لاشـك ان كلاً منا بات يستشعر ان مستقبل العراق اصبح يتوقف الى حد كبير على نتيجة المجابهة او الصراع الذي يخوضه المجتمع العراقي من اجل الديمقراطية وتوسيع نطاق الحريات العامة والسياسية لتشمل أوسع القطاعات الجماهيرية /الشعبية وتضم كل الفئات الفكرية والعقائدية داخل الوطن .
وقـد لا أكون مبالغاً ان قلت ان المستقبل الشخصي لكل واحد منا اصبح يرتهن الى حد كبير على نتيجة هذه المجابهة الحادة مع ازمة الممارسة الديمقراطية ، فالحفاظ على التوازن النفسي والابقاء على تماسكنا الفعلي والفكري وحماية الذات الفردية والجماعية لهذا المجتمع ، اصبح مرهوناً على مستقبل الديمقراطية .. سيقوم بقيامها وينهار بانهيارها .
مـن هذا كله نعلم ، ان الحديث عن الديمقراطية لا يدور في الفراغ ولا يهيم في النظريات ولا يمثل مجرد حاجة ذهنية للمثقفين والسياسيين او رغبتهم في التعبير عن انفسهم .
ان الحـديث عن الديمقراطية يمس حياة المواطن اليومية في الصميم ويتناول ادق علاقاته الاجتماعية ابتداءاً من اخطر القرارات السياسية وانتهاءاً بأتفهها .. نجد حياة المواطن العادي تتأثر ابلغ الأثر ويتغير ايقاع حياته اليومية بشكل كبير .
قبـل الحديث عن مستقبل الديمقراطية ونوع السلطة واحتمالاتهما المنظورة او المتوقعة ، ينبغي لنا ان نتفحص واقع الأزمة الحالية وان نقترب من تشخيص جوانب الواقع السياسي ومظاهره المتعددة .
كيـف يستطيع حزب او تيار سياسي ان يصل الى السلطة وان يضع قناعاته وبرامجه حيز التطبيق ، وما هي الوسائل المتاحة له ليدخل اللعبة السياسية ، ومن أي باب من أبوابها يلج الى تجربة تصوراته ؟
السـؤال من وجهة نظري وربما ايضاً نظر غيري مشروع ، ومن أسباب طرحه : اولاً ـ التطورات التي جرت في جميع بلدان العالم باتجاه السلوك الديمقراطي ، حيث خطت العديد من أنظمتها السياسية نحو طريق الديمقراطية ، على الرغم من اختلاف مذاهبها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية . وثانياً ـ إقبال العراق ، ولاسيما بعد 9/نيسان/2003 ، خوض تجربة مشاركة سياسية مغايرة جملة وتفصيلاً ، بحيث احدثت تحولاً في التصور والإدراك السياسي للمواطن العراقي الذي تفجع كثيراً وعانى الأمرين من غياب الديمقراطية بالكامل في بلده .
بيـد أننا لابد من أن نؤكد بأن مسألة المطالبة بالديمقراطية والمشاركة الشعبية وتشكيل الأحزاب ليست ترفاً فكرياً بل هي أضحت ضرورة لمواجهة المصاعب والمعضلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية سواء كانت تلك المصاعب والمعضلات موجودة أو محتملة ، فليس من سبيل لعلاجها بشكل موضوعي دون وجود ضوابط لتحقيق اكبر قدر من الاتفاق حول حلولها ضمن حدود الوطن الواحد والشعب الواحد .
ولا يـستطيع أي نظام سياسي ان يدعي بانه قادر على معالجة أي من المعضلات بشكل عقلاني ومجرد ما لم يستند الى شرعية شعبية واضحة . ولا يمكن الادعاء بوجود شرعية شعبية بدون وجود الديمقراطية التي تحدد أسلوب اختيار ممثلي الشعب وطريقة ممارستهم للرقابة والتشريع والمشاركة في اتخاذ القرارات . وقد يقول أحدنا : وما علاقة الديمقراطية بهذه المسائل ، وهل وجود المشاركة الشعبية سيكون وسيلة تساعد على تجاوز الأزمات ؟
بـطبيعة الحال ، لا نتوقع أن يكون السحر حلاً للمصاعب ، لكن وجود ديمقراطية علمية وبعد مرور (كـذا) عقد من انعدامها يؤدي الى استقرار في النظام السياسي العام الذي بالتالي او بالنتيجة يخلق الثقة في القوانين والاجراءات الحاكمة للأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية .. ومن ثم تتلاشى صفة المزاجية التي تحكم صنع القرار في هذه الأنشطة وتعيد الاطمئنان للعديد من أفراد الشعب لتخلق منهم عناصر منتجة فاعلة في فعاليات النظام السياسي الجديد .
ولأن الـديمقراطية لم تكن في يوم من الايام فوضى عبثية ، وان اساءة استخدامها تؤدي الى الدكتاتورية (وكم من نظام سياسي يمارس الدكتاتورية باسم الديمقراطية) إذ ليست الدكتاتورية فقط ان يخرج افراد القوات المسلحة بدباباتهم ويستولوا على السلطة ، هذا شكل واحد من إشكال الأنظمة القمعية. الـدكتاتورية ، هي ان تستهتر مجموعة او اقلية بحرية الآخرين وان تمارس هذه المجموعة حريتها المطلقة على حساب الاكثرية ، وهو اطار لسلبيات ما يطلقون عليه ديمقراطية في بعض البلدان التي انتهت اما الى فوضى او الى ارتباك ادى الى فشل التجربة وتحولها الى ضدها . ولكي لا تصل الديمقراطية في العـراق حال تطبيقها ـ بشكل علمي ـ الى الانقلاب على نفسها والتحول الى شيء أخر ، أرى ان القيمين على شؤون العـراق راهناً ومستقبلاً أن يعيدوا النظر في بعض تطبيقاتها قبل ان تأكل هذه التطبيقات ابناءها .
هـذا ليس نقداً انما هي ملاحظة هدفها التذكير بتجارب مماثلة لنا مرت بها بعض البلدان ، انتقدها وقتها القريب قبل البعيد ولو بشكل خفي او رمزي ، من منطلق الحرص على التطبيق الديمقراطي السليم لان رعاية الديمقراطية في تلك الظروف والاوضاع الاستثنائية تصل الى حد الايمان بها ذاتها .
إننـي كمراقب متتبع لشؤون وطني العزيز ، انظر للممارسة الديمقراطية العراقية (الراهنة /الآتية) ككل ممارسة اخرى في أي بلد اخر في العالم مرت بأوقات عصيبة نتيجة لاعتبارات كثيرة كان بعضها ذاتياً من الداخل وبعضها الاخر طارئاً من الخارج بحيث صدق عليها القول : اللهم احمني من اصدقائي اما اعدائي فأنا كفيل بهم .
انـه بإمكان القوى /النخب السياسية والفكرية والدينية والاجتماعية الفاعلة في الساحة العراقية ان تحمي ديمقراطيتنا الواعدة حال ممارستها وفق الضوابط والقوانين من الاعتبارات الطارئة التي افقدتها بريقها ووهجها في ظروف سابقة معروفة للجميع ، وعلى الرغم من ذلك ، اخذ البعض منا ممن يحمل هذا المعتقد او التيار السياسي او ذلك الجانب من ذاك الفكر ، يؤكد او يلمح على اننا بحاجة الى شيء من الديمقراطية الغربية وبخاصة في وقتنا العصيب هذا ، لاننا بتبنينا لهذا النوع من الديمقراطية نحصل على المساعدات الفنية والغذائية والدوائية من الغرب . والغرب على حد زعم هذا البعض لا يساعد الا اذا تأكد اننا نتبنى النهج الغربي في تطبيق ديمقراطيته واحترام حقوق الانسان … لكننا بدورنا نرفض مثل هذا الطرح لسببين :
– ان الديمقراطية ليست سلعة مستوردة من الخارج ، كما انها ليست عمولة ندفعها للحصول على مساعدات فنية وغذائية من الغرب ، انها مطلب وحق وطني .
– ان الغرب لم يشترط قط اشاعة الديمقراطية لتقديم مساعداته بسخاء ، ذلك انه مد يد العون لاكثر الانظمة قمعية في العالم . المهم تأمين مصالحه الاقتصادية الجشعة ، ولم يكن معنياً بقضية الديمقراطية وحقوق الانسان الا بقدر ما تؤمن له المزيد من الارباح والفوائد .
فـليس اكثر من الكلام الذي تنشره وسائل إعلام هذه الدول حول الديمقراطية وشرعة حقوق الانسان في العالم . فلو حاولنا ان نرى مقدار تطبيق هذه النظريات العامة لصدمنا لكثرة الانتهاكات . صحيح اننا نعرف جيداً ان ما تسجله اللجان الدولية ضد بعض الممارسات اللاأنسانية في العراق صحيحة ، لكننا نعرف كذلك انها موازية نوعاً ما للانتهاكات التي تدور في الغرب .
ان تـطبيق الديمقراطية التزام ليس بكرسي السلطة كما يظن البعض ، انها التزام بالوطن والارض والشعب وبالتالي بالسلطة التي ستتيح للمواطن فرصة التمتع بالديمقراطية وممارسة الحرية في ابوابها الواسعة وجوانبها المتعددة .
انـنا هنا يمكننا ان نميز بشكل عام نظامين اساسين للمشاركة السياسية والديمقراطية مر بها عراقنا. يقـوم الاول على نظام التعدد الحزبي (العهد الملكي) بينما يأخذ الثاني بنظام الحزب الواحد (اغلب انظمة العهد الجمهوري) وان كان من الممكن اضافة نظام ثالث فرعي لا يأخذ بهذين الشكلين ويعتمد اساساً على شكل السلطة العائلية او القبلية ذات الطابع الوراثي ولا يعترف اساساً بالنظام الحزبي والحزبية (المدة المحصورة بين 1979 و 2003) .
رغـم ان بعض هذه الانظمة اخذ بنظام التعدد الحزبي والاعتماد على الصراع بين الاغلبية والاقلية داخل المجالس البرلمانية (الشكلية) من خلال ما يسمى بـ الانتخابات العامة (تجاوزاً) أي ان هذه الانظمة تأخذ بالشكل التقليدي للديمقراطية ، الا ان هذا لا يمنع من كون الشكل الغالب على السياسية هو طغيان الطابع العائلي او القبلي .
وفـي بعض الاحيان يصطبغ الحكم بالطابع الطائفي او الديني حيث يجلس على قمة السلطة السياسية حاكم فرد يتميز بسلطته الابوية ويفرد هيمنته على كل افراد المجتمع وهيئاته . فقراراته لا يمكن مناقشتها او الاعتراض عليها ، وتقبل احكامه باعتبارها الخير المطلق للجميع ، فهو مثال الحكمة المطلقة والرأي السديد الذي لا يعتريه الشك من يمينه او يساره . وغالباً ما يؤسس هذا الحاكم المطلق سلطته السياسية على السلطة الدينية فيطلق على نفسه كل الألقاب التي تضفي عليه طابعاً دينياً ليصبح في بعض الاحيان (الرئيس المؤمن) او (امير المؤمنين) او قد يطلق على نفسه في احيان اخرى القاب التعدد والخصوصية ليصير (المجاهد الاكبر) او (القائد الملهم) .. وهكذا تتوحد في شخصه ، شخصية الوطن ويصير الخروج عليه خروجاً عن اجماع ( الملّة ) وخيانة للوطن المتوحد في ذاته الملهمة .
امـا عن الممارسة السياسية ذاتها ، فرغم انها تقوم على اسلوب التعدد الحزبي الا ان حق تكوين الاحزاب يحاط بقيود قانونية صارمة ، تحد من هذا الحق وتمنعه عن الاحزاب التي لا تقبل بشروط السلطة السياسية او تحالفاتها جوهرياً في الرأي . فلا تسمح السلطة السياسية الا بقيام معارضة سياسية شكلية ، بل كثيراً ما تتدخل السلطة بالعنف او بالتزوير في الانتخابات العامة لضبط نشاط المعارضة السياسية وابقائها في الحدود التي لا تهدد النظام وفي النطاق الذي لا يصل الى حد نقد الحاكم او المطالبة بتغييره او الخروج عن طاعته .
وهـكذا ينحصر نشاط المعارضة في الامور التافهة التي لا تمس القرارات السياسية العليا التي يحتكرها الحاكم في اصدارها ولا يقبل مبدأ مناقشتها او الاعتراض عليها . وقد تشهد هذه الانظمة ظاهرة (الحزب الحاكم) الذي يقوم الحاكم بتشكيله بنفسه ويضم اليه العناصر الموالية له ويحتكر به ومن خلاله السيطرة على مؤسسات الدولة وتنتشر عناصره في كل نواحي الحياة الاجتماعية مستغلة مواقفها الحزبية في تحقيق المكاسب المادية وتحقيق الثروات الشخصية وتستحل عن طريق هيمنتها على السلطة كل إمكانات الوطن وثرواته .
وعـلى الرغم من ان هذه الانظمة تتبنى رسمياً افكاراً نقدية اجتماعية اصلاحية وتعادي من الناحية الإيديولوجية مفهوم الديمقراطية ، الا ان واقع الممارسة الحقيقية يرصد مجموعة من الظواهر المخالفة والمتعارضة مع ابسط القيم الديمقراطية ، اذ تشهد هذه الانظمة غياب كل شكل من أشكال الحزب الذي يتشكل اساساً من القطاعات البيروقراطية المهيمنة على مؤسسات الدولة والجيش التي لا هم لها الا التسبيح بحمد الحاكم الفرد الذي يقف على رأس السلطة السياسية والترويج لإفكاره وتقديم التبريرات السياسية لمواقفه السياسية وآراءه الفكرية حتى وان شابها الارتجال والتناقض او المراهقة الفكرية وعدم الانسجام الواقعي .
وسـرعان ما يتحول الحزب الى مجموعة من الاتباع تتفنن في الاخلاص للحاكم تحت وهم الانتماء او الولاء ، ويتحول الحزب الى عشيرة تنتمي للحاكم ولكن ما يلبث ان يظهر الشقاق والصراع بين افراد (الشلة الحاكمة) من اجل المصالح الشخصية وتسود الحزب علاقات مرضية مردها صراع الاحقاد والمناورات التحتية بين مراكز القوى المتصارعة داخل اروقة الحزب ، إذ تحاول كل (شلة) أو (مركز قوى) تصوير نفسه باعتباره الأمين على أفكار الزعيم والمخلص لأهدافه السياسية وتكفير ما عداه من مراكز القوى الأخرى ، وكثيراً ما يلجأ الحاكم نفسه الى تغذية الصراعات التحتية بين مراكز القوى وإبقاءها دائماً في الحدود التي تهدد سلطته (الأبوية) أو يتدخل في الوقت المناسب لردع هذه الفرقة او في تلك اللحظة التي يشعر بتصديها لسلطته المطلقة او يقوم بتنحيتها عن السلطة متهماً اياها بكل الشرور والآثام ليظهر هو في صورة العادل الذي يقتص من (الطغمة الشريرة) التي انحرفت بالسلطة واهانت الجماهير .
يـضاف الى ذلك حالة الانتهاك الكامل لمسألة الحقوق والحريات العامة والترويع الذي تقوم به السلطات الحاكمة إزاء معارضيها او خصومها السياسيين فضلاً عن حالة القمع والارهاب البوليسي الذي تمارسه في مواجهة المواطن العادي من خلال أجهزة الرصد والتجسس على نشاط الافراد حتى لا يتحول هذا النشاط الى معارضة سياسية منظمة تهدد النظام او أمنه الداخلي . تتضخم اجهزة القمع البوليسي والمخابراتي وتطغى سلطتها على سلطة (البيروقراطية المدنية) وتنشأ داخل المجتمع علاقة قوامها الخوف والرعب والتوجس المطلق بين الحاكم والمحكوم وتزداد الهوة اتساعاً بين الطرفين وتزداد المشكلة تعقيداً ويحلها كل طرف بطريقته الخاصـة . فالمجتمع من ناحيته يؤثر الانعزال والعزوف عن المشاركة السياسية تحت تأثير الإحباط واليأس ، اما الحاكم فلا يجد حلاً لمشكلته الا عن طريق المزيد من اجراءات القمع والإرهاب يحمي بها وجوده وسلطته المطلقة .انهـا دائرة جهنمية لا تنتهي ولا يعلم الا الله كيف يتخلص المجتمع منها ! !
لقـد أثبتت ممارسات بعض الانظمة السياسية في العديد من البلدان ، ان للديمقراطية حدوداً وضوابط، فهناك خطوط حمراء اذا تخطاها البعض تحاسب عليها القوانين . فالضوابط هي المقصودة . البعض يسميها قوانين وتقاليد وأعراف يجب مراعاتها ، والبعض الآخر يسميها التزاماً . ونحن في العراق بحاجة الى ضوابط لاننا حديثوا عهد في الممارسة ، والضوابط لا تعني القيود ، أنها محاولة لخلق تقاليد ديمقراطية وحين تترسخ هذه التقاليد يمكن اطلاقها الى أفاق رحبة يصبح خلالها الالتزام بالوطن والارض والشعب ممارسة ذاتية وتلقائية . وهـذا يساوي ويعادل ان يقول المرء رأيه بمنطق وعقل وأخلاق وإخلاص بعيداً عن المؤثرات الجانبية. وأرجو ان يخطىء من يظن ان الديمقراطية العراقية ستكون خرافة او مصيدة السلطة كما في السابق ـ فهي ان انحصرت في هذه الوظيفة تبدو باتجاهاتها السلبية . فالديمقراطية ممارسة ايجابية لحرية الفكر والقول والعمل ، وانها مشاركة في الحقوق والواجبات تماماً مثلها مثل المواطنة . والديمقراطية او المواطنة اذا انحصرت في الحقوق ، فماذا يبقى للواجبات التي هي في اساسها التزام بالوطن والارض والشعب. الحقوق هي التزام الدولة تجاه مواطنيها ، والواجبات التزام المواطنين تجاه دولتهم ، والاثنان جناحا الديمقراطية والحرية .
واذا حـدث خلل في توازن الجناحين نصبح امام امثلة اقل ما يمكن ان يقال بشأنها انها شاذة تؤدي بنا الى التهلكة والضياع ، ولا احد يريد للممارسة الديمقراطية العراقية ان تأكل أبناءها او يأكلها أبناؤها لانهم لا يريدون ان يقفزوا وراء حدود الممارسة بين ليلة وضحاها الى أفاق لا تتحملها الممارسة ذاتها . ولكي نصل الى تبني الحل الديمقراطي لابد ان تتعمق القناعات لدى السلطة الراهنة او القادمة . فهل هذه السلطة / القيادة ستقدر على فهم حركة العصر وتتبناها من أجل ان تصبح آلية حسم الخلافات والصراعات الخفية منها والظاهرة في الساحة العراقية أداة عصرية تساهم في ارساء الاستقرار وتعضد من إمكانيات النمو والتطور ؟
قـد يكون من الصعب توقع ذلك حيث مازال هناك العديد من المتنفذين والمتمتعين بالهيمنة السياسية والاقتصادية وحتى العشائرية من مخلفات نظام البعث والأنظمة السابقة له ممن اعتمد وسيعتمد عليهم في بعض مفاصل الدولة يفكرون بعقليات أواخر القرن التاسع عشر وليس بعقلية القرن الواحد والعشرين . وهذه الوضعية تشكل اخطر الامور التي تواجه التطور الديمقراطي للأوضاع السياسية في العراق الآن .
وعـلى الرغم من بعض الديمقراطية التي تتبناها السلطة الحالية وتلك التي ستتبناها السلطات القادمة الا ان هناك العديد من العناصر التي عملت مع السلطة البعثية سابقاً والذين اختلفوا معها لأسباب مصلحية نفعية اكثر منها مبدئية وطنية ، ممن لجأوا بعدها للخارج كمعارضة وعادوا الآن .. لم تهضم هذا الخيار ، ومـازالت بشكل او بأخر تحاول ان تروج او تضع العراقيـل في الطريق بهذه الحجة او تلك الذريعة .
وبـطبيعة الحال ، فأنه من السذاجة توقع عدم وجود مقاومة من بعض العناصر / الأطراف ، بحيث ان هناك العديد من المصالح التي ستتضرر من الديمقراطية والرقابة الشعبية ، إلا ان ذلك يجب إلا يكون عذراً للسلطة الحالية و – أيـة سلطة – التي تنشد الاستقرار والحصول على المشروعية أن تعطل مصالح الشعب العراقي من اجل مصالـح مجموعة من المتنفذين ممن حصلوا على منافعهم بـدون وجه حق .
ان الديمقراطية لابد ان تساعد السلطة – أية سلطة – على تلمس طرق الحلول الناجعة لمعالجة كافة المعضلات وتوفر الدعم الشعبي لتلك الحلول ، كما انها تؤدي الى خلق قناعة لدى المواطنين بأنهم يمكن ان يطرحوا وجهـات نظرهم حول مختلف القضايا التـــي تمسهم بدون خوف ، وتمكنهم من اقتراح الحلول المناسبة .
وبـذلك ، فأن المتفائلين يعتقدون بأن الديمقراطية العلمية في العراق واقعة فعلاً لا محالة ، وقد لا تكون الاشكال والممارسات بمستوى طموحات الديمقراطيين العراقيين ولكنها فــي الأمد القريب ان شاء الله … ستصل الى ما يصبون اليه .
وعـلى الرغم من الصورة القاتمة التي رسمناها في ما تقدم .. ألا ان هذا لا يمنع من التفاؤل والأمل في المستقبل ، ومرجع هذا التفاؤل يعود الى رصد مجموعة من التطورات الهامة يموج بها الواقع العراقي ، نرصد منها على سبيل المثال لا الحصر الحقيقتين الاتيتين :
الأولـى ـ ازدياد الضغط الشعبي من اجل توسيع نطاق الممارسة الديمقراطية لتشمل كافة التيارات والقطاعات السياسية المعارضة . ولقد أدت هذه الضغوط الشعبية نوعاً ما الى تحقيق أتجاهات نسبية لا يمكن إنكارها تمثلت في خضوع الحكومة لهذه الضغوط والإعلان عن تطورات او تعديلات سياسية مهمة حتى وان بقت محدودة الأثر في الوقت الحاضر .
الثـانية ـ إن تصاعد ونمو حركات المعارضة الرافضة للاحتلال وحكوماته المتعاقبة ونمو الاتجاهات الفكرية المؤدجلة المتشددة اصبح يشكل ظاهرة عامة ليس في العراق فحسب بل حتى في بقية اقطارنا العربية ، حتى الانظمة التقليدية العتيدة التي شجعت نمو هذه التيارات لتواجه بها التيارات الراديكالية او اليسارية خلال العقود الماضية اصبحت تستشعر الآن الخطر الكامن وراء تصاعد نفوذ هذه التيارات عليها ، خصوصاً بعد اندفاع هذه الاتجاهات نحو سلاح (تكفير) السلطة والمجتمع وانتهاج الأساليب العنيفة في الوصول الى أهدافها . وهكذا جردت السلطة الحاكمة من السلاح الذي استخدمته طويلاً في مواجهة الراديكاليين واليساريين وهو سلاح (التكفير) .
ولـدي اعتقاد جازم ان المخرج الوحيد للمجتمع العراقي من خطر العنف والدمار من جراء التشدد والهوس الفكري المؤدلج لن يكون الا بالقبول بالأسلوب الديمقراطي في الحكم واعتماد إصلاحات سياسية ومؤسسية تحترم حق المواطن في التعبير عن أرائه وفتح الباب إمام كل التيارات والأفكار للتعبير عن نفسها بالأسلوب الديمقراطي السليم خروجاً من احتمالات سوداء تتربص بنا لن تخلف وراءها إلا حرباً أهلية ودماراً شاملاً يقضي على الأخضر واليابس في هذا المجتمع والوطن .
انـنا واثقون من ان تجربة العراق الديمقراطية هذه ستنجح ، فالضوابط التي تمنع وتحول دون امتهان كرامات الناس او الاعتداء على مسؤول بشكل غوغائي .. ضرورية ، ضرورة التجربة والممارسة وتطويرها وتثبيتها على دعائم المنطق والعقل والأخلاق والتقاليد العراقية العربية الأصيلة .