روايات الفنتازيا المشهورة في الحضارة اليونانية يكثر فيها الحديث, عن الآلهة الذين يحكمون أوطانهم، وتماثيلهم المنتشرة في أثينا تبين أنهم مفتولي العضلات، يمتازون بالحكمة والشجاعة، وتوحي بحبهم الوطن و رعاية الرعية، كل ذلك إيماناً منهم بأنهم المختارون لقيادة الأمة، فيجب عليهم أن يكونوا قدوة لرعيتهم.
أنتهت تلك الأساطير وأندثرت مع الزمن، ليأتي بعدها من هم أهم للبشرية، الأنبياء والمرسلين الأكثر حكمة.. يحملون رسالات لنشر السلام والرحمة، من إله واحد خالق لهذا الكون وما فيه، وبما أن لكل زمان رجالاته الخاصين، ونتيجة لتعاقب الأجيال ودورها في هيكلة المجتمعات، كان متوقعا ظهور الحاخامات والقساوسة والخلفاء والمراجع.. وهؤلاء يتبعهم مجموعة من الأفراد.. بعضهم تنحرف لديهم فناتازيا العقل، ويتضخم لديهم حب النفس، والنرجسية والكبرياء، فيلتف حولهم مجموعة من الناس، ترتفع أصواتهم وتنخفض حسب ما يصرح به تابعيهم, ويطبقون نظرية السلسلة ويبدأ الناس بالتكاثر حولهم حتى يكونوا عصبة، يشتركون فيما بينهم بمجموعة من الصفات، ويصبحون مجرد دمى يتحركون حسب ما يأمر به محركهم.
يطلق على هؤلاء المتحكمين مصطلح القائد أو الزعيم، حسب أنتمائه الديني ومذهبه الطائفي، وهذا القائد دائماً ما يتبع طريقة محددة، لتهيئة الأفراد للأنصهار داخل المجموعة وإنسلاخهم من ذاتهم، حتى تتكون لدينا ذات وشخصية للجماعة تتماشى مع أوامر القائد، ويجب أن تكون طاعتهم لهُ عمياء، وتنفيذهم للأوامر مجردة من أي تساؤل، وكل القادة الذين وصلوا إلى مرحلة “الألهة” طبقوا خطوات ثلاثة تجاه أتباعهم..
أولها الجانب النفسي فلا توجد أهمية للماديات في الحياة، حتى ينسلخ الفرد من الواقع ويدخل معترك الخيال، ليتيح له مواجهة الموت بلا تردد، لأن تفكيرهم سيكون خارج حدود الفرد الإنسانية، لأن قائدهم سيخلق لهم وهم الحقيقة، الذي يجعلهم في مسرحية خاصة بهِ، بعيدين عن ذاتهم، منغمرين في حركته الجماهيرية.
ثانياً خلق عدو مادي أو معنوي للجماعة، ليدخل الأفراد في مواجهة دائمة مع النفس، في أنها معرضة لخطر الأقصاء وتقييد حرية المذهب والدين، يكون العدو متغيراً أحياناً، حسب التوجه السياسي للقائد، أو ثابتاً إذا كان الزعيم ذو ميول طائفية، عندها يكون العقل الجمعي لا يؤمن بأهمية خسارة حياته، لأنه عندها لا يخسر سوى الحاضر، الذي يعتقد في داخله أنه ملوث لا قيمة له، تجاه ما سيحققه للجماعة في المستقبل، عندها يكون القائد قد حقق أهم نقاطه، بأنه قزم الحاضر بعقولهم، وجعله مجرد حلقة وصل ضعيفة، بين ماضي عظيم ومستقبل أعظم، ليخلق منهم أمواجاً تتفانى من أجل تلبية رغباته الدنيئة، معتقدين داخلهم أنها أسمى الغايات.
أخيراً البناء العقائدي فتعتبر العقيدة التي يزرعها القائد في نفوسهم، حاجزاً يحجبهم عن العالم، ويبعدهم عن ذاتهم الإنسانية، فتجعلهم متمسكين بها، ومستعدين للتضحية بما يملكون من أجل أحيائها، وهذا يجعلهم متطرفين عاطفياً تجاه كل ما يخص معتقدهم، فيخلق لهم جواً مشحوناً بالعاطفة، التي تتيح لهم تغييرات جذرية، من ركودهم البائس إلى إنفعالات مسيطر عليها، وهنا يعتمد القائد على إثارة المشاعر، لخلق فاعلية غير متوازنة بين الذات والنفس، حتى يجردهما من بعض، ويجعل الفرد يذوب في العقيدة الجماعية.
كل هذا يبين لنا أن الإنسان بفطرته عبارة عن مجموعة صفات، لو تكاملت ظروف معينة في بيئة خصبة، نستطيع أن نغير في طبيعته الأصلية، لأنها تجعل منه كالعجينة، تتشكل كيفما تكون الظروف، والكابح الوحيد للإنحرافات وتكوين آله من بشر، هو الوعي وعقيدة راسخة وقانون عادل, وهذه ضعيفة جداً في المجتمعات العربية حالياً، لذلك نجد أن مصطلح القائد والزعيم والخليفة، تكثر فيها ولا يمكن أن تنتفي ربوبيتهم إلا إذا تطور الوعي الذاتي للشعوب، والقادم سيثبت أننا مواطنين نصنع آله أكثر من آله اليونان.