قضيت في العراق مؤخراً اسبوعين وعدت عليلاً جداً .. ذهبت لكي اتابع معاملة احالتي على التقاعد التي دخلت الان عامها السابع.. نعم هاهو العام السابع يبدأ منذ ان روجتُ المعاملة اول مرة بعد خدمة في قطاع التربية بكل اخلاص وتفانٍ يشهد بها ولها وعليها الجميع دامت مايناهز الربع قرن راحت هباءً اثر قانون صاغه المجرم سيء الصيت بريمر ومن جاؤا على ظهور الدبابات الامريكية ، قرار مجحف ساوى بين البريء والمجرم وحرم العوائل و الاولاد من حق ملزم بالشرع والقانون والمنطق ولكن …
المهم : استغليت فرصة وجودي في العراق ، الجميل رغم كل الالم الذي ينغز جسده ، العراق وهو يتحامل على جراحه .. ذهبت الى وزارة الثقافة واستلمت بفرح غامر منحة الحكومة للمبدعين وقدرها ستمائة الف دينار فقط لا غيرها. .. وكنت قد وزعتها قبل ان استلمها على الفقراء والمحتاجين ، وما أكثرهم في عراق اليوم .. وهذا هو المبلغ الوحيد الذي اتسلمه من الدولة العراقية بعد التحرير !! وكنت مصمماً على ان اضع جميع المعجونيات الاربع والعشرين في إطارات وبراويز من الم وحسرة لتذكرني بخيبة املي ، ولكن ايادي المحرومين والفقراء كانت اسرع منالاً من تصميمي ..
وانا استلم المنحة من انسان طيب في الوزارة مازحته قائلاً : هل تعلم ان شقيقتي حاولت دون جدوى وبمراجعات يومية ولأسابيع عديدةاستلام المنحة بوكالة عامة مطلقة مني صادرة من دائرة قنصلية تابعة لدولة العراق ومصدقة من وزارة الخارجية المعظمة ، ولكن لم يسلمهااحد ( المكرمة ) مشترطين طبقاً للتعليمات جلب صحة لشهادة الحياة والوكالة المطلقة من وزارة الخارجية، وهو ما استدعى ارسال الوكالة الىالخارجية للحصول على صحة صدور ، وذهبت شقيقتي للخارجية ولكن … لم تصل صحة الصدور حتى هذه اللحظة !!!! علماً ان المسافة بينالوزارتين لا تتعدىٰ الكيلومترين ، وان هناك اختراع عالمي يعمل منذ حوالي الاربعة عقود اسمه الانترنت وهو ينجز معاملات العالم في ثوانٍ معدودات ولا اعرف حقيقة هل انه موجود في العراق ام لا !!!!! اطرق الموظف الذي سلمني المنحة وسها ثم قال :
يا استاذ ، انت في العراق !.
المهم تجولت في بغداد قليلاً ورايت ولمست الفوضى العارمة في كل شيء والحمد لله دون استثناء : القانون الغائب والشوارع المختنقة بالعجلات والتذمر البادي على جميع الوجوه ، ومن زحف الكونكريت المدمر الى كثرة المولات ، الى الحفر والمطبات الى العواصف الترابية .. اختفت الارصفة واحتلها الباعة الجائلون واصحاب المحلات ، وملأ الشوارع دبابٌ اصفر صغير قادم من اعماق التخلف السحيقة يسمىالتكتك : يسير حيث يشاء ، يزعق حيث يستطيع ، يلوث الهواء حد الموت ، يزاحم السيارات والبشر بعناد ، لا احد يوقفه ، ولا احد يمنع اذاه والعذر جاهز : انه باب رزق ، والعاطلون كثر ويزيدون كل يوم بالالاف وهو سريع ورخيص وامين !
رايت الناس تفقد اعصابها لاتفه الاسباب وتتنرفز بمجرد نظرة او كلمة ، في مقبرة وادي السلام وامام ضريح سيد الوصيين وامام العدل والتقوى كنت شاهداً على معركة حقيقة بالايدي والألسنة والاسلحة البيضاء بين عائلتين تستقلان سيارتي اجرة بسبب ضيق شوارع المقبرة ،كانت العائلتان عائدتين من مراسيم دفن .. وتطايرت العگل والحجابات واشتبكت الايادي ونُفشت الشعور .. كل ذلك لان احداً لم يفسح الطريق للثاني .. فقط ..
قرب المرقد الشريف للامام الجليل ، وبعد ليلة سيئة في فندق قذر للغاية لم استطع فيها النوم ، ذرفت الدموع بصمت وانا ارى انسداد مجاري المياه الثقيلة والرائحة التي تزكم الانوف ورايت اصحاب المحال وهم يعالجون الموقف بادوات بدائية وايقنت عندها لماذا يعاقبنا الله بهذه الطريقة وسالت نفسي : اين تذهب مليارت الامام عليه السلام واين الدولة واين البلدية واين العدل يا امام العدل ؟.. اليس الحري والجدير ان تكون مدينة امير المؤمنين منارة للحضارة والجمال والرقي والعمران والأخلاق والصدق والدعة ؟.
كنت في العراق ورايت الجميع يقول : شعليه .
كنت في العراق وسمعت الاغلب الاعم يقول : ياروحي .
كنت في العراق ورايت الفوضى تضرب اطنابها .
كنت في العراق ورايت الوجوه متعبة بائسة يائسة تعيش الحاضر بالم دفين وتنظر الى المستقبل بتشاؤم .. مداخل المدن وشوارع البلد مطبات وتراب ومصارع وحلبات قتال .. لا نظام ولا قانون ولا عدل ولا حتى عرف وعادات .. تكثر المولات فيزداد الفقراء ، تزدحم الشوارع بالسيارات فتتعطل ارزاق العباد .. يحتشد الموظفون في دوائر الدولة فتزداد الدهاليز السوداء ويصبح اليوم في سنة وتتسيد الرشوة ..
عدت عليلاً كسيراً من وضع العراق واهله واحسست انه لا فائدة ترجى ولا امل يلوح بالافق ، تألمت جداً ، واحسست بجرح العراق الغائر ينفذالى احشائي .. ولا يحس بالم العراق الا من احبه بصدق وعمق ، ذرفت دموعاً غزيرة لاجل العراق وشعب العراق ، فانهما والله لا يستأهلانالا … الخير ..