التكتيك هو اتخاذ القرار السياسي او الاقتصادي في لحظة ما وبشكل جزئي ومرحلي وتدريجي، أما الاستراتيجية فهي الأهداف البعيدة وكيفية تحقيقها بوسائل تدريجية وتفصيلية. من هنا إذا أردنا أن نصور العقل السياسي الكردي المعاصر وفي العراق تحديدا، فعلينا أن نلم بالتاريخ المعاصر للأكراد من خلال أبرز القيادات والزعامات الكردية وهم (الشيخ محمود الحفيد والملا مصطفى البارزاني) لاسيما يمثل الراحل البارزاني الأب الروحي للزعامة الكردية الثورية. أما حزب العمال الكردستاني ((PKK فهو لا يختلف كثيرا عن أيديولوجيا الدولة القومية، لكن المشكلة الأساسية المتعلقة بتكوين هذا الحزب تكمن في تأثره بأطروحات الزعيم السوفيتي الراحل جوزيف ستالين، والنموذج الاشتراكي الذي طرحه ستالين وصادق عليه لينين في بناء الدولة، وقد غدا هذا النموذج (الاشتراكي) مبدأ مقدسا ومُسلما به من قبل كل الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، تلك الأحزاب التي وقعت في الغموض الأيديولوجي، وعلى رأسهم حزب العمال الكردستاني الذي قام بإضفاء طابع أكثر راديكالية على نفس المبدأ.
وبالرغم من أحداث التاريخ لا تُحدد أو تُخلق بتصرفات وتحركات الزعيم، وكما ذكر الفيلسوف الأمريكي ((Sidney Hook في كتابه (البطل في التاريخ) يقول هوك” أن العظماء لا يصنعون التاريخ، وإنما تظهرهم الأزمات) لكن الأمر هنا يختلف في حالة الزعامة الكردية، حيث تعتبر العمليات المسلحة التي قام بها الشيخ محمود الحفيد في لواء السليمانية عام 1919عشية قيام الدولة العراقية أوائل العشرينيات من القرن الماضي والتي استمرت حتى عام 1931، وتاريخ الزعيم الملا مصطفى البارزاني في قيادة الحركة الثورية الكردية للمطالبة بالحقوق القومية للأكراد محطات مهمة في تاريخ العمل السياسي والعسكري الكردي المعاصر. من هنا فقد شهد المجتمع الكردي في العراق خلال تلك الفترة تحولات اجتماعية كبيرة كان لها أعظم الأثر على تطوره السياسي بعد ذلك. بمعنى كانت ومازالت انعكاسات تلك الفترة على واقع العمل السياسي الكردي في الوقت الحاضر كواقع عملي، على أن نضع في الاعتبار حقيقة اتصال الفكر السياسي الكردي على مر السنين أتصالا لا يفقده صلته بالحاضر، وعليه يبقى العقل السياسي الكردي عقل ملهم ومستنير حمل ومضة الماضي إلى الحاضر. وبموجب هذا المدخل يؤكد المشهد السياسي العراقي منذ عام 2003 إلى يومنا الدور الكبير والمؤثر للزعيم الكردي في ناتج العملية السياسية مقارنة بالقوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأخرى في المجتمع. وتأسيسا لما تقدم، فإن الزعامة الكردية لم تظهرها الأزمات كما يقول هوك، بل أن تاريخ الأكراد في العراق حُدد وخلق بتصرفات زعمائهم، أي أن الزعامة الكردية هي من صنعت تاريخ الأكراد مع باقي الشعب الكردي، واليوم تصنع تاريخ جديد ومستقبل للعراق برمته.
أزمة الأكراد ومآلاتها على الدولة الوطنية في عهد الاستقلال:
يمثل صراع الأكراد في العراق من أجل حقوقهم نوعا من الحروب الأهلية، بل هي أطول وأشرس الحروب الأهلية التي شهدتها المنطقة العربية، بيد أن هذا الصراع ليس بعيدا عن التناقضات الدولية، مثل، الحرب الباردة والتسابق بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق، ثم الصراع الإقليمي بين تركيا وإيران. مع العرض أن القوى الدولية والإقليمية حاولت استغلال القضية الكردية وتوظيفها في صراعاتهم، حيث خسر الأكراد آلاف الضحايا دون تحقيق مكاسب سياسية سوى قانون الحكم الذاتي.
الزعامة في الإطار الكردي:
أقام الكرد في عام 1945، أول جمهورية كردية في منطقة مهاباد في إيران، وخدم الملا البارزاني كرئيس لأركان الجيش في جمهورية مهاباد والتي لم تدم طويلا، فبعد 11 شهرا من نشوئها تم وأدها من قبل الحكومة الإيرانية. ويمكن رصد شيوع الفكرة القومية في المجتمع الكردي من خلال الإغراق الاجتماعي بصورة كبيرة في قضية الظلم والاضطهاد التي تعرض لها الشعب الكردي منذ تأسيس الدولة العراقية. من هنا فإن فكرة الانفصال هذه هي ردة فعل على إخفاق كل الحكومات العراقية في تحقيق مطالب الشعب الكردي، الأمر الذي دفع الأكراد إلى البحث عن مخرج لهذا المأزق فوجوده في القيادة البارزانية، تلك القيادة التي اقنعت الشعب الكردي بوصوله للنهاية المحتومة بسلام، إضافة إلى أن القيادة البارزانية أوجدت عالما جديدا من المعاني يمتلك فيه المواطن الكردي استقلاليته الحقيقية لا مجرد مفاهيم قومية. وعندما أصبح السيد مسعود البارزاني على قمة الهرم في القيادة الكردية، هنا استمد السيد البارزاني حتميته التاريخية من كونه المخرج أو المنقذ الوحيد الشعب الكردي، حيث شكل الخطاب السياسي الكردي محورا مهما في المشهد السياسي العراقي، وبعد أن تعرضت أغلب القيادات الكردية لعدة اتهامات بالإعلام وفي الفضائيات من قبل شركائهم في العملية السياسية الذين كانوا حلفائهم بالأمس، وبعد أن تم توجيه عدة اتهامات للسيد مسعود البارزاني شخصيا، اتهامات ما أنزل الله بها من سلطان، بالتالي حضرت فكرة الانفصال كفكرة لا تنفصل عن مجمل التنافس والتجاذب السياسي في العراق. سيما أن الصراع والاختلاف مع الأكراد ومع السيد البارزاني شخصيا تجاوز في حقيقته الجوانب العقائدية ليصل إلى صراع النفوذ والقوة في العراق وفي داخل البيت السياسي الكردي نفسه.
الاستراتيجية وفن التفاوض في العقل السياسي الكردي المعاصر:
اتجه كثير من الباحثين والأكاديميين إلى محاولة وضع توصيف محدد لعملية التفاوض وأدواتها وهي (الحجة أو الاقناع، الوعود، التهديد أو القوة) وربما قد مارس الرعيل الأول للقيادة الكردية وسيلة التهديد والقوة في العمل السياسي حيث كانت تهدف من ورائها إلى تحقيق أهداف ومصالح الأكراد، وهذا أمر مشروع في السياسة والاقتصاد مثل باقي الحركات التحررية وعناوين المعارضة الأخرى سواء اتفقنا أو اختلفنا. أما اليوم فإن استراتيجية الزعامة الكردية تعتمد بصفة رئيسية على اتجاهين من الحركات والتكتيكات السياسية وهما (الاتجاه الصريح، الاتجاه الضمني) وهو ما يعكس قوة ونجاعة عملية التفاوض أو فن التفاوض لدى صانع القرار السياسي الكردي، وأن تكون رسائلهم المرسلة للأطراف المشاركة واضحة ولا لبس فيها. وعليه يجب استجلاء الصورة الحقيقية للحتمية التاريخية، وكيف استمد صانع القرار السياسي الكردي حتميته من كونه المخرج أو المنفذ الوحيد لمعالجة القضية التفاوضية والوصول إلى حل فيما يخص القضية الكردية من جهة، ووضع حد لسوء التفاهم وتجنب المجتمع العراقي ويلات التصادم والصراع، اعتمادا على ما يمكن أن يكون بينهما من أرضية مشتركة ونقاط التقاء بين جميع القوى السياسية، لكن مع طبيعة الموقف التفاوضي ومع اختلاف الأطراف التي يتم التفاوض معها وتغير مواقعها في السلطة أو في هيكل اتخاذ القرارات. من هذا المنطلق فإن الاستراتيجية التفاوضية للقيادة الكردية وتكتيكاتها تتمثل في، فن التفاوض، ومرحلة الأدب، بمعنى أدب التفاوض، والمرحلة الثالثة مرحلة العلم، ويقصد بها علم التفاوض. بيد أن كل هذه المراحل لا يختفي بوجود الأخرى.
الفضاء السياسي في إقليم كردستان بعد عام 2003:
بلا شك يمثل كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) والاتحاد الوطني الكردستاني (اليكتي) أهم التيارات السياسية التي وجدت على الساحة السياسية الكردية بشكل متزامن، وكان لهما تعارضات فيما بينهما ومازالت وهو أمر طبيعي. لكن الملاحظ أن الحزب البارتي سجل ومازال يسجل تفوقه على منافسيه وأصبح خطابه هو السائد في الفضاء الاجتماعي والسياسي لإقليم كردستان. وهو الخطاب الذي انطلق وتشكل في فضاء سياسي ديمقراطي حر لكل أطياف واتجاهات الشعب العراقي حتى مع التيارات السياسية التي كانت على عداء معه في زمن ما. الأمر الذي ترك تأثيرا عميقا في بناء سلطة الإقليم، مما جعل إقليم كردستان يأتي بصورة مغايرة كليا لما ساد على مدى السنوات الماضية.
الدولة الكردية: محاور الفكر والأيديولوجيا:
يرى الفيلسوف التجريبي والمفكر السياسي الإنكليزي (جون لوك) ” إن المستقبل للحكم الذاتي الذي ينمو ويتطور متسقا مع أهواء الجماهير ومصالح الأكثرية”.
ولعل النهضة التي شهدها إقليم كردستان في كافة الجوانب الحياتية هي نتاج تطور الفكر السياسي الكردي بكافة تياراته وأحزابه، الأمر الذي أنشأ طبقة برجوازية، وأعني بالبرجوازية هي الطبقة المسؤولة على وسائل الانتاج وكيف طورت هذه الوسائل، بدورها البرجوازية ولدت ليبرالية كردية حرة. ومن ثم يمكننا أن نتحدث عن كل هذه الاتجاهات كقوة متجانسة وضعت بصماتها في كل مكان في الإقليم على حد سواء. وإذا كان الفكر السياسي الكردي المعاصر قد ارتبط اليوم بتكوين العقل الحزبي للقيادة الكردية من الصف الثاني والثالث، بمعنى أن تكوين هذا العقل قد أنبتت بذرته التربة السياسية في الإقليم، بما كانت ومازالت لها من قدرة على النهوض، في الوقت الذي تراجعت فيه الدولة وفقد الفكر السياسي العراقي حيويته. فإننا يجب أن نسلم بأن تطور الفكر السياسي الكردي سينعكس إيجابيا على الواقع السياسي للدولة بصورة عامة.
وتأسيسا لما تقدم، فإن قيام الدولة الكردية بما أحاط بها من ظروف المخاض العسيرة، يعتبر إيذانا بمولد نظرية سياسية ناجحة بكل المقاييس، دولة تستند إلى فكر سياسي واضح، دولة يدعم قيامها ثمرة التطور الاجتماعي والاقتصادي، وحرية الفكر وحرية الرأي والتعبير، دولة شهدت معدلات غير مسبوقة في التنمية والبناء العمراني. في هذه الحالة إذا ما نجح الأكراد في تأسيس الدولة القومية الكردية، فإننا نستطيع أن نعلل نضوب الفكر السياسي في باقي المحافظات والمدن العراقية التي ظلت حبيسة الفكر الطائفي والمذهبي، والتي حال نظامها الاجتماعي والسياسي دون قيام فكر سياسي.