كما يحدث في كل عيد منذ ما يقرب من عشرين سنة تصدَّر (الوطن) رسائلَ التهنئة التي تبادلتها فئتان من العراقيين بعيد الأضحى. الأولى فئة الحاكمين، وهم حزمة واحدة، رغم خلافاتهم ومعاركهم الطائفية والمصلحية المستمرة، ورغم اختلاف الدول الخارجية التي يُخلصون لها التبعية والولاء. أما الثانية فهي فئة المحكومين، وهؤلاء جماعتان،
الأولى، جماعة الولائيين المتعلقين إما برقبة الولي الفقيه أو بحبال أمريكا أو بريطانيا أو السعودية أو تركيا أردوغان.
والثانية، جمهرة المواطنين الأبرياء ذوي النوايا الحسنة الذين تحترق قلوبهم على وطنٍ كان موحدا وعزيزا فأصبح غير موحد وغير عزيز، ولكن عيونهم بصيرة وأيديهم قصيرة، ولا حول لهم ولا قوة.
واللافت أن جميع هؤلاء المهنئين، على اختلاف أنواعهم وأجناسهم وولاءاتهم، أصروا، في بطاقات معايداتهم، على أن يتحدثوا عن الوطن، ولكنهم لم يحددوا أيَّ وطن يقصدون.
هل يقصدون وطن نوري المالكي أم وطن مقتدى؟، أم وطن هادي العامري وفالح الفياض وقيس الخزعلي وعمار الحكيم وحيدر العبادي أم وطن محمد الحلبوسي ومثنى السامرائي ومحمد المشهداني وسليم الجبوري وأياد علاوي ورافع العيساوي وأحمد أبي ريشة وأحمد الجبوري (أبو مازن) ومشعان؟.
أم وطن المنتفضين التشرينيين أم وطن قتلة المتظاهرين؟، وطن المهجَّرين الممنوعين من العودة إلى منازلهم في ديالي ونينوى والأنبار وصلاح الدين، أم وطن المغيَّبين المجهولين والهاربين من وجه عدالة الحشد الشعبي وحزب الله والعصائب؟.
أم وطن مسعود وهوشيار ومسرور ونجرفان، أم وطن كاك بافل طالباني؟.
أم هو الوطن الذي تنتظر ملايينُه المُلوَّعة، على أحر من الحمر، أن تظهر في حكامها، فجأة، صحوة ضمير، فيخافوا الله، ويكتفوا بمن قتلوا، وما سرقوا، وما هَرَّبوا، ثم يقرروا أن ينزلوا عن ظهر هذا الشعب الحزين؟
وفي جميع تهنئاتهم للشعب العراقي عبَّر المحتلون المقيمون الذين أصبحوا أصحاب دار، والأشقاءُ والأصدقاءُ المتكسبون الضيوفُ العابرون، عن حبهم للعراق، وبكوا على كرامته الضائعة، وتألموا لسيادته المنتهكة، وأوصوا بالصبر والصلاة، وحثوا على خير العمل، وعلى وحدة الصف، وعلى الرفق بالحيوان، وبالإنسان.
والعتب ليس على هؤلاء الغرباء. فقد وجدوا مائدة باذخة مشهيَّة مغرية، ويأمرهم واجبهم القومي والوطني بأن يَنتِشوا أفضلَ ما في الوليمة، وبسرعة، وقبل فوات الأوان.
ولكن العتب، كل العتب، على السياسيين المحليين، أسياد الحكومة والبرلمان، والمتحاصصين معهم من سنة الحكومة وكردها. فهم الذين استضافوا الغرباء، وهم الذين أعانوهم على تقطيع الوطن إلى لُقَم وفتفافيت، أكلوا نصفها وتركوا نصفها للضيوف.
وفي خضم هذه الملحمة يسأل عراقيون ذوو نوايا حسنة، لماذا لم توحد المآسي والكوارث العراقيين، ولم تتمخض عن قائد عراقي وطنيٌ شهم نزيه شجاع قوي حكيم ومحترم يقود جيوش الوطنيين الغاضبة، ويعيد لهذا الوطن عزته القديمة التي تَسرُّ الصديق وتُغيض العدى؟.
والجواب هو أن ثوابت التاريخ المُثبَت بالأدلة والبراهين تقول إن القيادة العظيمة لا تولد في أمة غير عظيمة، مفتتة، أصاغرها أكثر من أكابرها، وبخلاؤها أكثر من كرمائها، وجبناؤها أكثر من شجعانها، وسفهاؤها أكثر من حكمائها.
فحتى المعارضة السريلانكية تحركت وانتصرت وتمكنت من طرد الرئيس والحكومة والبرلمان.
وتونس البطلة الصغيرة التي قالت، وصممت، ثم فعلت، بحرية ودون وصاية خارجية أو داخلية، فكتبت دستورها الذي تريد، واختارت نظامها الذي يحتاجه التونسيون والتونسيات، برئيس واحد ينتخبه الشعب، ولا يُنصِّبه برلمانٌ خارحٌ من صناديق اقترع مغشوشة ومزورة، ويملكه بضعة رؤساء كتل وأحزاب.
وفي المملكة العربية السعودية أسوةً حسنة. فقد أقام رئيس أمريكا العظيمة حملته الانتخابية على كرهها، وعلى بغض ملكها وولي عهدها، ووعَد بحصارها، وبجعلها دولة محاصرة منبوذة. وحين أصبح هو الرئيس أمعن في عدائها، فرفع عدوَّها الحوثي من قائمة الإرهاب، ومنع عنها السلاح، وتشفى بالصواريخ الإيرانية وهي تصيب مصانعها ومطاراتها وموانئها.
وحين دارت عليه الدوائر، وداهمته المعارك الأوكرانية المنهكة، وحاصرته العنجهية الصينية العائدة من سبات طويل، وتدهورت شعبيته في الداخل، لم يجد بُدَّأ من أن يأتي طائعا إلى السعودية طالبا ودَّ ملكها وولي عهدها، علنا وعلى رؤوس الأشهاد.
ولو دققنا في العوامل الحقيقية التي قادت إلى هذا الحدث العظيم لن نجد سوى صمود الشعب السعودي، وصلابة قدراته المالية والاقتصادية والسياسية الضاربة، وشجاعة القيادة الواحدة الموحدة، وصمودُها.
أما حين يبشرنا كتابٌ ومحللون ومعلقون عراقيون بأن أمريكا، عائدة، إلينا أيضا، لتكفر عن ذنبها، ولكي تردَّ الأمانة إلى أهلها، بعد غياب طويل، فإنهم ينسون أو يتناسون أنها هي التي أدخلت الوطن وأهله في هذه الزجاجة المعتمة، وأحكمت غلقها. وهي التي أخرجت هذا الميَت من ذاك الحي، وجعلته ممالك وجمهوريات موزعة على مكونات ومذاهب وطوائف.
> اياد الزاملي:
وكل مكوَّنٍ حر في ملكه، فهو الذي يختار من يجلس في مقعده حول المائدة الاتحادية المستديرة في العاصمة، حتى لو كان فاسدا، قاتلا، مهربا، مختلسا، جاهلا، فاشلا، وعميلا أيضا. فليس من حق أحد من مكون آخر أن يتدخل فيما لا يعنيه، لئلا يلقى ما لا يرضيه، كما يقول المثل.
هذه هو الواقع الحقيقي في العراق. إنه مُحبط، ورديء، وعصيٌّ على التصليح.
ولكن الثابت، من تجارب تاريخية عديدة، أن أكبر قوة استعمارية غاشمة لم تستطع أن تقهر الشعوب القوية، فتضطر دائما إلى أن تحني رأسها أمامها، وتحترم إرادتها، وتخطب ودها. وقديما قيل الحق بالسيف والعاجز يبحث عن شهود.
وأخيرا، هل العراق أقل من شعوب السعودية وتونس وسريلانكا والأرجنتين وفينزويلا؟، أشك في ذلك.