، باريس، غادرتها سيمون دو بوفوار، عام 1940. لكنها سرعان ما عادت إليها.
يقدم إليلنبرغر حياة الفيلسوفات الأربع على شكل فسيفساء يقصها ويحررها بذكاء. حيث يرصد تدفق عملهن وحياتهن. كما أنه يعطي لفصول الكتاب عناوين مثيرة للاهتمام؛ مثل الفصل الأول: شرارة 1943؛ دو بوفوار مزاجها جيد، وفاي في نشوة، راند غريبة عن نفسها وآرنت في كابوس”. أما الفصل الثاني: 1939-1938: فنقرأ: “فاي تجد الرب، وراند تجد الحل، وأرنت تجد قبيلتها، ودو بوفوار تجد صوتها”، إلى آخره.
لكن بحسب الكاتب، فما يجمع هؤلاء الفيلسوفات هو أنهن كن يعانين في سن مبكرة بسبب السؤال عما يجعلهن مختلفات عن الآخرين أو الأخريات. بالإضافة إلى ذلك، غالبا ما يهتمن، أربعتهن، بعلاقة الفرد والجماعة والعلاقة بين الذات والآخر.
ينتقل الكاتب بسلاسة شديدة بين المفكرات الأربع. يُشاركُنا حكايات شيِّقة ويشرح أفكارهن بوضوح وبشكل مناسب. كما أنه يتعامل معهن كشخصيات، فيخلق بذلك قصة حميمية، تصب في قالب مع مزيج رائع من الأدب والفلسفة والتاريخ.
الأخلاقيات المعاكسة
هاجرت آين راند، Ayn Randالروائية والفيلسوفة (1905 – 1982) من الاتحاد السوفييتي إلى أمريكا في سن العشرين. كانت الحرية الفردية هي المبدأ التوجيهي في حياتها وعملها. جاء نجاحها الكبير مع الكتاب الأكثر مبيعا “The Fountainhead” “المنبع الأزلي” في عام 1943، الذي تم تحويله إلى فيلم عام 1949. وصدرت لها بعدئذ رواية تحت عنوان “أطلس يستريح” والتي لاقت، أيضا، نجاحا كبيرا بحيث اعتبرها قراء مجلة التايم من أهم الكتب في القرن العشرين. ويشير العنوان إلى الأسطورة اليونانية حيث يحمل أطلس العالم على كتفيه. وترى راند أن صانعي الثروة هم “أطلسيون حداثيون”. إن راند مكروهة ومشهود لها في نفس الوقت. فالأنانية، بالنسبة لها، فضيلة أخلاقية. أما الإيثار فهو أمر سلبي. فمن يقبل المساعدة يسلِّمُ نفسَه لما يرغب الآخر في تقديمه ولا يتعهد بأي شيء بعد ذلك. ويحدث هذا على حساب الإبداع مما يعني نهاية مجتمع مزدهر. وقد يبدو هذا وحشيا، لكن بالنسبة لراند، هذا منطقي تماما.
فهي تؤمن، أيضا، بأهمية المسؤولية الشخصية والإبداع. فإذا تحمَّلَ المرءُ المسؤوليةَ عن نفسِهِ، فإنه يستطيع أن يتحمَّلَ مسؤوليةَ المجتمعِ. وتعتقد بأن التغيير الاجتماعي يجب أن يبدأ بثورة أخلاقية من داخل كل فرد، وبأن انتشار الأفكار والمثل الصائبة يتم من خلال الخطاب العقلاني والإلهام الفني. ووفقا لراند، يجب أن يكون تدخل الدولة في حده الأدنى، فقط لحماية عدد قليل من الحقوق الفردية، مثل الحفاظ على الحياة والممتلكات وما مسموح به أخلاقيا. وكل تدخل يكون على حساب روح المبادرة والإبداع. وتنكر راند أن منظومتها الفلسفية “الموضوعانية ” التي تجمع ثلاث صفات، الجوهرية والذاتية والموضوعية، ستدمر المجتمع بسبب الأنانية المفرطة. وهي تعتقد على العكس من ذلك؛ فقط مجتمع من الأفراد الفخورين، الذين يسعون وراء سعادتهم في الحياة ويفضلون العقل على المشاعر الزائفة، هو مجتمع عادل ومتناغم. بحسب راند، جميع الأشكال الأخرى تؤدي إلى العنف. لكن ما كانت تفكر به راند، وفقا لسيمون فاي، لم يكن ذلك ممكنا. هكذا كتبت في دفتر ملاحظتها: “يود المرء أن يكون أنانيا، ولا يمكنه أن يكون كذلك. هذه هي السمة الأكثر لفتا للنظر في بؤسه وعظمته”.
الاقتلاع من الجذور
كانت سيمون فاي (1909 -1943)، Simone Weil شديدة الذكاء والهشاشة في الوقت نفسه. كانت تهتم بمحنة عمال المصانع، لدرجة أنها ذهبت للعمل في المصنع تضامنا معهم. فكتبت في مقال تحت عنوان “الشخص والمقدس”: “في حين أن العمل الجسدي يتطلب جهدا، فهو ليس مهينا في حد ذاته”. لكن كان الأمر بالنسبة لفاي مهينا. لقد كانت خرقاء للغاية وبطيئة، وارتكبت العديد من الأخطاء، وبالتالي لم تكن فعالة وكانت السبب في تعطيل عملية الإنتاج. لم تكن فاي فيلسوفة فحسب، بل ناشطة سياسية ومفكرة روحية. تقول في كتابها الموسوم” L’Enracinement”، أن الإنسان المعاصر “اقتلع من جذوره”. هذا الاقتلاع ليس نتيجة الحرب فحسب، بل هو نتيجة لتزايد قوة المال وفقدان العلاقات مع المجتمعات التقليدية. من أجل العثور على الجذور مرة أخرى، لا تناقش فاي العودة إلى التقاليد، ولكن من أجل موقف جديد تجاه العمل البدني”. والمفهوم المتكرر في عملها هو الانتباه. القدرة على الانتباه هي ما يجعلنا بشرا. لن تنجح في جذب الانتباه بالجهد. يتعلق الأمر بالانتظار والانفتاح والسماح بحدوث ذلك لك. وبذلك، فإنك تمحو مصلحتك الذاتية. بالنسبة لفاي، الانتباه هو أكثر بكثير من مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة؛ الانتباه يجلب النور للروح. لقد أظهرت فاي تضامنها مع المضطَهدين، البائسين والفقراء، ليس فقط في عملها، ولكن أيضا في حياتها. على سبيل المثال، رفضت راتبا أعلى من المساعدة الاجتماعية عندما كانت تعمل كمدرسة فلسفة، وعندما كانت مريضة، لم ترغب في أن تأكل أكثر من الحصص الغذائية الموزعة آنذاك في فرنسا المحتلة. توفيت بمرض السل في نفس العام، 1943، الذي ظهر فيه كتاب سيمون دو بوفوار (1908 – 1986) لأول مرة تحت عنوان “L’Invitée” “الضيفة”. فبهذه العبارة تنتهي هذه الرواية وتعلن الراوية بأن الشخصية الرئيسة “فرانسواز، قد اختارت أخيرا نفسها”. وهذا يذكرنا بالعبارة المعروفة “السعي وراء السعادة” المأخوذة من إعلان استقلال الولايات المتحدة وتعتبر حجر الأساس لفلسفة راند والمستوحاة من نيتشه. إن راند تعلن أن الإيثار خطيئة وهي تدعو إلى الأنانية. كما جاء على لسان بطل روايتها هوارد رورك “لكل شخص سعادته، ليس سعادة شخص آخر”. فعلى عكس راند، فإن دو بوفوار لا ترى العلاقة بين الذات والآخرين على أنها صراع. فراند تسعى جاهدة من أجل “الاستقلال الميتافيزيقي” بينما ترى دو بوفوار أن الأمر كله يتعلق “بالتضامن الميتافيزيقي”.
كانت دو بوفوار جالسة، في الطابق الثاني من مقهى فلور، منشغلة بثلاثة أسئلة كلاسيكية: ما هو البعد البشري؟ ما هي الأهداف التي يمكن للإنسان أن يضعها لنفسه، وما هي الآمال التي يمكنه أن يستمتع بها؟ لقد طلب منها الناشر جان جرنيي Jean Grenier أن تكتب نصا عن الوجودية. هكذا سماها الآخرون. لكن دوبوفوار كانت تتجنب هذا المفهوم بوعي. وككاتبة، فقط تفعل ما أحبته. وهو تكريس نفسها قدر الإمكان للأسئلة التي شغلت حياتها والتي لم تعرف إجابتها بعد. أولا، مسألة المعنى المحتمل لوجودها وثانيا، مسألة أهمية الآخرين في حياتها.
أما هنّا أرنت، Hannah Arendt التي طاردها النازيون، فقد فكرت أيضا في العلاقة بين الذات والآخر. لقد ولدت في ألمانيا، هانوفر، عام 1906، كطفلة وحيدة لوالدين يهوديين وتوفيت عام 1975. وواصلت لتصبح واحدة من اكثر المنظرين السياسيين في القرن العشرين. درست اللاهوت والفلسفة على التوالي في برلين وماربورغ، حيث أقامت علاقة حب مع مارتن هايدغر. ثم فرت إلى فرنسا بعد وقت قصير من وصول هتلر إلى السلطة في العام 1933. حيث التقت بكامو وسارتر، من بين آخرين. وانتهى بها الأمر في الولايات المتحدة. هناك كتبت مقالا جميلا ومؤثرا “نحن لاجئون”. وفي عام 1941، كتبت “أصول الشمولية”.
ما كان يهم آرنت في المقام الأول هو استغرابها لكيفية تجريد الشر من رعبه. فكتابها “أصول الشمولية” يدور حول ألمانيا النازية وروسيا البلشفية، ووفقا لها، كلاهما أنظمة شمولية.
ففي النظام الشمولي، يسود الإرهاب والعنف، فقط كوسيلة للترهيب. اما الخوف فهو الآلية الرئيسية. وتسعى الحركات الشمولية إلى تعبئة الجماهير وتعزيز انعدام الثقة المتبادلة بين المواطنين. الشمولية، وفقا لآرنت، قد وضعت حدا للمسافة بين الحاكم (الفوهرر- القائد) والمحكومين. وتذكِّر كيف صاغ هتلر هذا الأمر بقوله: “كل ما أنتَ عليه، أنتَ من خلالي؛ كل ما أنا عليه، أنا من خلالك وحدك”.
إن تأثير أفكار الفيلسوفات الأربع آرنت، وراند، وفاي، ودو بوفوار شكّل حاضرنا. فليس تفكريهن فحسب، بل وجودهن بالكامل، كلاجئات ونشيطات ومقاومات، شاهدٌ بشكل مثير للإعجاب على التوق التحرري للأفكار.
نشر في الطريق الثقافي، يوم 4 تموز\يوليو 2022 العدد 105