17 نوفمبر، 2024 4:29 م
Search
Close this search box.

اللوحة

كانت الغرفة التي اسكنها معلقة في بناية تطل على مجموعة بيوت تشبه القبعة .ويرفرف الحمام خارج النافذة كاوراق ملونة منثورة. محمام ابيض . ازرق . رمادي . والوان جذابة اخرى . يهدل الحمام طوال النهار بطريقه متشابهة رتيبة ، لكنها مؤنسة. وفي الاخر . اخر النهار ، يتعب الحمام ، وينكمش على الحواف الخارجية للنافذة، يرسل هديلا يأتيني في سكون الليل كالجرح . وتأتي الفتاة في اخر الليل متعبة . ارى الشحوب يكرمش الوجه الذي يشبه الكمشري .احاول ان اقول شيىا . احتجاجا على التأخير , والضجة التي تحدثها اذ نرتقي السلم .لكنها تسبقني مثرثرة في شؤون المواصلات ,وصويحباتها , والاهل

الذين طردوها. تظل تسامرني حتى الفجر كشريط مستهلك . تقول بانفعال : ذلك صعب. صعبت تماما .

اقول: ماذا؟

– أن يكون انسان بلا اهل . اليس لصعبا ان يكون بلا جذور . وحيدا كشجرة مقطوعة ؟

ثم تشتم صويحباتها المناكفات ، وتتهمهم بالغفلة لان بعضهن سرقن في اثناء العودة الليلية . وتختم حديثها بانها سوف لا ترى لهن وجها بعد الان . فلقد امتلات قرفان من كل شيء .

لكنها تنسى الوعد تماما . اراها كعفريت وهي تنهض من النوم ، وتظل من تحت الغطاء براسها الاشعث ، وعينها المنتفختين، ويكون الثلج قد تراكم على النافذة المفتوحة . ارى قامتها النحيلة وهي تعد الفطور ،و تصفر بلحن شعبي ، ثم وهي تخرج لتطرق الباب على صديقاتها القاطنة في الغرفة المجاورة . اسمع حوارهما خافتا ، ضاحكا ، يختلط بهديل الحمام الذي استيقظ هو الاخر . فامد راسي النائم من النافذة ليلفحني هواء ثلجي . وتامل الحمام الملون وهو يتطاير فوق رؤوس البيوت ، قم وهو يعود مر فوفا قرب النافذه، حيث راس الذي بدا يصحو .

************

في الطابق العلوي . نفس الطابق الذي اسكنه ، ثم غرفة منعزل لا تفتح الا في النادر . و لم يكن من الصعب على الداخل والخارج ، أن يرى الفنان – صاحب الغرفة – وقد اخلد الى الصمت ، متاملا لوحاته الموزعة في مساحة غرفته الصغيرة بفوضى محببة ، بينما الرجل وسطها كتمثال رخامي جميل .

حين رايته اول مرة ، كان الباب مشرعا ، وكان الفنان يتامل اللوحات مسحورا .

قال إذ راني: اهو انت الشرقي ؟ سبحان الله ! هل تعلم انني كنت اقرا عن حضارتكم قبل قليل . اه . بالمناسبة . لقد قرات عن رجل يدعى جواد سليم . هل تعرفت اليه ؟

– ولقد امضيت اكثر من عشرين عاما احتضن ببصري نصبه الذي يملأ قلب بغداد .

– رائع . وهل وصنع الكثير هذا الرجل ؟

– ولديه مشاريع ترقد معه الان في القبر .

طأطأ الرجل راسا حزينا . قال :

– عجبا . لماذا يموت العظماء في الاسماك الصغيرة هكذا ؟

قلت دون تفكير : لانهم يملكون عشره رؤوس في جسد واحد .

هاتف الرجل : اه . اصبت . اصبت.

و كرر كلمه ” اصبت ” اكثر من مرة . وتعاملني بعينين منطفئتين . قال :

– هل تحزر كم لي من العمر ؟

فاجاني السؤال ، غير انني اجبت : انك تقترب من الخمسين .

تضاحك عن اسنان اكلتها السجاير :

– اخطات . فانا في الثلاثين ،

وظل الرجل ينظر في وجهي الذي بدا جامدا كما لو يقول : ههههه ما رايك !

ولما راني لا اقول شيئا . قال بنبرة حزن : ما علينا . انها ضريبة الفن تلك السنوات المبتورة . والان . حدثني كثيرا . اخبرني بكل شيء عن تلك الحضارة العربيه . لماذا لا تصنعون شيء عظيما ، يحتل مساحة وطنكم العربي . شيئا بحجم الحضارة يراه الناس من خلف الكرة الأرضية، فيبدو لهم كالضوء . ويتساءلون باندهاش : رباه . لماذا لم نر هؤلاء الناس من قبل ؟

***********

في الواقع انني بدات احب هذا الرجل كثيرا . ثم رباط سري ظل يشدني اليه . وصرت ارى له ظلا يحتل مساحه العمارة المتواضعة . ظلا تختفي خلفه الظلال الاخرى . وكنت لا الج غرفتي دون ان امر اليه محببا . فكان الرجل ينهض بائسا ، ضاحكا ، ويقدم لي كرسيه الوحيد ، ويتساءل بعجب لماذا لا تزوره كل يوم ؟

ثم يمسك بيدي، ويقودني الى لوحة جديدة ، يكون قد انجزها حديثا ، فارة في كل ما يصنع شيئا باهرا حقا . وكانت الالوان تقودني الى عوالم سحرية . وتبهرني الحركة ، و الصوت ، والدفء الانساني . وكان فرح طفولي ياخذ بقلب الرجل اذ يراني اتامل بانبهار احدى اللوحات . يضل ينقل بصوره بيني وبين اللوحة ، حتى اذا انتقلت الى اخرى ، يتامل وجهي بعمق ، في محاولة لاكتناه ما خلفته اللوحة .

****************

كانت الفتاة المفرطة الزينة ذلك النهار ، ورغم انها نهضت من نوم فترة القيلولة منذ دقائق . الى انها استطاعت ان تقوم بكل شؤون الغرفة في هذا الوقت القصير . انها مدهشة هذه الفتاة . فهي لا تنام اكثر من اربع ساعات في اليوم . مع هذا ، ارى العافية في جسدها الضئيل . غادرت الغرفة ، وعادت برفقة صديقتها القاطنة الى جوارها . فبدتا بزينتهما المضحكة كدميتين متحركتين .

قالت الفتاة : سنذهب الى مرقص (( خيموس )) . يقولون ان ثمة فرقة جديدة تقوم بالعاب سحرية . هل يسرك ان ترى الارنب وهو يخرج من القبعة الفارغة ؟

– كلا . اذهبا لوحدكما .

– لماذا؟ الا يفرحك ان نكون سوية . ان تخفيضات في العرض الاول .

– لا تهمني التخفيضات .

– لماذا ؟ هل انت ثري ؟

– انني ضجر فقط .

– الم تنم ليلي البارحة ؟ هل اقلقك هذا الحمام المزعج ؟

– بل هو لطيف للغاية . لكنني افضل البقاء لوحدي اليوم .

عضت على شفتها السفلى : انا اعرف . انك تريد البقاء مع ذلك الصعلوك .

وغمزت لي بعينها الى الغرفة المغلقة . واضافت . لكنه خرج .

– سيعود . وهو خير من ارنبك المدهش على اي حال . وفي المساء ، كنت اتامل اللوحات الناطقة ، وثمة ظلام يسيل من النافذة .وبدت الالوان ساخنة . تنبض بشيء غامض . وكان الرسام منهمكا بوضع اللمسات الاخيرة على لوحة تمثل زنجيا يمسك رمحا ، ويحدق في جوف غابه مظلمة . يقينا ان ثمة شيئا يعتمل في هذا الجسد الاسود .

وبدا الرسام مشدودا الى اللوحة ، والفرشاة الطبيعة، والوجه الذي توهجك النار ، وكنت انا الى جانبه ارقي الالوان وهي تمتلىء بالدفء ، والصوت ، والحياة وبدا الزنجي بشفتيه اللظيظتين، وإصرار نظراته الشاخصة ، انه يبحث عن شيء ما في جوف الغابة . هل تم الشيء فقده هذا الزنجي ؟

وما كنت واعرب عن ذلك للرسام ، حتى التفت كالمندهش. قال : الا تعرف عم يبحث عنه الزنجي ؟

 

وقبل ان احري بشيء . اضاف : هل تريد ان ارسم في الغابة شمسا ،قمرا ، او هجما فيروزيا حتى تعرف عم يبحث عنه هذا الانسان ؟

**************

كانك الاسماك طلبت في بحيرة (( بنجريفو )) القريبة من العاصمة . ومع اني كنت احب النظر الى الاسماك وهي تتقافز الى اعلى لكنها تدعوك لتناولها ، الا انني كنت ضجرا جدا . تناولت طعام الغداء بنفس مسدوده و تاملت صور الاسماك المعلقة على جدران المطعم الشعبي . وفكرت في الفتاة التي تركتها هذا الصباح تتحدث على المائده بطريقه سمجة . و تشير بيدها الى كل الاتجاهات بينما الطعام يتناثر من فمها الدقيق، ويتساقط على المائدة . ولما لم اعرفها اهتماما ، كفت عن الحديث ، و انصرفت الي ثيابها ، ثم اتجهت الى الباب لتخرج .توقفت لتقول :

– انك تحيرني فعلا . لك قلب كالصخر ، و لسان كالعسل . هل تتعمد ذلك؟

– اتعمد ماذا ؟

– انت لا تحبني .

– انا لا أكره احد .

– انت تضع الشوك في درب من يحبك . لماذا ؟

– انا لا أكره أحدا.

جلست على حافة السرير:

– انا مجنونة بحبك كعانس خرمة . وانت تنصرف الى ذلك الذي يلقي بدراهمه ليبيت بمعدة فارغه . اتكون الالوان اثمن من معدته الفارغة ؟

– هو حر في معدته والوانه ؟ .

ظلت واجمة لدقائق . ولمالم تجد ما تقوله ، طفقت تتحدث في شؤون صويحباتها. والاهل البعيدين . والاخ الذي صفعها لانها طلقت . قالت :

– هل ترضى ان يصفعني لاني طلقت ؟

– لا ارضى .

– لكنك لم تفعل شيئا .

– افعل ماذا ؟ انه اخوك .

– لا اعني ذلك . اقول : لماذا لم تفعل شيئا . تتزوجني مثلا ؟

و شعرت بالدوار . انها القصة الخالدة . وخرجت من الغرفة . وكدت ارى الفتاة وهي تخزرني بعينين مستنكرتين كما لو تقول بوحشية : ومن تكون انت ؟

*****************

حين عدت مساء ، كان الظلام يخيم على الطرقات الحجرية الباردة . بينما السماء ترش المدينة بمطر ناعم ، هجسته يدخل الى صدري العاري . حين دخلت الغرفة ، لم يكن ثمة احد ، و كان في وسعي ان اري – من الباب الموارب – غرفة الفنان المغلقة. وشعرت اني وحيد تماما . كائن بحاجة لان يتنفس . ودخنت علبة من السجائر . وتجولت في الغرفة كقط حبيس . و خلت نفسي حبيبا فعلا . كتلة ادمية منعزلة . وتخيلت وجه اخي الذي فارقته قبل ايام ، عملاقا ، فارع الطول ، يمتطي دبابته ، ويصول في الميدان كالنخلة . وقلت : لماذا فارقت هذا الاخ العزيز ، والام التي ما فتئت ذكراها تطعن القلب كالخنجر ؟! و قرات الرسالة التي وصلتني منه قبل ايام . فها هو يقول انه الان في الجبهة ، وانه دحر هجوما كاريكاتيريا من الاعداء ، و هو يزور بغداد في الاجازات بانتظام ، لكنه رفض في المرة الاخيرة اجازتين متتاليتين. فما الذي يعني التجول في بغداد ، والتسكع في شارع الرشيد ؟

 

ويكاد يضحك وهو يخبرني بطرائف حدثت له في القتال .ويقول في آخر سطر : ساكتب اليك المزيد عن تلك الصور الكاريكاتيرية التي تحدث هناك . انا مشتاق لك . صورتي وانا امتطي صهوة الحصان الحديدي . هل انت بخير في الغربة . عهدي بك طفلا يكسر الدمى التي يلعب بها ، ولا يستقر على حال .

وتاملت صورته الباسمة . وداخلني الاحساس الذي ما فتىء يتحول في الاونة الاخيرة الى وخز كالشوك . وكنت اقف بعد كل نوبة شوكية . وتساءل عما تعنيه الغربة لرأس مهاجر مثلي ؟ وتاملت الغرفة البائسة اهو ذاك الحلم الذي طاف في الراس كحلم اثيري وانا في وطني ؟ ثم ما الذي تعنيه تلك الغرفة لرجل يعشق الطيران ، والحلم الدافئ ، و التحليق فوق الغيوم الجليدية ؟!

ونظرت من النافذة ، متأملا الاجنحة الزرق وهي تخفق ، وتحط على الرؤوس القرمدية. و تاملتها وهي تقترب من النافذة كنثار ورقي .وداخلني هاجس ان ثمة في القلب شيئا يخفق هو الاخر ، ويرفرف في الغرفه الضيقة ، و يتحول الجسد الى طير ويحلق فوق المنائر ، ودجلة ، والشناشيل ، و الميازيب المكركرة بمياه المطر .

بعد قليل سمعت وقع اقدام ترتقي السلم الحجري و وصرير باب يفتح ويغلق ، فعرفت ان صديقي الفنان عاد . وبدون وعي وجدت نفسي الج عليه الغرفة ، واقول دون تمهيد : جئت اودعك .

بهت الرجل . وظل على الوضع الذي كان فيه لحظة دخولي ، واظنه كان يهم بالجلوس . ومضت اكثر من دقيقة ، وكنا صامتين .

قلت ثانية : جئت اودعك .

تاملني الرجل وعرفت انه يستقوىء، العينين الذابلتين.

قال :

– ما هذه المفاجاة الجليدية .هل حدث شيء ؟!

– كلا . لا اريد البقاء . هذا كل ما في الامر .

– والى اين تذهب ؟

– اني اعرف الطريق .

– اجلس او لا ، و خبرني بالذي حدث .

وتضحك الرجل . وجلس قبالتي وفتح فمه ليقول شيئا . غير انه اثر ان يحدق في وجهي لفتره طويلة . قال :

– هل قلت انك تعرف الطريق ؟

– وكاد احلق الساعة دونما اجنحة .

ابتسم الرجل بود :

– كنت اتمنى ان اراك كثيرا . لكن خذ هديتك اولا . واتجه إلى زاوية الغرفة ، وارفع لوحة ، انشرها في الضوء قبالتي . فشعرت ان ثمه في عقل الرجل شيئا كالمرصد . فلقد فهم كل شيء .

وضع اللوحة بين يدي ، فرفعتها ، متأملا الجندي الذي ملأ المساحة الملونة ،وقد بدا ثابت النظرات ، والى جانبه المنارات البغدادية ، ودجلة ، والشمس. وثمة ، في الخلف ، وجه الزنجي يبحث عن الشمس التي بدت كبرتقالة ناضجة .

أحدث المقالات