المستقبل سوف يُجيب .. هل يقضي سلاح العقوبات الأميركية على “الدولرة” في التجارة الدولية ؟

المستقبل سوف يُجيب .. هل يقضي سلاح العقوبات الأميركية على “الدولرة” في التجارة الدولية ؟

وكالات – كتابات :

تصاعدت خلال السنوات الأخيرة المطالب باستخدام العُملات الوطنية في المبادلات التجارية بين الدول، وهي المطالب التي ارتبطت بالسياق الراهن للاقتصاد العالمي؛ إذ تُشير تقديرات التجارة العالمية إلى هيمنة “الدولار الأميركي” على نحوٍ واسع على حركة هذه التجارة؛ حيث يتم استخدامه فيما لا يقل عن أربعة أضعاف التجارة الخارجية الأميركية.

وبالنسبة إلى معظم الدول النامية أو الصاعدة، فإن “الدولار” يُهيمن على نحو: 90% من إجمالي تجارتها مع العالم الخارجي، ولكن عقب الإنهيار المالي لعام 2008، كافحت العديد من البلدان للوصول إلى “الدولار” الأميركي لإنقاذ عُملتها الوطنية؛ إذ شدد “بنك الاحتياطي الفيدرالي” الأميركي قبضته على العُملة الاحتياطية العالمية، ومن ثم، أفضى نقص السيولة الناتج عن ذلك إلى صعوبة الوصول إلى العديد من العُملات؛ ما أدى إلى انخفاض قيمتها مقابل “الدولار”؛ بحسب الباحثة الاقتصادية؛ “سنية عبدالقادر نايل”؛ في مستهل تحليلها المنشور على موقع مركز (إنترريغونال) للتحليلات الإستراتيجية.

وبحثًا عن حلول، اقترحت العديد من الدول إزالة “الدولار” عن التجارة، وإجراء تجارة ثنائية بالعُملات الوطنية.

مؤشرات رئيسة..

في السنوات الأخيرة؛ مع زيادة استخدام “الولايات المتحدة” فرضَ العقوبات الاقتصادية، أصبحت العديد من الدول أكثر تحفزًا لاستكشاف التجارة باستخدام العُملات الوطنية، واستخدام أنظمة الدفع الدولية بخلاف النظام الدولي؛ (سويفت) الذي يتأثر بشدة بـ”الولايات المتحدة”.

وقد نما بالفعل دور العُملات الوطنية مؤخرًا عقب أكبر “عقوبات أميركية”؛ على الإطلاق، بقيادة “الولايات المتحدة”؛ على “روسيا”، بعد أن شنت “موسكو” عملية عسكرية في “أوكرانيا”.

وتتمثل أهم مؤشرات تصاعد العُملات الوطنية في التجارة بين الدول فيما يأتي:

01 – قيادة “الصين” و”روسيا” اتجاه التخلي عن “الدولار” عالميًا..

على الصعيد العالمي، تقود “الصين” و”روسيا” و”الهند” جهودًا كثيفة لإجراء تجارة بالعُملات الوطنية، خاصةً بعد سقوط “روسيا” تحت وطأة “العقوبات الغربية”؛ في عام 2014.

ولتمكين مثل هذه العملية، أنشأت “روسيا والصين” آليتَي دفع خاصتَين بهما بدلاً من نظام (سويفت) العالمي، وهما: “نظام تحويل الرسائل المالية”؛ (SPFS)، و”نظام الدفع عبر الحدود بين البنوك”؛ (CIPS)، لإجراء عمليات ثنائية ومتعددة الأطراف، كما انضمت “الهند” إلى هذه الجهود؛ حيث يمكن اعتبار قرار “الهند”؛ بشأن التجارة الدولية عبر العُملات الوطنية، حدثًا بارزًا؛ ليس لتمكين تجارة “الروبية والروبل” فقط، بل لتعزيز تجارة “نيودلهي” في الجوار المباشر والممتد أيضًا، بما في ذلك “إيران وآسيا الوسطى وجنوب القوقاز”.

واتساقًا مع هذا المنحى، ناقشت “منظمة شنغهاي للتعاون”؛ (SCO)، التي تُمثل دولها نحو: 30% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، في آذار/مارس 2022، مسودة خارطة الطريق للدول الأعضاء في المنظمة لزيادة حصة العُملات الوطنية في التسويات المتبادلة.

ومن المتوقع أن تتسارع الجهود هذا العام؛ للتغلب على “العقوبات الغربية” على “روسيا”؛ العضو الرئيس، في المنظمة.

02 – توجه “الهند” إلى تدويل “الروبية”..

من المتوقع أن يُعزز القرار الجديد لـ”الهند”؛ بشأن التجارة بالعُملة المحلية، التجارة عبر ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب؛ (INSTC)؛ حيث إن تدويل “الروبية” يمكن أن يؤدي إلى هيكل مالي متعدد الأقطاب تم تصوره من قبل مجموعة (البريكس)؛ إذ تتمتع دول “آسيا الوسطى وجنوب القوقاز” بصلات قوية بالأنظمة الروسية، ومن ثم يسمح استخدام “الروبية” في المبادلات التجارية مع هذه الدول بخدمة المصالح الاقتصادية الهندية.

ويمكن أن تؤدي هذه المعطيات إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، وبالتبعية يؤدي إلى احتمالية إيجاد أنظمة أكثر تعقيدًا من الترابط الاقتصادي بين الدول الكبرى، وإلى انخفاض في الصراع بين الدول بسبب هذا، وإلى توازن في القوى بينها أكثر تكافؤًا.

03 – تعزيز دول الشرق الأوسط دورَ العُملات المحلية..

في منطقة “الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”، سعت “تركيا” إلى توسيع روابطها التجارية بالعُملات الوطنية في المنطقة وخارجها، كما وقَّعت “تركيا”، في كانون ثان/يناير 2022، صفقة تبادل عُملات بنحو: 05 مليارات دولار مع دولة “الإمارات” لمدة ثلاث سنوات، ووقَّعت اتفاقية مماثلة مع “قطر”؛ في آيار/مايو 2022، بقيمة: 15 مليار دولار.

وعلى الصعيد العالمي، وقَّعت “تركيا” اتفاقيات مقايضة للتجارة بالعُملات الوطنية مع: “روسيا والصين وكوريا الجنوبية” وبعض الدول الإسلامية.

ومن المتوقع أن تُعمِّق القوى الإقليمية تسوية التجارة البينية والمعاملات المالية بعُملاتها الوطنية بقدر أكبر.

04 – اهتمام إيراني باستخدام العُملات المحلية في المبادلات..

أجرت “إيران” تجارة بالعُملات الوطنية مع: “لبنان وسوريا والعراق”، وتسعى إلى مزيد من التجارة مع “تركيا”؛ التي كانت مترددةً في تنمية تجارتها بالعُملات الوطنية بسبب العقوبات المفروضة على “إيران”.

وتأتي “إيران” مدفوعةً برغبتها في التغلب على “العقوبات الغربية” وتوسيع تجارتها بالعُملات الوطنية التي تتم مع “روسيا والهند والصين”. وفي هذا الإطار، ركزت “إيران” على التعاون مع “الهند” في التجارة بالعُملة المحلية؛ حيث تم استخدام تجارة “الروبية” لتصدير الغاز والنفط؛ إذا أطلق كلا البلدين آلية تجارة “الروبية”؛ بـ”الريال الإيراني”، ويمكن أن تنمو التجارة الثنائية إلى: 30 مليار دولار، كما أن آلية تجارة “الروبية-الريال” يمكن أن تُساعد الشركات؛ من كلا البلدين، على أن يتعامل بعضها بعض على نحو مباشر وتجنب تكاليف الوساطة من طرف ثالث.

وتجلى هذا التوجه في العلاقات “الإيرانية-الروسية”؛ إذ صرح الرئيس الإيراني؛ “إبراهيم رئيسي”، في كانون ثان/يناير الماضي، بأن “طهران” و”موسكو” ناقشتا القضايا النقدية والمصرفية، واتفقتا على إزالة الحواجز التجارية لزيادة التجارة إلى ما يُعادل: 10 مليارات دولار سنويًا؛ وذلك من خلال اتخاذ خطوات لكسر هيمنة “الدولار” على العلاقات النقدية والمصرفية والتجارة بالعُملة الوطنية، كما وقَّعت الدولتان مذكرة تفاهم، في تموز/يوليو 2022، لاستخدام عُملتَيهما الوطنيتَين في المعاملات التجارية الصغيرة.

05 – تحذيرات من إضعاف هيمنة “الدولار” على التجارة الدولية..

حذر مسؤول كبير في “صندوق النقد الدولي” من أن العقوبات المالية غير المسبوقة المفروضة على “روسيا”؛ بعد تدخلها العسكري في “أوكرانيا”، تُهدد بإضعاف هيمنة “الدولار” الأميركي تدريجيًا، وتؤدي إلى نظام نقدي دولي أكثر تشتتًا؛ حيث إن الإجراءات الشاملة التي فرضتها الدول الغربية عقب التدخل العسكري الروسي في “أوكرانيا”، بما في ذلك القيود على بنكها المركزي، قد تُشجع على ظهور تكتلات عُملات صغيرة على أساس التجارة بين مجموعات منفصلة من البلدان.

واتفق العديد من الخبراء الدوليين مع “صندوق النقد الدولي”، ويُجادلون أيضًا بأن التطرف الذي ذهبت إليه “واشنطن”؛ في محاولة لمعاقبة “روسيا”، قد جعل الدول الأخرى تُدرك أهمية تجاوز أي اعتماد على “الدولار” الأميركي وعلى أي نظام مالي مدعوم من “الولايات المتحدة”، كما أن التجزئة على مستوى أصغر أمر ممكن بالتأكيد؛ حيث يُشاهد في الفترة الأخيرة قيام بعض البلدان بإعادة التفاوض بشأن العُملة التي تتقاضى بها مقابل التجارة.

سياق مُوَاتٍ..

يمكن للتداول بالعُملات الوطنية أن يُخفف القلق بشأن استخدام “الدولار” في التجارة؛ ما يُساعد الدول على استيراد المواد الخام والطاقة بأسعار معقولة لأنشطتها التصنيعية. ومع ذلك؛ فإن هناك العديد من القيود التي يجب الانتباه إليها.

ويمكن توضيح أهم أسباب لجوء الدول إلى التبادل التجاري بالعُملات الوطنية من خلال ما يأتي:

01 – تقنين الاعتماد على “الدولار” في المعاملات الدولية..

يدفع ارتفاع قيمة “الدولار” الأميركي؛ قيمة السلع والخدمات بالنسبة إلى حائزي العُملات الأخرى، وهو ما يدفع الدول نحو البحث عن بديل؛  فمؤخرًا ارتفع مؤشر “الدولار” أمام سلة العُملات الرئيسة، لأعلى مستوى في أكثر من: 20 عامًا، وهو ما يُزيد الضغوط على الدول التي تُعاني من تراجع اقتصاداتها نتيجة تداعيات جائحة (كورونا) واندلاع الأزمة “الروسية-الأوكرانية”، ومخاوف ارتفاع معدلات التضخم، كما أن إنهيار العُملات يُعتبر حدثًا سلبيًا؛ لأنه يجعل الواردات أكثر كلفةً، بجانب التسبب في تدهور مستوى معيشة الأفراد، وزيادة كلفة التجارة.

كما أن الارتباط الكبير لحركة التجارة العالمية بـ”الدولار”، يؤدي إلى تقويض بعض الإمتيازات والفوائد التي يمكن أن تُجنيها اقتصاديات الدول من المرونة في ضبط أسعار العُملة.

وعندما ترتفع قيمة “الدولار”، تتجه التجارة العالمية نحو الانكماش.

02 – تعزيز ميزان المدفوعات للدول..

تخلق حركة التجارة بالعُملة الوطنية إمكانات لتطوير التسويات المتبادلة بالعُملات الوطنية؛ لأن “الدولار” الأميركي يُصبح عُملة غير آمنة في ضوء سياسة “الاحتياطي الفيدرالي” الأميركي، كما أن التوسع في استخدام العُملات الوطنية في التجارة، سيُسهم في نمو القدرة على التنبؤ في الاقتصاد العالمي، وتعزيز ميزان مدفوعات للدول.

جدير بالذكر؛ أن هناك بيانات صادرة عن “صندوق النقد الدولي”، تُفيد بأن حصة “الدولار” في الاحتياطيات العالمية للبنوك المركزية في الفترة الزمنية؛ من الربع الرابع من 2020 إلى الربع الثاني من 2021، هي الأدنى في خمس سنوات عند: 59%.

وبدأ استخدام العُملات الوطنية بين الدول يأخذ زخمًا في التبادلات التجارية؛ لتقليل الاعتماد على “الدولار”، في الوقت الذي يزداد فيه قوةً وارتفاعًا، وهو ما يُزيد الضغوط على البنوك المركزية في الدول الناشئة.

03 – دعم المكانة الدولية لبعض العُملات البديلة..

وهو متغير يرتبط بنظرة العديد من الدول إلى النظام الدولي الراهن، والرغبة في التحول نحو نظام تعددي.

وفي هذا الإطار؛ توجد الآن سلة أخرى من العُملات بخلاف “الدولار”، تحظى بثقة دولية متزايدة، ويجري تداولها في التجارة الدولية ودعم الاحتياطيات الأجنبية.

وتأتي أبرز تلك العُملات: “اليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني واليوان الصيني”. ويأتي “اليوان” الصيني في قائمة أهم تلك العُملات؛ حيث قفزت حصة “اليوان” الصيني في الاحتياطيات الرسمية من النقد الأجنبي إلى: 2.8% في الربع الأخير من عام 2021، وهو مستوى قياسي مرتفع منذ الربع المناظر من 2016، ويحتل المرتبة الخامسة على مستوى العالم، بحسب بيانات صادرة عن “صندوق النقد الدولي”، خاصةً أن العقوبات المالية غير المسبوقة المفروضة على “روسيا” تُهدد بتخفيف هيمنة “الدولار” الأميركي تدريجيًا.

كما وقَّعت “الصين” اتفاقات لتبادل العُملات المحلية مع كثير من دول العالم، منها بعض دول في الشرق الأوسط مثل “تركيا”.

04 – الرد على سياسات “العقوبات الغربية”..

لا ينفصل تزايد استخدام العُملات الوطنية في المبادلات التجارية؛ في الفترة الأخيرة، عن الأزمات القائمة في النظام الدولي التي عكست طريقة تفاعل غربية متشددة من خلال التوسع في فرض العقوبات على الدول الأخرى مثل: “إيران وروسيا”؛ لذلك شكَّل استخدام العُملات الوطنية في التبادل التجاري إحدى أدوات التحايل على “العقوبات الغربية” وتخفيف تأثيراتها السلبية.

معضلة الاستقرار..

بالرغم من التوجه المتنامي لاستخدام العُملات الوطنية في المبادلات، فإن هذه العُملات تتسم بأنها ليست مستقرة دائمًا، ويمكن بسهولة أن تتأثر بالسياسات الاقتصادية والنقدية المحلية؛ ففي “تركيا” تأرجحت قيمة “الليرة” بشدة؛ في تشرين ثان/نوفمبر 2021.

وتحدث أشياء مماثلة في “الصين”؛ التي تُمارس ضوابط شديدة على عُملتها من أجل الحفاظ على قدرتها التنافسية على الواردات في السوق العالمية.

وفي الوقت الذي تكون فيه العُملات الوطنية قابلة للاستخدام في التجارة القصيرة الأجل، فإنها تظل غير موثوقة على المدى الطويل كخيار للإدخار أو كعُملات احتياطية يُمكنها الصمود أمام اختبار الزمن وتغيير السياسة والجغرافيا السياسية والتحالفات الدولية.

كما أن العُملات الوطنية غير مستقرة بوجهٍ خاص بالنسبة إلى البلدان ذات الاقتصادات الصغيرة، والأنظمة السياسية غير مستقرة، وتفتقر إلى القدرة على حماية نفسها من التهديدات الخارجية.

ومن ثم، قد تُستخدَم العُملات الوطنية على نحو أكثر واقعية من قِبل القوى الإقليمية والعالمية فقط، ومن ثم سيكون لتكيفها العالمي حدود.

وختامًا.. لا يزال التحرك نحو نزع “الدولرة” من التجارة العالمية في مرحلته الأولى. ومع ذلك، ربما تكون الأزمة “الروسية-الأوكرانية” قد سرَّعت التحرك المتزايد نحو التجارة بالعُملات الوطنية لتجنب تسليح “الدولار” و”العقوبات الأميركية”.

وبوجه عام، يبقى أن نرى إذا ما كان سيجري إنشاء آليات دولية لإضفاء الطابع الرسمي على مثل هذه الخطوات ومناقشة تقديم الضمانات التي يمكن أن تحمي مثل هذا النظام التجاري من أنواع مختلفة من الصدمات، مثل عدم الاستقرار المحلي، والصراعات الدولية؛ ففي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، من المُرجح أن تظل “إيران وتركيا”؛ القوى البارزة الرئيسة، التي تدعم هذه الفكرة.

ومع ذلك، قد تعوق عمليات إعادة الاصطفاف مثل هذه الجهود أو تُبطيء تقدمها؛ حيث يقترب كلا البلدين من الغرب.

وبالرغم من الجهود المبذولة من قبل العديد من الدول في محاولات التخلص من هيمنة “الدولار” على حركة التجارة العالمية، فإن العالم لا يزال عالقًا مع “الدولار” الأميركي، ليس لأنه يخلق إمتيازًا باهظًا للاقتصاد الأميركي الذي ستُحارب “واشنطن” من أجله، ولكن لأنه يسمح للعديد من أكبر الاقتصادات في العالم باستخدام جزء من الطلب الأميركي لتغذية النمو المحلي.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة