18 ديسمبر، 2024 9:14 م

هِجرة العُقول.. ضحايا الصراع والتخلف

هِجرة العُقول.. ضحايا الصراع والتخلف

صِناعة العلماء والمفكرين والفلاسفة، وتأهيل المبدعين والتقنيين والفنيين، ورعاية المتعلمين والدارسين والباحثين، ودعم المراكز الفكرية والبحثية والمختبرات العلمية، أهداف سامية وجليلة تسعى لها الدول الطموحة المُتطلعة للرُقي في سلالم المجد التاريخية، ومساعٍ عظيمة تعمل عليها الدول الطموحة المُتطلعة لتصدر قوائم تصنيفات الدول الرائدة والمتقدمة عالمياً في المجالات الصناعية والتقنية والتكنولوجية. فإن نجحت تلك الأهداف السامية والجليلة، وإن تحققت تلك المساعي العظيمة، فحتماً ستنال تلك الدول مبتغاها، وسوف تحقق أهدافها وغاياتها، لتكون في مكان القيادة بدلاً من التبعية، ولترسم السياسات بدلاً من تلقي الأوامر، ولتصبح في الصدارة بدلاً من تذيل قوائم الإنجازات والإبداعات. وستكون النتيجة مُعاكسة تماماً للدول التي تسير في الاتجاهات المُضادة لتلك الأهداف السَّامية والجليلة والعظيمة ,,,، ولجأت بعض الدول إلى استخدام طرق وأساليب مُختصرة تمكنها من تحقيق تلك الأهداف السَّامية والطموحات العظيمة بأسرع وقت، وأقل جهد، وذلك من خلال طرق متعددة سواءً تمثلت بالاستقطاب المباشر وتقديم العروض المناسبة للموارد البشرية المؤهلة تأهيلاً عالياً واحترافياً في مختلف المجالات العلمية والفكرية والفلسفية والتقنية والتكنولوجية، أو من خلال فتح باب الهجرة للحاصلين على الدرجات العلمية العالية في مختلف المجالات العلمية والفكرية والفلسفية التي تحتاجها المؤسسات والجامعات والكليات والمراكز الفكرية والبحثية. وبهذه الوسائل المختلفة والطرق المتنوعة التي تستخدمها الدول – لاستقطاب العقول المؤهلة تأهيلاً عالياً واحترافياً – تتمكن الدول من اختصار الوقت للارتقاء بمكانتها الدولية وتحقيق درجات متقدمة في التصنيفات العالمية
هجرة العقول – عملية قائمة على مدى القرون الماضية – خاصة مُنذُ قيام الدول بشكلها الحالي بعد مؤتمر ويستفاليا 1648م –، إلا أن هذه العملية تتصاعد لمستويات عالية جداً وترتفع وتيرتها في أوقات الصِراعات الدولية والنزاعات المُسلحة حيث تعمل الدول المُتطلعة للارتقاء بمكانتها الدولية والعالمية على استقطاب وفتح باب الهجرة لذوي العقول المُحترفة من العُلماء والمُفكرين والفلاسفة والباحثين والتقنيين المحترفين والتكنولوجيين المميزين، وتقدم لهم العروض التي تقدر مكانتهم، وتهيئ لهم البيئة التي تناسب مؤهلاتهم، ليتمكنوا من توظيف قدراتهم العلمية والفكرية بالشكل الصحيح، وليساهموا باختراعاتهم النوعية، وإنجازاتهم المميزة، وأبحاثهم الدقيقة، بالارتقاء بمستوى المجتمع الذي قَدَّر عِلمهم، وهيأ لهم بيئة علمية مُنتجة ورصينة، ووفَّر لهم سُبُل الحياة الكريمة بما يتناسب ومكانتهم العلمية والفكرية والفلسفية المميزة, للاسف هجرة العقول” – المؤهلة تأهيلاً علمياً وفكرياً وفلسفياً وتقنياً وتكنولوجياً – تتصاعد لدرجات متقدمة جداً في فترة الصراعات الدولية لتخسر جهودهم ووجودهم الدول الداخلة في صراعات وحروب ونزاعات مع دول أخرى، ولتكسب علمهم وفكرهم ومهاراتهم الدول المتطلعة للمستقبل، والجاهزة علمياً، وفكرياً، ومؤسساتياً، لاستثمار علمهم وفكرهم ومهاراتهم العالية. إنها مُعادلة سياسية أثبت صحتها وواقعها التاريخ البعيد والقريب والحاضر
حذّرخبراء سياسيون واكاديميون ومثقفون، من خطورة استمرار تجاهُـل نزيف العقول والأدمغة العربية المُـهاجرة إلى الغرب، مؤكّـدين أن الدول النامية عموما والعربية منها على وجه الخصوص، هي التي تدفع الثمن، خصمًا من رصيدها الفكري وقدراتها البشرية، وأن المستفيد الأكبر من هذا النزوح الجماعي، هو الدول الغنية والمتقدمة عموما، والغربية منها على وجه الخصوص. مطالبين بوضع “إستراتيجية عربية” للتعامل مع هذه المشكلة الحيوية، وأخذ الأمر مأخذ الجد، واعتبار هذه القضية “قضية أمن قومي عربي”، مطالبًا في الوقت ذاته، بالتعاون العربي، سواء من خلال الجامعة العربية أو مراكز البحوث والجامعات أو مؤسسات الأعمال والقطاع الخاص، مع وضْـع الضوابط اللازمة التي تحُـول دون بقاء أعضاء البِـعثات في الخارج وخضوعهم لإغراءات تقدّم لهم.
قد عانى العراق خاصة بعد الاحتلال, والدول العربية النامية من ذلك النزوح، الذي سلَـبها جزءً كبيراً من رصيدها الفكري وقدراتها البشرية، وبرغم كل المحاولات لتنظيم هجرة العقول ودعوة الطيور المهاجرة إلى العودة، إلا أن جاذبية الغرب لا تزال تُـسيطر على ما يحدُث في هذا المجال‏.‏ فبرغم الاستثمارات الضّـخمة التي توفِّـرها بعض الدول العربية للتعليم الجامعي، إلا أن جزءً كبيراً من عائده يتِـم إهداره من خلال عمليات الهجرة التي تستقطِـب علماءنا وباحثينا، بل ومفكِّـرينا أحياناً‏، حيث تحتفظ العواصم الغربية والمدن الأمريكية الكبرى بكواكب لامِـعة ونجوم ساطعة من أبناء العالم العربي، الذين يرصِّـعون سماء العالم مُـخترقين سُـحب الاغتراب والابتعاد عن الوطن، حتى بلغ بعضهم آفاقاً عالمية بالحصول على جائزة نوبل وما في مستواها من درجات التقدير الدولية
هل يعقل ان يجتث خيرة اساتذة وعلماء الجامعات العراقية ليحل محلهم اللصوص والنصابون ومزوري الشهادات العلمية والمتخلفون من ذوي العاهات الطائفية والعرقية ؟ هل يعقل ان يكون في مناهج التعليم تاريخين وتفسيرين احدهما شيعي والاخر سني ؟ وطبعا هناك منهج كردي ليس له علاقة لا شكلا ولا موضوعا بالمنهجين المذكورين، هل يعقل ان يتربى اطفالنا على الفصل الطائفي، ومنذ الصغر؟ فهنا صورة تشرح للطفل كيفية الوضوء على الطريقة الشيعية ومقابلها صورة للوضوء السني ؟
مثقفو الاحتلال هم من تصدروا المشهد ودافعوا عنه طائفيا وعنصريا، وساهموا في تسهيل مهمة اختراق اللحمة الوطنية، اما مثقفو العراق الحر، العراق المقاوم فهم على ديدنهم صامدين بوجه هجمة التلويث، انهم في مقدمة العازفين عن الانخراط بجوقة المحاصصات الجارية حتى داخل العقل الواحد، انهم البديل الاصيل عن الحضيض المتربع على ربوع العراق.
خمنوا معي كم هو عدد الكفاءات العراقية المهاجرة والمهجرة والمجتثة من بين اكثر من ثلاثة ملايين عراقي غادروا العراق بعد احتلاله، وبعد سيادة الفوضى غير الخلاقة فيه ؟
مجموعة ميرسر العالمية اصدرت تقرير عام 2011 عن المسوح السنوية التي تجريها بخصوص حالة عواصم العالم، وجاء فيه ان بغداد هي اسوء عاصمة في العالم، لثلاث اعوام متتالية، وتحديدا في مجال السلامة الفردية والخدمات!
بغداد من حاضرة العالم وعاصمة للابداع فيه الى اسوء مكان للعيش فيه، هذا ماورد في تقرير محايد لواقع معاش، واقع ليس ملتبس وليس بعفوي وليس بموسمي، لانه مكرر في يوميات ليس بغداد وحدها وانما العراق كله ومنذ احتلاله وحتى الان!
الاحتلال الامريكي يستبقي لحكم العراق خليط لا يتجانس الا في تغييب الوعي بالثقافة الوطنية العراقية وتشويهها على اقل تقدير، بعد ان عمل خلال سنواته العجاف على تفكيك اللاصق الوطني في النسيج الاجتماعي الاقتصادي والاداري، متعمدا تصيير هوية المكونات كواجهة تضاهي اي هوية اخرى، استعدادا للمرحلة “البايدينية ” مرحلة تفليق العراق نهائيا الى ثلاث كيانات ندية ” كيان كردي وشيعي وسني “.
لا نأتي بجديد اذا قلنا ان اغلب عناصر الثقافة العراقية والاكاديمية المبدعة وقواها الحية كانت من اوائل ضحايا حصار العراق والحرب عليه وغزوه واحتلاله، ولا نجافي الواقع اذا قلنا بان النكبة كانت عادلة بمقاسات مآساويتها على كل صنوف وتخصصات الثقافة والابداع والمعرفة العلمية والاكاديمية في العراق، ماديا وبشريا،
نحن نريد قطارا لايتوقف ، وعطاء لاينضب بعيدا عن روح التعالي وحب الظهور, والاستهانةوالتحدي بأنانية مع الأخرين, نمتلك كتابا وفنانين وادباء لانسمع عنهم قعقعة ولاعجين، انكفؤا دون معرفتنا للأسباب، ودون ان نكلف انفسـنا عناء قرع ابوابهم للتحية وبيان الاسباب؟! اليوم ترى المعاول ترفع لتهديم كل من يرتفع ، يحاربون كل مجد أو شريف ونزيه أو مبدع، إنها السلبية التي تطبع سلوك العراقي. فكيف بنا إذن أن نصنع النجوم ونحن نحارب كل مبدع ولامع؟ صناعة النجوم تحتاج إلى بيئة تشجع الإبداع لا أن تهدمه،وتخيل حتى النجوم الذين تصنعهم ظروف حياتهم في الخارج والتشجيع الذي يلقونه هناك تراهم يتعرضون للتجاهل إن لم يكن للمحاصرة والتهديد بمجرد عودتهم إلى العراق ويتعرضون للتحجيم الكامل فتراهم يقفلون عائدين من حيث جاؤوا والى حيث يجدون التقدير الكامل لكفاءاتهم. لقد صدق الدكتور احمد زويل عندما قال/ الغرب ليسوا عباقرة و نحن لسنا أغبياء .. ھم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح ، و نحن نحارب الناجح حتى يفشل !!