وكالات – كتابات :
القاعدة الأساسية التي تنطلق منها دول الخليج في مواقفها السياسية تجاه الأزمات التي تحدث في العالم، تتلخص في بُعدين؛ هما صعوبة ترك مصالح الشعوب تتحكم بها الأهواء السياسية لبعض القيادات في العالم، وضرورة وجود رؤية إستراتيجية شاملة لأبعاد أي قرار؛ خصوصًا إذا تعلق الأمر بدول مؤثرة في السياسة الدولية؛ بحسب ما أراد “محمد خلفان الصوافي”؛ الإنطلاق في تحليله المنشور على موقع مركز (المستقبل) للأبحاث والدراسات الإستراتيجية.
ومن هذا المنطلق؛ يمكننا فهم كيف تُفكر دول الخليج تجاه الأزمة “الصينية-التايوانية”؛ التي تصاعدت بعد زيارة رئيسة “مجلس النواب” الأميركي؛ “نانسي بيلوسي”، إلى “تايوان”.
المسؤولية الدولية..
فاجأت دول “مجلس التعاون الخليجي” العالم مرتين هذا العام؛ الأولى عندما اختارت عدم الانحياز إلى الموقف الأميركي والغربي بشأن الأزمة الأوكرانية، بعدما تم استفزاز “روسيا” بمحاولات “حلف شمال الأطلسي”؛ الـ (ناتو)، ضم “أوكرانيا”، بالرغم من وجود اتفاق مع “واشنطن”؛ في عام 1991، بعدم السعي لتوسع الحلف شرقًا على الحدود مع “روسيا”.
وكان موقف دول الخليج صريحًا ومُتسقًا مع الاتفاقات الدولية، وقالت “الإمارات” بوضوح إن لـ”روسيا” الحق في ضمان أمنها.
وتمسكت دول الخليج بموقفها المتوازن، بالرغم من المحاولات المُتكررة من “الولايات المتحدة” لتغييره، على الأقل بمحاولة زيادة إنتاج “النفط” لتعويض العجز الذي تسببت به العقوبات على “موسكو”.
ويُلاحظ هنا أن موقف دول الخليج، خاصةً “الإمارات” و”السعودية”، كان منطقيًا وموضوعيًا في عدم الزج بنفسها في الأزمة الأوكرانية؛ كي تحتفظ بمساحة للحركة والمساعدة في إيجاد حل أو مخرج للأزمة.
أما المرة الثانية التي فُوجيء العالم فيها بموقف خليجي، فتمثلت في إعلان دولة “الإمارات”؛ يوم 04 آب/أغسطس الجاري، دعمها لسيادة “الصين” ووحدتها وأهمية احترام مبدأ: “الصين الواحدة”.
ودعت “الإمارات”، النشطة دبلوماسيًا على مستوى العالم والعضو غير الدائم في “مجلس الأمن الدولي” حاليًا، إلى الإلتزام بقرارات “الأمم المتحدة” ذات الصلة.
كما أعربت الدولة عن قلقها من تأثير أي زيارات استفزازية على التوازن والاستقرار والسلام الدولي.
ويمكن الوقوف على ما وراء هذه المواقف الخليجية من منطلقات موضوعية، بالرجوع إلى مُحددات السياسة الخارجية الخليجية بشكلٍ عام، خصوصًا تجاه القوى الكبرى والتفاعلات داخل النظام العالمي.
فالقاعدة العامة التي تحكم هذه السياسة هي إقامة وتطوير علاقات تشاركية مع مختلف الدول، وترتيب أولويات تلك العلاقات وفقًا للمصالح الخليجية، مع مراعاة الأسس والمباديء الخاصة بالأمن والاستقرار في العالم، وفي مقدمتها عدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام سيادة الدول.
علاوة على عدم الانخراط في أزمات أو مشكلات ليست دول “مجلس التعاون الخليجي” طرفًا فيها، مع الحرص على تبني: “الحياد الإيجابي” تجاهها؛ أي تجنب الانحياز إلى أي طرف من دون مبرر موضوعي أو بمعزل عن قواعد القانون الدولي.
وفي هذا السياق؛ تُمثل مواقف دول “مجلس التعاون الخليجي” من التوتر “الصيني-الأميركي”؛ بشأن “تايوان”، تجسيدًا عمليًا لتلك المباديء والقواعد الحاكمة. وهذا ما يمكن أن نعتبره بحق ترجمة عملية لمفهوم: “المسؤولية الدولية” الذي ربما تُخفق بعض الدول في الإلتزام به أو تتجاهله إذا تعارض مع سياساتها أو مصالحها. بينما تتمسك به دول الخليج دائمًا وأبدًا، حتى وإن تعارض مع مصالحها المُباشرة أو نتجت عنه أعباء سياسية أو اقتصادية أو من أي نوع. فكيف الحال بالنسبة لأزمة مثل: “الصين” و”تايوان”؛ التي تُقدم مثالاً على الاندفاع غير المبرر من طرف ما؛ (واشنطن)، نحو سلوك أو تصرف لا ضرورة له ولا أساس قانونيًا أو موضوعيًا يُبرره.
وبالتالي فإن التصعيد المُبالغ فيه؛ الذي تطور سريعًا من أزمة ثم حرب في “أوكرانيا”، كان يجب أن يُمثل درسًا لما ينبغي تجنبه في إدارة العلاقات الدولية من خطوات أو قرارات غير مدروسة.
وبعد تكبد العالم كله ثمنًا فادحًا، ولا يزال، بسبب تلك الحرب الدائرة وما نجم عنها من أزمات في الغذاء والطاقة وسلاسة الإمداد لكثير من السلع والصناعات في مختلف مناطق العالم؛ كان يُفترض أن تفجير أزمة جديدة مع قوة كبرى مثل: “الصين”؛ وبسبب غير واضح، هو آخر ما يحتاجه العالم حاليًا.
رؤية للاستقرار..
الثابت في موقف دول الخليج من أي حرب هو الرفض، نظرًا لخطورة النتائج على البرامج التنموية والاستقرار الإقليمي والعالمي.
لكن لأن العالم ليس مثاليًا ولا تُدار العلاقات الدولية بمعايير أخلاقية أو حتى قانونية، فإنه لدى دول الخليج من الوعي والواقعية ما يجعلها تقبل باستثناءات قد تفرضها الظروف، كما حدث سابقًا في حرب “تحرير الكويت”، ولاحقًا لاستعادة الشرعية في “اليمن”. بل إن تلك الاستثناءات ذاتها تصب في اتجاه استعادة الاستقرار والحفاظ على سيادة الدول، وليس العكس.
ومن هنا؛ فإن الرؤية الخليجية للأزمة “الصينية-التايوانية” ترى في محاولات استفزاز “بكين” والتلاعب بالتفاهمات الدولية تعارضًا جذريًا مع سيادة الدولة الصينية المُوحدة، ومن شأن ذلك إثارة نزاعات دولية جديدة في وقت يُفترض فيه أن الكل يعمل على الوصول إلى مرحلة من الهدوء والاستقرار العالمي.
ويتسق هذا الموقف الخليجي مع توجهات العالم؛ خصوصًا في “أوروبا” و”آسيا”، فلا أحد مُتحمسًا لفتح جبهة جديدة من الأزمات في العالم، بل الكل يُريد الاعتراف بأهمية تعاون جميع الدول لمواجهة التحديات الراهنة بدلاً من الإنشغال في فتح صراعات جديدة.
ويُلاحظ هنا شدة ردة الفعل الصينية واستخدامها عبارات تحذيرية ولهجة حادة قاطعة، كما تضمن هذا الخطاب الصيني الحاد رسائل إلى “الولايات المتحدة” والقيادة التايوانية تدعو إلى تفهم واحترام سيادة الدول.
فـ”الصين” دولة كبرى لن تقبل تصغيرها، ومن السهل على المراقب استقراء دلالات ردود فعل “بكين” على زيارة “بيلوسي” إلى “تايوان”، وما تُشير إليها من أن تلك الأزمة لو انفجرت فلن يستطيع أحد تحجيم مخاطرها أو حتى تقدير تداعياتها على النظام الدولي.
فبالرغم من أن الزيارة لمسؤول أميركي؛ “سياسي”، وينتمي تحديدًا إلى البرلمان وليس للحكومة الأميركية، ما معناه أنها لا تُمثل الموقف الرسمي لـ”البيت الأبيض”؛ فإن تحركات “الصين” لم تقف عند الاعتراضات السياسية التي كانت حادة وصارمة، وإنما قامت “بكين” أيضًا بتحركات عسكرية مباشرة تكشف من ناحية مدى الغضب الذي تسببت فيه زيارة “بيلوسي”، وتحمل من ناحية أخرى رسالة واضحة مفادها أن “الصين” على استعداد لاستخدام القوة المسلحة لتثبيت وتأكيد مبدأ: “الصين الواحدة” عمليًا.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن “بكين” أوضحت موقفها هذا مرارًا في الماضي، ثم أكدته وكررته فور الإعلان عن نية “بيلوسي”؛ زيارة “تايوان”، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل عن أهداف “واشنطن” مما يمكن اعتباره: “تعمدًا” لاستفزاز “الصين” بهذه الزيارة.
سياسة واقعية..
أوحت متانة العلاقات “الخليجية-الأميركية” بأن دول الخليج ربما تنحاز إلى موقف “واشنطن” أو على الأقل ستصمت إزاء الأزمات الدولية الأخيرة. إذ إن ثمة إعتقادًا سائدًا لدى البعض مفاده أن دول الخليج تربط مواقفها السياسية مع “الولايات المتحدة” أو أن تلك المواقف تميل دائمًا نحو السياسة الأميركية.
لكن هاتين الأزمتين العالميتين؛ (أوكرانيا وتايوان)، دفعتا دول الخليج إلى التخلي عن التحفظ التقليدي المُعتاد وإعلان موقفها صراحة، وهو ما اعتبره بعض المراقبين جديدًا ولافتًا في السياسات الخليجية، ومؤشرًا عمليًا على ما أعلنته دول الخليج مرارًا من أن سياساتها الخارجية تبحث بالأساس عن التنمية والأمن.
وهذا ما يعني في الترجمة العملية السعي إلى الاستقرار العالمي، والحفاظ على وحدة وسيادة الدول، والعمل على تحقيق المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة على أسس تعاونية وتفاهمات دولية.
وبهذا المنظور، تتوافق “الصين” مع الرؤية الخليجية في علاقاتها الخارجية، وتجسد هذا التوافق بوضوح خلال العقد الماضي، بتفهم “بكين” سياسات دول الخليج القائمة على الحفاظ على السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية تحت مسميات غير حقيقية أو شعارات زائفة.
فقد صارت لدى دول الخليج قناعة كاملة بأن المساس بسيادة الدول أمر لا تهاون فيه، وينبغي عدم التساهل معه بأي درجة. وتشكلت هذه القناعة خلال فترة ما كان يُعرف: بـ”الربيع العربي”، عندما استشعرت دول الخليج نوايا أميركية؛ (من الديمقراطيين تحديدًا)، للاستثمار في الفوضى لخلق مناخ إستراتيجي يخدم مصالح “واشنطن” على المدى القريب.
وارتفعت الأصوات الخليجية، وقتها، تدعو إلى مراجعة “الولايات المتحدة” سياساتها بشأن دعم بعض مُثيري الفوضى في الدول تحت بند الدفاع عن الحريات السياسية.
إذ إن دروس التاريخ تُثبت الكوارث التي تترتب على المساس بسيادة الدول، بدءًا من “العراق” قبل عقدين، ومرورًا بالدول التي ضربها: “الربيع العربي”؛ فدخلت في فوضى وشبه إنهيار، مثل: “سوريا وليبيا”، وذلك بالرغم من أن الوضع الأصلي في تلك الدول – مع وجود بعض الملاحظات عليه – كان كفيلاً بالحفاظ على الأمن والاستقرار الذي هو أساس كل عمل تنموي.
لذلك، فإن نظرة دول الخليج إلى “أزمة تايوان” ليست وليدة حسابات لحظية، بل تنطلق من رؤية مستقبلية واستشراف لما يمكن استباقه من مخاطر وأزمات، والتفاعل معها من خلال توضيح تلك المخاطر بشكل صريح وواقعي لكل من يمضي بعمد أو بغير عمد نحو تهديد الاستقرار العالمي.
فالمواقف الخليجية من تلك الأزمات والتطورات ليست ارتدادًا عن الحرص على علاقات جيدة مع “الولايات المتحدة الأميركية، ولا هي رغبة في مناكفتها؛ لكنها سياسة واقعية لا تتأثر بالصداقة القائمة ولا تتعارض معها، وإنما تُجسد المُنطلقات الموضوعية والمبدئية التي تراها دول الخليج ضرورية للأمن والاستقرار العالمي الذي هو جزء من أمنها واستقرارها.