17 نوفمبر، 2024 1:37 م
Search
Close this search box.

ضاع س وكسبت الشرتوني-نصّ

ضاع س وكسبت الشرتوني-نصّ

يقف كتاب مبادئ اللغة العربية (الصرف والنحو) للمعلم رشيد سليم الشرتوني طبعة 1950 على رف مكتبتي شامخاً معتداً بتاريخه بين الكتب التي تصطف على رفوف المكتبة، ولا يسبقه في العمر سوى كتاب أذكار من إرث جدي الشيخ الصوفي على الطريقة الجيلانية، كتاباً مجلداً بطريقة بسيطة مع خطب الجمعة التي كان يستعملها أيام كان خطيباً في قرية قريبة. ستتحدث أوراق كتاب الشرتوني الصفراء، إن نطقت، عن الأيدي التي تناقلته وقلّبت صفحاته، وستعكس صفحاته لو انقلبت مرايا مئات الوجوه التي تحركت عيونها على سطوره. يقف الكتاب على الرف بفخر مرتدياً الغلاف الأسود المقوى الذي لبسه بكعب محزز تزينه الكتابة الذهبية التي رسمت على هذا الكعب. ما بين اليد الأولى التي استلمته واليد التي منحتني إياه أجيال، وما بين النسخة ذات الغلاف الورقي المصفر التي وصلتني وهذا الغلاف الأسود الكرتوني الصلب الجميل مسافات قطعها الكتاب، حتى ارتدى هذا الرداء في مطبعة دمشقية على يد صديقي س. سنوات من التنقل بمبدأ الإعارة لأنني امتلكته ولم أشأ التخلي عنه، فقد استعملته في سنوات المدرسة الثانوية واعتمدت عليه فيما بعد كمرجع سهل للرجوع السريع لاستيضاح أمر ملتبس عليّ أثناء كتابة مقالة أو منشور أو نص أدبي، أو للاحتكام إليه في خلاف لغوي بيني وبين آخرين. تذكرني كلمتي “الاحتكام” و”الكرتوني” بقصة رواها لي في الثمانينات من القرن الماضي الصديق الشاعر سعود الأسدي في حديث ذكريات على هامش مهرجان لجان العمل الثقافي الديمقراطي بعد أن أسعدنا بشعره وزجله. اختلف سعود حين كان طالباً في المدرسة الثانوية مع أحد معلميه في موضوع لغوي، وكان سعود موقناً أنه على صواب، فأحضر كتاب الشرتوني وقال لمعلمه “ها هو الشرتوني يقول ما أقول”، فاستفز المعلم وأصر على موقفه قائلاً “شرتوني، كرتوني، ما دخلني”، مضيفاً ما معناه “أنا أفهم منك ومن الشرتوني في هذا الأمر”.

يرتبط كتاب الشرتوني عندي بذكريات، من أجملها حين طلبت استعارته إحدى بنات الجيران التي تكبرني بصفين دراسيين بعد أن أرسلت أختها الصغيرة بورقة ولم أكن في البيت، فحملته حين عودتي وأوصلته إليها، وحظيت بترحيب واحترام من والدتها وضيافة شاي وربما قطعة كعك من عملها، حيث كانت طالبات المدارس والصبايا معتادات على عمل هذا “الكيكس” من دروس التدريب المنزلي، كما كانت تدعى هذه المادة الدراسية. قالت إنها سوف تستعيره لبضعة أيام وستعيده مع أختها مكررة شكرها، وضبطت نفسي عن التسرع والقول إنني سآتي لأخذه بنفسي، من باب الخوف من الظهور بأن الزيارة والعودة إليها هي الأساس.

في المقابل، يحمل الكتاب ذكرى مؤلمة، ذكرى مصير صداقتي مع صديقي (س)، لست أدري أأعتذر للكتاب عن ارتباط اسمه بهذه التجربة، أم أن الكتاب سيعتذر لي لأنه يذكرني بها. ذكرى تواكبت مع العمل النضالي وإجراءات الاحتلال ضدي. قُتلت صداقتنا في المد والجزر المصاحب لمعمعان النضال وما يجره القمع والترهيب الاحتلالي، وما ينتج عن هذا المعمعان من الإصرار على الموقف والصمود والتحدي في مواجهة إجراءات الاحتلال ودفع ثمن ذلك سنوات من العمر خلف القضبان أو تحت الإقامة الجبرية أو في استدعاءات للتحقيق، وخسارات أخف من تحييد البعض مع قدرتهم على المحافظة على علاقة خفيفة تتمثل بالاحترام الداخلي للمناضلين والخشية من الانضمام إلى مواقفهم وترك مسافة تبقي على العلاقة وتتقي الشبهات، ومن انهزام البعض بقطع العلاقات مع المناضلين خوفاً من أن يصبح المرء منهم مشبوهاً أمام الاحتلال، وصولاً إلى سقوط البعض أمام ضغوط المحتلين العقابية أو إغراءاتهم، سقوطاً مختلف الدرجات على سلم الذل ودور العمالة الذي يتضمنه هذا السقوط. ما زلت غير ملمٍّ بتفاصيل سقوط (س) وابتعاده المفاجئ عني في تلك الأيام، في ذلك المعمعان، ولا تطاوعني نفسي أن أبحث عن تلك التفاصيل، لأن نكأ الجراح مؤلم كألم الإصابة بها، وربما أكثر.

س كان صديق طفولة، ما زالت صداقتنا أيام المدرسة وأيام الدراسة الجامعية وما بعدها بسنوات ماثلة في ذاكرتي، رغم السنين الطويلة التي مرت على ضياعه، ماثلة بكامل حلاوتها، رغم تعاسة السنوات التي تلتها. أشعر أن تلك الأيام لم تشوه بسواد السنوات التي تلتها، أو ربما يمكن القول بطريقة أكثر دلالة، تصبح حميمية تلك الأيام أشد وضوحاً وتلألؤاً عندما توضعان معاً. أيام المدرسة كم درسنا سوية، في بيتهم الذي كان يفوق بيتنا بدرجات في كل جوانب حياته ومكوناته، أقصد في مستوى معيشة ساكنيه، نتذوق فيه معاً ما تصنعه والدته من الكعك مع الشاي، وكم زارني في بيتنا وشربنا الشاي الثقيل الداكن مع الشجيرة (الميرمية) كما نحبه في أسرتنا مع أقراص الزعتر والحميض.

كلما زرت البلدة ومررت قرب بيته، أو قرب مكان لعبنا فيه معاً أيام المدرسة، تدور في ذهني أغنية فيروز “ضاع شادي”، ضاع س. أحزن على ضياعه، أحزن على سقوطه من فرازة الأيام، حزناً كحزن الفقدان، ولكنه فقدان نحو الهاوية، فقدان نقيض لفقدان الذين ودعناهم بألم وفخر نحو قمة المجد وخلود الذكرى، ولكن في كلا الأمرين ألم مع الفارق الشاسع بينهما.

عنما تيقنت من ضياع س، بدأت أسترجع مؤشرات ما قبل ضياعه.

كان س يزورني في بيت العائلة، بيت والدتي حيث كنت أقيم تحت الإقامة الجبرية المفروضة عليّ في بلدتي يعبد، بعيداً عن بيتي وأسرتي الصغيرة في نابلس، وبعيداً عن عملي مدرساً في جامعة النجاح الوطنية، هكذا أراد الاحتلال أن يعاقبني بعد أن فشل في إدانتي بتهمة التحريض أمام محكمة عسكرية إثر صدور ديواني الشعري الأول بعنوان “وعد جديد لعز الدين القسام”. بالمناسبة كان القسام اسماً غير قابل للقسمة، كما صار بعد ذلك يا للأسف، كان اسماً يرمز إلى نضال الفقراء ضد الاستعمار والاستيطان وضد سيطرة القيادات التقليدية على الحركة الوطنية، ولذلك صار اسمه قاسماً مشتركاً لكل الوطنيين، وصارت صوره تحتل مكانها على جدران مكاتب أحزاب اليسار باعتباره رمزاً للثورة الشعبية. من حق كتاب الشرتوني أن يحتج ويعاتبني إن أبقيت اسمه مرتبطاً بتلك الذكرى المؤلمة. ولذلك ومن أجل عيون الشرتوني سأعرج في تحليق آخر على تجربة تلك المحاكمة وما دار فيها، وأنصفه بالإشارة إلى دوره في إنتاجي الأدبي لأخفف عنه وطأة هذا الارتباط المؤلم، فمن حقه ذلك، ألم أتعلم منه قواعد اللغة وأثّر ذلك في كتابتي شعراً ونثراً؟

في إحدى الأمسيات زارني س في البيت، وأثناء وجوده حضر لزيارتي أبو أحمد، واحد من الرجال القلائل الذين كانوا يزورونني أو يجلسون معي في المقهى دون خوف من أن يصبح الواحد مشبوهاً من قبل الاحتلال، فقد كانت سلطات الاحتلال تحاول إبعاد الناس عني خلال تلك الإقامة بأساليب مختلفة، إلى درجة أن حاجزاً عسكرياً وضع على مدخل البلدة في أحد الأيام أوقف باص البلدة المتجه إلى المدينة وصادر الجنود بطاقات الهوية من كل من يحملون اسم حمولتي وطلب منهم الذهاب إلى مقر الحكم العسكري، وتم حجزهم هناك حتى المساء دون أن يتحدث معهم أي ضباط الاحتلال. عند المساء طلب أحدهم إلى الضابط الذي أسمعه بضع كلمات وطلب منه أن يبلغ الجميع بأن السبب في حجزهم أنهم من أقاربي. أبو أحمد مناضل بالفطرة، وأبناؤه كانوا من الشباب الذين انضموا للعمل الوطني وتبنوا الفكر التقدمي. بدأ أبو أحمد يتحدث بطريقته المميزة المليئة بالأمثلة والعبر حول ما حصل معه عند استدعائه لمقر الحكم العسكري. قال إنه تسلم استدعاء للحضور إلى مقر الحكم العسكري في المدينة في الساعة الثامنة صباحاً، وأن عليه مراجعة الضابط فلان في مكتبه. في اليوم المحدد ذهب إلى أرضه، طبعاً أبو أحمد لا يبخل على مستمعيه بتفاصيل التفاصيل حتى تكون الحكاية كاملة التشويق، مركزاً على أن الأرض كانت محروثة وجاهزة، الأرض الموجودة في الجهة الفلانية من البلدة، والتي كانت جاهزة للبذار الشتوي. عمل ما كان عليه من بذر القمح استعداداً للمطر، وما أن أنهى بذر البذار حتى نزل المطر، واعتبر أبو أحمد ذلك، طبعاً، فأل خير ورضا من الله، إذ انهمر المطر بعد أن أنهى عملية البذار. دون أن يغير ملابس العمل انطلق إلى موقف سيارات الأجرة في البلدة ومن هناك توجه إلى المدينة. حين دخل مكتب الضابط صاح به الأخير: لماذا لم تأت على الموعد؟ أخرج أبو أحمد من جيبه الطلب المبتل ووضعه أمام الضابط، سأله الأخير “ما هذا؟”، أجاب أبو أحمد “هذا هو الجواب على سؤالك، كنت في الحقل من أجل خبز عائلتي، هذا أهم بالنسبة لي”. صرخ الضابط عليه وهدّد وتوعّد بأن أولاده في المنظمات وسيدفعون الثمن، فأجاب أبو أحمد ببساطة “إذا عليهم إشي، احبسهم، أولادي كبار ومسؤولين عن حالهم”، طرده الضابط مجدداً تهديداته. عندما وصل إلى هذا الجزء من حكايته صار حديثه مختصراً على غير عادته، وأصبحت نبرة صوته أعلى من المعتاد، وتحول في الحديث ليصب جام غضبه على العملاء الذين وصفهم بأبشع الأوصاف، لم يكن فمه الذي يتحدث فقط، كانت يداه تتحركان وسبابته تعلو وتهبط، وكانت عيناه تقدحان شرراً، كما يقال. كان خلال حديثه كله يوجه نظره وكلامه نحو س، كان لا يخرج من جملة شتائم وتهديد حتى يدخل في أخرى مستعملاً أقسى الكلمات، وكانت نظراته نحو س تنطق بقسوة تفوق قسوة كلماته. بعد قليل استأذن س وخرج. استغربت ما حدث، وعاتبت أبا أحمد “لماذا كنت توجه حديثك نحوه؟”، أجاب “ستريك الأيام لماذا”.

بعد أيام التقيت س في الشارع الرئيسي، سلمت عليه، كان بارداً في رده، وطلبت منه كتاب الشرتوني لأنني بحاجة إليه للرجوع إليه في الكتابة عندما يلتبس عليّ أمر في قواعد اللغة. قال “انتظرني سأحضره”. جلست انتظره في المقهى القريب. عاد سريعاً وبشكل جاف جداً قال “هذا الكتاب، ولكن لي عندك خمسين ديناراً، أريدها”. صدمت، فهمت أن س يريد أن يقطع علاقته معي، قلت “حقك، لقد رجوتك أن تأخذها حين خرجت من السجن منذ ثلاث سنوات، ولكنك كنت ترفض”، قال باختصار كمن لا يريد ألاّ يوسع الحديث “والآن أريدها”. طلبت المبلغ من صديق صاحب محل تجاري قرب المقهى وناولته إياه. سألني صديقي عن الموضوع أخبرته قصة المبلغ. كنت قبل اعتقالي ومكوثي في السجن ثلاث سنوات قد اقترضت من س المبلغ لأدفعه كدفعة مقدمة ثمناً لبلاط أوصيت عليه للبيت الذي كانت عائلتي قد بدأت ببنائه، ووعدت س أن أرد له المبلغ في نهاية الشهر عند استلام الراتب، ولكنني اعتقلت قبل نهاية ذلك الشهر. عند خروجي من المعتقل أردت أن أسدد الدين لكن س يومها رفض ذلك رفضاً قاطعاً من باب صداقتنا.

انتهت السنة الثالثة من الإقامة الجبرية باعتقالي اعتقالاً إدارياً لمدة ستة شهور، والاعتقال الإداري توأم الإقامة الجبرية، فهما من الأوامر الإدارية التي يصدرها الحكم العسكري الاحتلالي دون حاجة ليتعب نفسه في تحقيق أو لوائح اتهام ومحاكمات ضد من يعتبرهم نشطاء في العمل الوطني. انتهت فترة الاعتقال الإداري وعدت إلى العمل في الجامعة. بعد أقل من سنة اعتقلت اعتقالاً إدارياً مرة أخرى قبيل اندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى. خلال تلك الفترة كانت زيارتي للبلدة قصيرة بسبب ظروف العمل، ولم يصدف أن التقيت س في أية زيارة.

بعد اندلاع الانتفاضة، تغيرت الأجواء، وصار الشباب الوطنيون يحظون بالاحترام والتقدير من الناس، وصارت كلمتهم مسموعة ويتقرب منهم حتى من كان يخشى الحديث معهم خوفاً من إجراءات الاحتلال. لم أعش تلك الأجواء في السنة الأولى، ولكنني كنت أسمع عنها من المعتقلين الجدد الذين بدأوا بالوصول إلى المعتقل. وفي وسط الأخبار المفرحة عن الانتفاضة والتفاف الناس حول فعالياتها وحول مناضليها، ومع وصول خبر استشهاد شقيقي أحمد اغتيالاً على يد القوات الخاصة التي أسسها الاحتلال لتصفية المناضلين البارزين، وسط كل ذلك سمعت عن شكوك متزايدة حول س، وسمعت بعدها أن شباب الانتفاضة أحرقوا سيارة، وأنه خرج من البلدة.

(تحليق عابر لطيور الذاكرة 9)

أحدث المقالات