18 ديسمبر، 2024 9:09 م

حوائط الفيسبوك ومراياه

حوائط الفيسبوك ومراياه

مع الفسابكة تختفي الشكوك والأسئلة ويحضر ببذخ اليقين والإجابات، يقدمها ‘حكماء’ تعوزهم المعرفة والزهد. لا يتفرغ زاهد للتلصص على ما عند غيره ولا يستعلي الزاهد الحق على آخرين.

انتقم لنفسه محمود عبدالرازق عفيفي «أديب الشباب»، الأسبوع الماضي، واستبد بمساحة كنت أنوي أن يشاركه فيها بعض أعراض الفسابكة. والفسابكة الذين يُطلق عليهم أيضا «المفسبكون» هم مدمنو هذا الفضاء الأزرق وقد صار لهم بديلا انتقاميا من واقع لا ينكرونه ولا يسعون إلى تغييره فيتعالون عليه ويدّعون الزهد في حياة جحدت قدراتهم وحاربت مواهبهم، ولكنه زهد فقراء لا يملكون خيارا آخر.

تحفل حوائط الفيسبوك ومراياه المكبرة لأنفس مشوَّهة بأمراض لا تضر أحدا إلا باعتبارها نيرانا قصيرة العمر تشتعل عاليا مثل نار القش ثم تنطفئ ولا تخلف جمرا.

وربما يرصد باحث كيف قضى السلوك الفيسبوكي على أمراض نفسية بتوفيره بدائل ديمقراطية أنهت احتكار المعرفة وزاحمت منصات النشر، كما أتاح لكل قادر على الكتابة حق التعبير وحرية الكذب لدرجة ادعاء الألوهية.

خلّص الفيسبوك البعض من أمراضه النفسية ولكن بثمن باهظ.. ركام من المرارة والإحباط وبث السموم لقتل آخرين تمهيدا لمضغ لحومهم وكراهية كل إنجاز وتعقب كل ناجح، واستئناس الألم استمتاعا به واستدعائه استدعاء مازوخيا لم يخطر ببال الخواجة مارك الذي خطط لأن يكون ابتكاره وسيلة للتواصل الاجتماعي.

شاشة يعبر فيها الإنسان عن أشواقه وأفراحه الصغيرة بالعثور على كتاب مدرسي قديم، مقابلة صديق طفولة، رؤية صور فوتوغرافية في صفحة زميل دراسة مقيم في قارة أخرى، جنيه ورقي وقّعه مدرس قبل 40 عاما مكافأة على حلّ مسألة صعبة، إبداء الاستحسان والحماسة للوحة ساذجة رسمها ابنك، وغضب ابنتك من أخيها الذي كسر لعبتها، مشاركة أغنية استدعت من اللاوعي شجونا وذكريات ما كان لها إلا أن تخبو. ومن هذه الأشواق أيضا الدعوة إلى الاحتشاد لإسقاط طاغية بعد تسفيه خطابه وأدائه ونزع الهيبة عنه.

مع الفسابكة تختفي الشكوك والأسئلة ويحضر ببذخ اليقين والإجابات، يقدمها «حكماء» تعوزهم المعرفة والزهد. لا يتفرغ زاهد للتلصص على ما عند غيره ولا يستعلي الزاهد الحق على آخرين بمن فيهم مساكين يظنون الله قد تفرغ لإحباط أعمالهم ومنح الآخرين قسطا أكثر وفرة من الأموال والشهرة. هكذا يسهل عليك أن ترى نسخا من «أديب الشباب»، طبعات مزيدة غير منقحة، لا تلوث جدران الشوارع ولكنها تعكر مزاجك مؤقتا حين تصادفك في هذا الفضاء الأزرق وكانت في السابق تقتصر على شخص، والآن لم تعد البارانويا حبيسة الأوراق.

في التسعينات من القرن العشرين دفعني الفضول لمقابلة كاتب أتيحت له كل أسباب الشهرة. لن أذكر اسمه؛ فلا يفيد أحدا، ولن يعرفه جيل الفيسبوك وأخشى أن يكون حيا فيتأذى. في ديسمبر 1991 قضت محكمة أمن الدولة بسجنه ثماني سنوات عقابا على «رواية» وصفها على الغلاف الأخير بأنها «كتاب» بدأه قبل ثماني سنوات كرحلة «نحو الحقيقة» تحت عنوان «محاكمة الإله»، وأنه «واحد من كتاب القصة العماليق الصعاليك في عصر التماليك والمحاذير أطلق كاتب صرخة قبل ميلادها بمائة عام وربما أكثر! يمزق بها عن الحقيقة سربال الخرافة لتظهر أمام الأعين سافرة بكل دقائقها وأسرارها».

في نهاية الكتاب قائمة بأكثر من عشرة أعمال أغلبها روايات، أكثر عددا وحجما من آثار مالك حداد ويحيى الطاهر عبدالله معا. منها رواية «بصمات فوق الماء» التي أخرجها يس إسماعيل يس في فيلم بالعنوان نفسه عام 1985. وقال لي إن التلفزيون أنتج له مسلسلا عنوانه «القضية رقم 1» بطولة أحمد زكي. وأطلعني على كتاب عنه بعنوان «محاكمة سلمان رشدي المصري.. مسافة في عقل رجل أم طعنة في قلب أمّة؟»، تأليف أحمد أبوزيد، وتقديم محمد عبدالله السمان (1992).

قضى الكاتب عاما في السجن، وفي عام 1992 قضت محكمة بحبسه سنة ومصادرة كتابه «الفراش» بتهمة ازدراء الأديان. فهل كان المصير سيختلف لو حظي بالاهتمام اللائق؟ أخبرني بأن الناقد محمود الربيعي قال إن روايته «الحقيقة الضائعة» تحتاج إلى تعديل طفيف لتكون في مستوى أعمال شكسبير. لم أجد أمارة على أيّ «شكسبرة»، ولم أقرأ كلام الربيعي بل قرأت إهداءه لروايته «الأبناء يدفعون الثمن» إلى معظم كتاب مصر من نجيب محفوظ وثروت أباظة إلى كمال أبوالمجد وفهمي هويدي وغالي شكري، فهذا يغمس قلمه في البول! وذاك كلب ينبح، وذاك عميل.

اتهامات لا تختلف عن الأعراض الفيسبوكية إلا في الانتشار. فهل نلوم زوكيربرغ؟

نقلا عن العرب