في نهاية تسعينات القرن العشرين التقيت بالصدفة وبعد سنين طوال مع زميل لي من أيام الدراسة الجامعية وهو عائد للتو من اليمن. الرواتب الضئيلة جداً في العراق والتي ولا تتجاوز بضع دولارات في الشهر، كانت تدفع بالخريجين وخصوصاً حملة الشهادات العليا إلى الهجرة إلى اليمن أو إلى ليبيا للعمل هناك.
صديقي هذا كان يحمل شهادة الدكتوراه ومنذ قرابة الأربع سنوات وهو يعمل في إحدى الجامعات اليمنية.
الصدفة جمعتني به في موقف الباصات قرب المحاكم بكركوك، حيث كنت أنوي ركوب الباص والعودة إلى البيت بعد إغلاق المحل في ظهيرة يوم تموزي لاهب والشمس تقترب من الأرض وكأنها تكاد أن تصدم بها وكأن كل شيء من حولنا يكاد أن يحترق دون أن يمسسه نار.
كانت هنالك شحة كبيرة في عدد الباصات وركوبها يتطلب الإنتظار لفترات ليست بالقليلة وفي أجواء لا نحسد عليها. وما أن يأتي الباص الموعود حتى يتراكض الجمع الغفير من المنتظرين للركوب. ولا يفوز بمقعد في الباص أو حتى الركوب وقوفاً إلاّ ذو حظ عظيم.
أنا وصديقي الدكتور كنا نهرب من أشعة الشمس الشرسة إلى جنب حائط تنبعث منه الحرارة وكأنه جدار فرن فيه تنور خبز لنستظل به. نتجاذب أطراف الحديث وهو يشرح لي عن الحياة التي قضاها في اليمن وما شاهده كل تلك السنين وعن الحياة الجامعية هناك.
سألته عن سبب الرجوع ليخبرني عن عدة أسباب منها إنتهاء عقد العمل وإنتظار التجديد.
ومن ثم سألته: بماذا تفكر بعد العودة إلى أرض الوطن؟ ما هي أمنياتك الأن؟
حينها كان الحر يكاد أن ينال منا ونحن في ظل هذا الحائط اللعين. العرق ينصب من كل نقطة في أجسادنا وكأنه خرطوم ماء مفتوح على الآخر والنفس في ضيق بالغ. ولو سألتنا عن أسمائنا قد نكون في تردد قبل الإجابة لتعذر الإستذكار فوراً في هذه الأجواء اللاهبة.
من المؤكد أن لديه من الأموال ما تكفيه بعد السنين التي قضاها في الغربة وقد توقعت إنه سيشرح لي خططه في الزواج وتكوين أسرة وبيت وعائلة. فالغربة وإن كانت صعبة إلاّ أنها جيدة بمردودها المادي كما نعرف.
لم يتردد في الإجابة على تساءلي عن أمنياته بعد العودة وعن خططه وأحلامه. تحدث على مضض وأنا أرصد في عينيه بريق الحسرة الممزوجة بإبتسامة باردة وسط الحر الشديد وبعدها جاءت الإجابة التي لم أتوقعها حين قال: أمنيتي الأن أن أصعد الباص وحلمي أن أصل البيت قبل حين وأشرب ماءً بارداً وأن أرتمي تحت الماء في الحمام وأن يكون الكهرباء موجوداً لأتنفس هواء العليل مستلقياً على فراشي.
هكذا هو الحلم في العراق الذي لا يتجاوز حلم صعود باص حقير والوصول إلى البيت دون أن تكون فريسة الشمس بضربة تقعدك منهكا لأيام وأن تشرب الماء وتدخل الحمام وتجلس تحت ماء بارد يطفئ نار القلب وأن يكون الكهرباء حاضرة لتشغيل المكيف ليس إلاّ.
وما زاد الحلم على ذلك.