في العام 1967 غنت أم كلثوم في باريس دعما للمجهود الحربي بعد نكسة حزيران/ يونيو. وأثناء الحفلة صعد معجب تونسي إلى خشبة المسرح وانحنى وقبّل حذاءها. وفي حلقة من برناجي الإذاعي (عزيزي المستمع)، يومها، غصبتُ من هذا المعجب الأحمق، وقلت له إنني كنت أتمنى أن تقبلها من خدها أو من فمها، إن استطعت، لأنها غنت بفمها وليس بحذائها.
وكأني شتمت العنب الأسود، على رأي العراقيين. فقد هبت علي عواصف غضب الجماهير العريضة، تحت شعار (من أنت؟، ومن تكون؟ لتشتم أم كلثوم؟). ورغم تأكيدي في حلقة لاحقة من البرنامج أنني لم أشتم أم كلثوم، ورغم أن جريدة الجمهورية نشرت نص تعليقي على صفحتها الأولى بهدف تبرئتي من تهمة الشتم لم يقتنع أحد بأنني لم أشتم كلثوم. والأكثر غضبا ومبالغةً في مهاجمتي كانوا هم الذين لم يسمعوني، ولم يقرأوا نص حديثي المنشور في جريدة الجمهورية، وإنما سمعوا، نقلا عن آخرين، أنني شتمت أم كلثوم.
وحتى اليوم، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على الحادثة، ما زال عراقيون من جيل نكسة حزيران 1967، حين يصادف أن ألتقي بهم في الغربة، يُذكرونني بتلك الحادثة، ويعاتبونني، ويسألونني، (من أنت حتى تشتم أم كلثوم؟).
تذكرت هذه الحكاية عن طبيعة الجماهير العريضة وأنا أتابع الهبَّة العجائبية الغرائبية التي اجتاحت الساحة العراقية ضد تركيا، وبالأخص في المناطق الواقعة تحت حكم المليشيات والموالية لإيران، على أثر صاروخ استهدف منشأة سياحية في قضاء زاخو بمحافظة دهوك، وأسفر عن استشهاد 8 مدنيين وإصابة 23 آخرين، بينهم نساء وأطفال.
وقبل التأكد، بالطرق العلمية والمهنية المحايدة، من هوية الجهة التي أقدمت على إطلاق هذا الصاروخ الإجرامي الأحمق من حق أي عراقي شريف، من أي حزب وأي ائتلاف، أن يثور غضبا على من قام بهذا الفعل الحيواني الفاضح، وأن يصر على محاسبته وعقابه، أيا كان، ومن أية حكومة كان.
وقبل أن يجري تحقيق دقيق مهني غير مسيس لتحديد القاتل الذي أمر، والذي نفذ، ورغم نفي حكومة أردوغان مسؤوليتها عن الجريمة واتهامها “حزب العمال الكردستاني” بتنفيذ الضربة، فقد ازدحمت الساحة العراقية بإجراءات انتقامية ضد تركيا، حكومية وحزبية وشعبية غير مسبوقة. ولا يمكن الآن، ولا بعد عمر طويل، أن تقنع واحدا من هذه الجماهير العريضة الغاضبة ببراءة تركيا، حتى لو شهدت الدنيا كلها بأن الفاعل مجهول، وأنه قد يكون “حزب العمال الكردستاني التركي”، وقد يكون الحرس الثوري، وقد يكون ضابطا تركيا أحمق لم يحترم أصول الجيرة ولا حرمة دماء الأبرياء المتواجدين في المجمع السياحي المدني في مدينة دهوك.
تقول الحكومة التركية، إنها “تولي أقصى درجات الحذر لتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين، أو إلحاق أضرار بالمواقع التاريخية أو الثقافية”، وهي “مستعدة لاتخاذ أي خطوات ضرورية لكشف الحقيقة، وإنها مستعدة للتعاون مع السلطات العراقية بشأن الهجوم الغادر الذي نفذه التنظيم الإرهابي”.
وهنا نذكر بأن هناك اتفاقا بين الحكومتين العراقية والتركية يسمح للجيش التركي بتعقب الأكراد الأتراك داخل الأراضي العراقية، لمنعهم من شن عمليات عسكرية ضد مواقع حيوية في الداخل التركي.
كما أن العساكر الإيرانية، من جانبها، أيضا، تدخل وتقصف مواقع الأكراد الإيرانيين المتخذين من شمال العراق ملاجيء آمنة وقواعد لعملياتها ضد الحكومة الإيرانية وجيوشها.
والشيء المهم الذي يجب التذكير به هنا، إن أردنا أن نتفحص الظروف التي سبقت الصاروخ، هو أن المرشد علي خامنئي، هدد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في اجتماعهما في طهران يوم 19 تموز/يوليو الماضي بأن “أي هجوم عسكري تركي في شمال سوريا “سيضر بتركيا وسوريا وبكل المنطقة”.
والمعروف أن أردوغان تجاهل تهديدات الولي الفقيه، وأصر على مواصلة التحرك في سوريا التي تعتبرها إيران مستعمرتها الخالصة، خصوصا بعد تخلي الروس عن القيادة العسكرية في الشمال السوري. كما أنه عاند إيران، أيضا، في العراق، بدعمه لحكومة أربيل، وبتفاهمه مع سنة الحلبوسي وخميس الخنجر، ومدّه التحالف الثلاثي بقيادة مقتدى الصدر بأسباب الصمود، وتشجيعه على رفض الانصياع للمطالب الإيرانية، وتهديد وحدة البيت الشيعي العراقي.
وقد جاء انسحاب نواب التيار الصدري من البرلمان، ثم تسريبات نوري المالكي الفاضحة لتهزَّ النفوذ الإيراني في العراق، ولتجعل الحرس الثوري مضطرا لمعاقبة المصالح التركية، ولردع حكومة مسعود البرزاني، وإبطال مفعل التسريبات، وإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل انتخابات العراق في تشرين من العام الماضي.
إن كل هذه الأسباب، مجتمعةً، تجعل من المحتمل أن يكون الصاروخ الذي سقط في دهوك جرَّة إذنٍ إيرانية لأردوغان ولمسعود والحلبوسي ومقتدى، خصوصا إذا علمنا بأن كتائب حزب العمال الكردستاني التركي مشمولة ببركات الحرس الثوري الإيراني الذي يمولها ويسلحها ويمنحها الملاذ الآمن في شمال العراق، لتكون خنجرا جاهزا للاستخدام ضد تركيا وضد حكومة أربيل، عند الحاجة.
> اياد الزاملي:
وحتى لو اصطلح المرشد الإيراني والرئيس التركي، وعادا إلى التفاهم والتخادم في العراق وسوريا، واتفقا على لفلفة موضوع صاروخ دهوك، فإن الجماهير العريضة العراقية لن تقتنع، ولن تصدق بأن ذلك الصاروخ لم يكن حلقة جديدة من سلسلة اختراعات الحرس الثوري في سعيه لتحقيق أهدافه الخاصة، من قبيل تفجير سامراء 2006، واحتلال الموصل وصلاح الدين وديالى والأنبار 2014. خصوصا وأن الإيرانيين متمرسون ومتخصصون في اصطياد عشرات العصافير بحجر واحد.
ألم أقل لكم إنني طلبت من التونسي الأحمق أن يُقبل أم كلثوم من فمها بدل حذائها وأن الجماهير العريضة، بعد أكثر من نصف قرن، ما زالت تصر على أنني شتمت مطربتي الوحيدة أم كلثوم.