خاص: إعداد- سماح عادل
أعلنت مؤخرا نتائج “جائزة سمير قصير لحرية الصحافة” الدورة السابعة عشرة من قبل بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان في ١ حزيران/ يونيو ٢٠٢٢، وذلك بالتعاون مع مؤسسة سمير قصير، وقد أقيم حفل توزيع الجائزة في فندق سان جورج في عين المريسه في بيروت. ونقلت المؤسسة اللبنانية للإرسال إنترناشونال (LBCI) وقائع الاحتفال مباشرةً على الهواء.
قدّم الحفل كل من “وداد جربوع، وجاد شحرور، وإريك حسني”، من فريق عمل مؤسسة سمير قصير، وقد تابعه الآلاف في مختلف أنحاء المنطقة عبر قناة LBCI، أرضياً وفضائياً، وكذلك عبر صفحات الجائزة على وسائل التواصل الاجتماعي.
يذكر أنه شهد هذا العام المزيد من التحديات التي واجهتها حرية الإعلام في المنطقة، وشملت اغتيالات صحافيين ومفكرين، ومهاجمة وسائل إعلامية، واستمراراً في احتجاز وسجن عاملين في القطاع الإعلامي. ومن خلال الجائزة، يجدد الاتحاد الأوروبي التزامه بدعم الصحافة المستقلة والمحترفة كأحد العناصر الرئيسية لبناء مؤسسات رسمية قوية وشفافة وخاضعة للمساءلة. وتكافئ هذه الجائزة صحافيين تميّزوا بفضل جودة عملهم والتزامهم بحقوق الإنسان والديمقراطية.
وشارك في الدورة لهذا العام ٢٦١ صحافياً من الجزائر، والبحرين، ومصر، والعراق، والأردن، ولبنان، وليبيا، والمغرب، وفلسطين، وسوريا، وتونس، واليمن. وتنافس ٩٦ مرشّحاً عن فئة مقال الرأي، و١١٦ عن فئة التحقيق الاستقصائي، و٤٩ عن فئة التقرير الإخباري السمعي البصري. وينال الفائز في كلّ من الفئات الثلاث جائزة قدرها ١٠ آلاف يورو، في حين ينال كل من المرشَّحين الآخرين اللذين وصلا إلى المرحلة النهائية في كل فئة جائزة بقيمة ألف يورو.
والفائزون بالجائزة لهذا العام هم:
– فئة مقال الرأي: “عزت القمحاوي” من مصر، من مواليد عام ١٩٦١. وقد نشر مقاله الذي حمل عنوان “عمارة الريبة: هوس البنايات الكبرى والشوارع الواسعة” في موقع “المنصة” في ١٨ كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢١. وهو يبرز العلاقة بين الهندسة المعمارية والتخطيط العمراني ونوع الأنظمة السياسية.
– فئة التحقيق الاستقصائي: “صفاء خلف” من العراق، باحث وصحافيّ استقصائي من مواليد عام ١٩٨٢. وحمل تحقيقه عنوان “أزمة مياه العراق: تغيّرات المناخ قد تؤدي إلى هجرة ونزاعات أهلية”، ونُشر في موقع “العالم الجديد” في ٢٧ تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠٢١. ويعالج التحقيق الأسباب والتداعيات الإقليمية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والطائفية المرتبطة بأزمة المياه المتفاقمة في العراق.
– فئة التقرير الإخباري السمعي البصري: “إيمان عادل” من مصر، من مواليد عام ١٩٨٦. وقد نشرت تقريرها بعنوان “رانيا رشوان التي خلعت حجابها في قرية الجهاديين” في موقع “درج ميديا” في ١٥ حزيران/ يونيو ٢٠٢١. ورانيا شابة مصرية اختارت التحرُّر من نمط الحياة الذي فرضه عليها مجتمعها الريفي المحافظ، بعد عدة تجارب صعبة جداً، بما في ذلك الاعتداء الجنسي وانتحار شقيقها.
في هذا الإطار، قال “رالف طراف” سفير الاتحاد الأوروبي في لبنان إن “سلامة الصحافيين لم تكن يوماً على هذا القدر من الأهمية، حيث نستمر في رؤيتهم يتعرضون للتهديد والسجن والمضايقة وحتى فقدان حياتهم. لذلك تزداد أهمية وجود قوانين حديثة لوسائل الإعلام تضمن سلامة الصحافيين وتحميهم من الملاحقة السياسية ومحاولات خنق حرية التعبير”. كما لفت إلى أن “الصحافة الموثوقة والمستقلة بالغة الأهمية من أجل الحقيقة والمساءلة والحكم الرشيد. كما تشكِّل حاجزاً ضد انتشار المعلومات المضللة وتدفقها بشكل متزايد”.
وقالت “جيزيل خوري”، رئيسة مؤسسة سمير قصير: “منذ ١٧ عاماً يتقدم صحافيون شباب، رائعون، تكشف مقالاتهم وتحقيقاتهم طاقات هائلة من المهنية والشجاعة والحرية .ثم أسأل نفسي كيف يمكن مع هذه الطاقات أن يكون العالم العربي في هذه الحال؟ ولكني في العمق أعرف الجواب. فدولنا تقتل أولادها تخاف الحرية”. وأضافت: “جدار الخوف هُدِم الجزءُ الأكبر منه، وما تبقى سيهدم لا محال .عقد اجتماعي وسياسي جديد ينتظر كل دول المنطقة مهما طال الزمن”.
تولّت لجنة تحكيم مستقلة مؤلّفة من سبعة اختصاصيين في شؤون الإعلام، وباحثين، ومدافعين عن حقوق الإنسان، من جنسيات عربية وأوروبية، اختيار الفائزين. وضمّت اللجنة هذا العام (لودفيك بليشير (فرنسا)، مسئول الابتكار في مبادرة غوغل للإعلام؛ وناصرة دوتور (الجزائر)، مدافعة عن حقوق الإنسان ومؤسسة جمعية عائلات المفقودين في الجزائر، وإلهام فخرو (البحرين)، الباحثة الزائرة في جامعة أكسيتر، وبافلا هولكوفا (تشيكيا)، مؤسسة المركز التشيكي للصحافة الاستقصائية، وصفاء صالح (مصر)، صحافية استقصائية ومراسلة حرب في تلفزيون “الآن” و فائزة بجائزة سمير قصير لعام ٢٠١٠، ورندى سليم (لبنان)، مديرة برنامج حل النزاعات في معهد الشرق الأوسط وممثلة مؤسسة سمير قصير في لجنة التحكيم؛ وأنطونيو زابولا (إيطاليا)، المدير التنفيذي لمؤسسة طومسون رويترز).
وجرى تقديم “جائزة الطلاب” للسنة الثالثة توالياً، والتي مكّنت ٢١ طالباً من جامعات المغرب، ولبنان، وتونس، والجزائر، واليمن من الحصول على فرصة الاطلاع على الأعمال المتبارية والتفاعل افتراضياً مع المرشّحين الذين وصلوا إلى المرحلة النهائية، والتباحث معهم في مضمون مقالاتهم وتقاريرهم. وبعد النقاش، صوّت الطلاب لعملهم المفضّل، فاختاروا تحقيقاً استقصائياً بعنوان “كشافة المهدي: وقائع تجنيد ميليشيات إيرانية الأطفال في سوريا ولبنان”، الذي نشرته كل من الصحافية السورية رقية العبادي (مواليد ١٩٨٨) والصحافية اللبنانية فاطمة العثمان (مواليد ١٩٨٩) في موقع “درج ميديا” في ٦ أيار/ مايو ٢٠٢١.
وتحظى هذه الجائزة التي أطلقها الاتحاد الأوروبي في عام ٢٠٠٦، وما زال يمولها، بتقدير واسع النطاق عالمياً، كونها جائزة أساسية من جوائز حرية الصحافة، وأعرق الجوائز في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومنطقة الخليج. ويُقام حفل تسليم الجائزة سنوياً في ذكرى اغتيال الصحافي اللبناني “سمير قصير” في ٢ حزيران/يونيو ٢٠٠٥ في بيروت، وتخليداً لحياته وقيمه وذاكرته.
سمير قصير..
ولد “سمير قصير” في 4 أيار عام 1960 من أب لبناني فلسطيني وأم لبنانية سورية. نشأ في محلة الأشرفية في شرقي بيروت ودرس في مدرسة “الليسيه الفرنسي”، قبل أن ينتقل إلى باريس عام 1981، بعد ست سنوات من اندلاع الحرب اللبنانية، ليتابع دراسته الجامعية. حصل عام 1984 على دبلوم دراسات معمّقة في الفلسفة والفلسفة السياسية من “جامعة السوربون” (باريس الأولى) ثم عام 1990 على شهادة دكتوراه في التاريخ المعاصر من “جامعة باريس الرابعة”.
كتب “سمير” خلال إقامته الباريسية مجموعة من المقالات لصحيفتي “الحياة” اللندنية و”اللوريان لوجور” البيروتية. كما كتب لمجلة “لو موند ديبلوماتيك” الفرنسية، والتزم بالمساهمة الدورية في أسبوعية “اليوم السابع” وفي النسخة الفرنسية “لمجلة الدراسات الفلسطينية”.
في 1992، تشارك “سمير قصير” مع صديقه المؤرّخ والناشر السوري “فاروق مردم بك” في كتابة “مسارات من باريس إلى القدس: فرنسا والصراع العربي الإسرائيلي” الذي يرصد في جزأين (بالفرنسية) تاريخ السياسات الفرنسية في المشرق العربي، المتعلقة بالنكبة الفلسطينية وبالصراع العربي الإسرائيلي. وبعد صدور الكتاب بسنة واحدة، عاد “سمير” إلى بيروت ليدرّس في كلية العلوم السياسية في “جامعة القديس يوسف”، ولينضم إلى مؤسسة “النهار”، مديراً لدار نشرها، وكاتباً في يوميتها.
في 1994، نشر “سمير” كتابه الثاني بالفرنسية “الحرب اللبنانية: من الانقسام الأهلي إلى الصراع الإقليمي” المستند إلى أطروحته الجامعية والمحلل ديناميات الحرب وتداخل العناصر الداخلية والخارجية فيها بين العامين 1975 و1982 وقد تمت ترجمته إلى العربية عام 2008.
وفي 1995، أطلق سمير مجلة “لوريان أكسبرس” الفرونكوفونية الشهرية، التي تحوّلت سريعاً إلى أبرز دورية ثقافية لبنانية، وعاشت ثلاث سنوات قبل أن تنطفئ عام 1998 لأسباب مادية. وأسس في نفس المرحلة دار “الليالي”، ناشراً فيها عدداً من الكتب الجامعة مقالات “لوريان إكسبرس”، ثم مجموعة جميلة من ملصقات الحقبة الكولونيالية التي تصوّر مدناً ومنتجعات متوسطية، ومجموعة ثانية من ملصقات الأفلام المصرية التي طبعت سينمائياً فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
صحافياً، شكّلت مقالات “سمير قصير” وافتتاحياته في جريدة “النهار” في نهاية التسعينات ومطلع الألفية الثانية أبرز ما كُتب في مواجهة الهيمنة السورية على لبنان وحكم الرئيس إميل لحود وأجهزته الأمنية. وقد دفع الأمر اللواء جميل السيد، مدير عام الأمن العام يومها والرجل الأول في التركيبة الأمنية، إلى تهديده هاتفياً ثم إرسال سيارات تطارده وصولاً إلى مصادرة جواز سفره في مطار بيروت الدولي في نيسان-أبريل عام 2001 (قبل إعادته إليه عقب حملة استنكارات سياسية وثقافية).
في 2003، نشر “سمير” كتابه الثالث بالفرنسية “تاريخ بيروت” (وصدرت ترجمته العربية عام 2007)، وفيه يروي تاريخ المدينة وعائلاتها وثقافتها واقتصادها وتطوّرها العمراني والمديني والاجتماعي ويوثّق لعلاقتها بسائر المناطق اللبنانية وبالحواضر العربية والمتوسّطية.
وأتبع “سمير” هذا الكتاب الأساسي في مسيرته الفكرية بكتابين بالعربية صدرا عام 2004، “ديمقراطية سوريا واستقلال لبنان” و”عسكر على مين”، وفيهما مجموعة من مقالاته المنشورة في “النهار” والمركّزة على الترابط بين قضية التغيير الديمقراطي في سوريا والاستقلال في لبنان من جهة وعلى التنافر بين قضايا الحرية وقيم الجمهورية وسلطة العسكر من جهة ثانية.
ثم نشر كتاباً جديداً بالفرنسية عنوانه “تأملات في شقاء العرب” (وقد ترجم مؤخراً إلى العربية والانكليزية)، وفيه تحليل مكثّف لأسباب إجهاض النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر، ورفض لمنطق التأريخ التبسيطي الحاكم على العرب بالانحطاط، واعتبار أن شقاءهم الحالي هو نتاج جغرافيتهم أكثر منه نتاج تاريخهم.
شارك سمير قصير ابتداء من العام 2003 في تأسيس “حركة اليسار الديمقراطي”، وانتُخب في مؤتمرها التأسيسي في تشرين الأول-أكتوبر 2004 عضواً في المكتب التنفيذي. وساهمت كتاباته في توجيه أدبيات الحركة السياسية ومواقفها لجهة الدعوة إلى استقلال لبنان عن هيمنة البعث السوري، والى التغيير السلمي والعلمنة والعدالة الاجتماعية وبناء دولة الحق والقانون.
وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط- فبراير عام 2005، شارك سمير بفاعلية في إطلاق الانتفاضة الشعبية في وجه الهيمنة المخابراتية السورية على لبنان، وكان له الفضل الأبرز في تسميتها ب”انتفاضة الاستقلال” تأكيداً على طابعها الوطني الاستقلالي، وربطاً لها بالانتفاضة الفلسطينية في وجه الاحتلال الإسرائيلي عام 1987. وصارت مقالاته في “النهار” صوت الانتفاضة الأعلى والأنقى، وزاد عليها حضوره الدائم في ساحة الشهداء في بيروت يناقش مع السياسيين والإعلاميين والطلاب المتظاهرين أفكاراً واقتراحات لتطوير الأداء والانتصار في معركة استعادة السيادة والحرية.
ولعل “قصير” كان أول من تنبّه إلى أن بقاء الانتفاضة من دون برنامج سياسي (لحقبة ما بعد الانسحاب السوري) يصلح النظام اللبناني ويعدّل التوجّهات الاقتصادية ويطرح مسألة تخطّي الطائفية ويؤمّن المصالحة الوطنية الحقيقية، سيعرّضها سريعاً للانتكاس. كما أنه كان أوّل من دعا الى انتفاضة داخل تلك الانتفاضة تعيد إلى الشارع وهجه والى السياسة معناها النبيل والى المواقف وضوحها واستقامتها.
وفي الوقت نفسه، تمسّك سمير برفض جميع مظاهر العنصرية المتسرّبة إلى اللبنانيين تجاه السوريين عموماً، وطالبهم أكثر من مرة في مقالات ومن على منبر ساحة الشهداء بالتمييز الدائم بين النظام السوري ومخابراته القابضة على سوريا ولبنان، وبين الشعب السوري بعماله ومثقفيه.
في الثاني من حزيران/ يونيو 2005، اغتيل “سمير قصير”، بعبوة وضعت تحت سيارته في بيروت، وبذلك توجت حياة صحافي حر وكاتب لامع، بموت تراجيدي جاء في سياق محاولة كم أفواه أحرار لبنان وترهيبهم، من أجل ضرب انتفاضة الاستقلال وخنق رياح الحرية التي صنعتها بيروت. صار “سمير قصير”، مؤرخ بيروت، جزء من تاريخ المدينة، اذ لم يكتف بكتابة التاريخ، بل صنعه، مقدماً نموذجاً فريداً للمثقف الذي يصنع للحرية لغتها وللمستقبل حلمه.