خاص: حاورتها- سماح عادل
“نبيهة العيسي” كاتبة تونسية من مواليد مدينة نابل التونسية، متحصلة على الأستاذية من كلية الآداب بسوسة، أستاذة أولى فوق الرتبة في اللغة العربية، عضوة في اتحاد الكتاب التونسيين، صدر لها مجموعتين قصصيتين وروايتين، ورواية “مرايا الغياب” حصلت على جائزة الكومار الذهبي 2016 للرواية التونسية.
إلى الحوار:
** متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطوّر؟
– بدأ شغفي بالكتابة في سنّ المراهقة عندما بدأت أتلمّس بعض النّضج في نفسي بفضل تراكم مطالعاتي. وأنا إذ أستعيد تلك الفترة أتذكّر أنّي كتبت قصّة في سنة البكالوريا وقدّمتها لأستاذ العربيّة آنذاك فأعادها إليّ ولم يكلّف نفسه عناء تصفّحها، ولمّا سألته عن السبب ردّ بصرامة بأنّه عليّ الاهتمام بدراستي. ذلك الردّ كان بالنسبة إليّ صفعة عطّلت رغبتي في إشراك الآخرين فيما أكتب، غير أنّه لم يعطّل رغبتي في الكتابة التي بقيت عبارة عن خواطر ويوميات.
ومضى زمن تخصصت أثناءه في شعبة الآداب ومارست التدريس، ثمّ شاءت الصدف أن أنظمّ إلى ناد أدبيّ. ووجدت في ال”د. محمد البدوي” القائم عليه أذنا صاغية وتشجيعا حفّزني على الكتابة والإنتاج، في تلك الآونة خرجت إلى النور أولى محاولاتي القصصيّة ونالت جوائز محليّة في مسابقات مختلفة.
** حصلت على جائزة الكومار الذّهبي 2016 للرواية التونسيّة. ماذا تحقق لك الجوائز وهل تدعمك في طريق الكتابة؟
– المبدع طفل وأولى الجوائز التي يحصدها هي متعة اللّعب، ثمّ تأتي متعة إقبال القارئ على نصّه ومشاركته فيه. أمّا الجائزة الثالثة فنقديّة تأتي عبر تقييم عمله في لجنة قراءة، في تلك الجائزة اعتراف بقيمة نصّه وتعزيز لثقته فيما يبدع. والجائزة من ناحية ثانية تجعل القرّاء يقبلون على النصّ المتوّج.
وقد اعتبرت الجائزة دفعة من القدر واعترافا من أساتذة أحترمهم وأحترم جرأتهم لأنّي منحت تلك الجائزة، وأنا غير معروفة بعد في الساحة الأدبية، فتلك كانت تجربتي الأولى في الرّواية. غير أن مسألة التقييم تبقى نسبية ومعقّدة خاصّة إذا كانت خاضعة لسلطة العلاقات والإخوانيات.
** في رواية “أحلام متقاطعة” كتبت قصّة حبّ بعد حدوثها بثلاثين عاما تحكيها البطلة. ورغم ذلك كان صوت البطل حاضرا وموجودا بالتناوب مع صوت البطلة. لكنّك لم تبرّري وجوده بيوميات أو مذكرات مكتشفة، حتّى أنه حكى أثناء احتضاره وبعده. هل يمكن القول إنّه الرّاوي العليم الذي استنطق البطل وتخيّل مشاعره وأحاسيسه وأفكاره؟
– في الرّواية تسلّل البطل إلى الصّفحات الالكترونيّة التي تدوّن فيها “زهرة” سيرتها الذّاتيّة ليشاركها كتابة الحكاية، تسلّل من العالم الآخر روحا قلقة لم تجد السّلام ليحدّث باعتباره المجني عليه عن رؤيته الخاصّة للحكاية، وهكذا كتب القصّة وإيّاها ولم يترك أثرا يدلّ عليه لأنّه طيف – شبح. وحده القارئ كان مطّلعا على حضوره. وزهرة نفسها كانت تجهل ذلك. إنّه راو شخصيّة له من الحضور والفعل ما ل”زهرة” تماما. وإن كانت مبرّرات ذاك الحضور تتجاوز المنطق العقليّ.
** في رواية “أحلام متقاطعة” كان في تجاور صوت البطل مع صوت البطلة إثراء للحكي إذ نقلت وجهتي النّظر تجاه علاقة الحبّ العاصفة تلك وقدّمت مبرّرات وأفكار ومشاعر الطرفين تجاه علاقة حبّ شائكة. كما كانت تبريرات “جمال” لما فعله بها منطقيّة، وتظهره في موقف الضّحيّة. كان البطل والبطلة ضحايا للمجتمع وظروفه. حدّثينا عن ذلك؟
– في النصّ تقاطع صوتا “زهرة وجمال” ليقولا الحكاية من زاويتين مختلفتين وفي ذلك فتح لباب التأويل. فالحدث وإن كان واحدا فإنّ قراءته ستتعدّد بتعدّد النّاقلين له، والقصة موضوع الخلاف في النص قصة حب. والحبّ من الموضوعات الشائكة المسكوت عنها لأنّها في أغلب الأحيان عبارة عن مشاعر لا تحتمل تبريرا ولا تفسيرا. ولأنّ الناس في الحبّ ينظرون إلى الغد ولا يلتفتون خلفهم. غير أنّ الماضي سرعان ما يلاحقهم. وماضي “جمال وزهرة” مثقل بهموم ذاتية واجتماعيّة وسياسية. ف”زهرة” ملاحقة بماضي والدها السجين السياسي. و”جمال” يلاحقه الشعور بالذنب تجاه عائلة ساعدته ما استطاعت ولم يقدّم لها في المقابل شيئا.
وهكذا تظهر على سطح النصّ أسئلة عديدة من بينها:
– ما الحبّ؟ وهل نختار حقّا من نحب؟
– ما الحدّ الفاصل بين الحبّ والرغبة في التملّك؟
– وهل بإمكان الحبّ أن يحيا في مجتمعات عربيّة تتالت عليها الأزمات؟
** ما تقييمك لحال الثقافة في تونس وهل اختلف بعد ثورة الياسمين؟
– التقييم يأتي من الخارج ليتخذ مصداقيّته. وأنا جزء من هذا المشهد الثقافي أفعل فيه وأنفعل به. ورغم ذلك فلي في المسألة رأي، مفاده أن الثقافة عموما كانت ومازالت بالنسبة إلى أولي الأمر قطاعا غير منتج بشكل مباشر. وهو إلى ذلك قطاع مربك يسعى إلى خلخلة المسلّمات التي تريد السّلطات على اختلافها إرساءها.
هو باختصار قطاع معارض يتطلّب روحا ديمقراطيّة لكي يجد محلّه من الإعراب. لذا أتصوّر أنّ القطاع الثقافي لن يتقدّم إلا بما يقدّمه له المثقّفون والمبدعون وهؤلاء وجدوا قبل الثورة وبعدها. حرّية الإبداع لا تحتاج ثورة لكي تعلن عن وجودها. بل إنّ الحريّة الحقيقيّة هي التي تتألّق في الأسر والقيد.
** هل واجهتك صعوبات في النشر. وما رأيك في النّشر الذي يتخذ طابعا تجاريّا؟
– واجهت في بداياتي صعوبات في النّشر بسبب رفض بعض الناشرين تبني نصّ صاحبه غير معروف في السّاحة الأدبية أو سوء إخراج الكتاب أو عسر توزيعه. و المسألة في نظري لا تعود إلى الصبغة التجارية للنشر، بقدر ما تتصل بمسألة الحرفيّة في العمل ومدى التزام الطرفين بالعقد المتفق عليه. النشر بالأساس تعاقد حول منتوج معيّن هو في وضعيّة الحال كتاب. فإذا التزم الطرفان بما في العقد تحقّقت الغاية ونجح المسعى. أمّا إذا انزاح النّاشر عمّا هو منوط بعهدته لاعتبارات ذاتية(ظروف .. رغبات..) فإنه سيقع الإخلال بالعقد.
** هل توجد اختلافات بين كتابات النساء وكتابات الرجال في رأيك؟
– أعتقد أنّ الكتابات النسائيّة تختلف عن الكتابات الرجاليّة. والاختلاف لا يعني تمييزا جندريّا أو خلافا. هو ببساطة تنوّع تبرّره هويّة الكاتب وذاكرته. وفي هذا لا يشبه الرجل المرأة. لذا فمن الطبيعيّ أن ما ينتج عنهما سيكون مختلفا.
ولسنوات خلت كانت الكتابات النسائيّة في عالمنا العربي شحيحة. وكانت المرأة موضوعا تصويريّا بالنسبة إلى الكاتب الرّجل ينطقها من منظوره ويحرّكها بلغته وذاكرته. ثمّ كثرت الكتابات النسائيّة التي تتحدّث عن المرأة بقلم المرأة ولم تعد المرأة بحاجة إلى عين غريبة لتصوّرها. أصبحت تكتب جسد النصّ بجسدها وحواسّها. وتصوّر منطوقه بذاكرتها. وهذا في نظري أكثر مصداقيّة والأقدر على تحريرها.
** هل تسعين في نصوصك إلى مناصرة قضيّة المرأة أو رصد مشاكلها والتمييز الذي يقع عليها خاصّة أنّ روايتك الأولى تناولت موضوعا شائكا؟
– تهمّني قضيّة المرأة وأعتبر أنّه في حياة النّساء حكايات كثيرة لم تسرد بعد، وخاصّة تلك التي تتصل بالعنف المسلّط عليها من قبل الرّجل أو من قبل المرأة نفسها. يهمّني أن أستقريء أشكال العنف خاصّة وأنّها أصبحت اليوم غير مرئيّة ولا تكشفها بالضرورة كدمات زرقاء أو جسد مجروح. اتخذ العنف اليوم صورا ليّنة حاولت المرأة التطبيع معها في محاولة للفرار إلى الأمام لكن نتائجها كانت وخيمة. هكذا حصدت آمنة الشرقي في “مرايا الغياب” نتائج التطبيع مع العنف. وهكذا تبعثرت خطوات زهرة في “أحلام متقاطعة “بسبب سعيها إلى التأقلم والاكتفاء بردود أفعال سالبة للحرية كالكراهية التي جمّدت أفعالها وعطلت ذاتها.
** ماذا تمثّل لك القصّة القصيرة وماذا تمثل الرّواية؟ وما حجم الاختلاف بينهما في نظرك؟
– كلاهما في نظري جنس إبداعي وسبيل إلى قول إشكاليات الوجود التي قد يأتي عليها النسيان أو التجاهل إن لم نتحدّث فيها. غير أنّ الدّوافع لكتابة القصّة تختلف عن دوافعنا لكتابة الرّواية.
القصّة تشبه صورة يلتقطها فنّان فوتوغرافي. صورة واحدة تلتقط من زاوية مخصوصة وتختزل وجودا لما فيها من كثافة واكتناز. وفي القصّة صرخة وتمرّد وانقلاب. هي الحياة في شموليّتها وتوهّجها. أمّا الرّواية فمجال آخر للإبداع. إنّها العالم يضجّ بالأصوات والرّؤى. تتعدد فيها الأحداث وتتنوع زوايا النظر، تنوّع يفتح الباب لحواريّة تجسّد العالم الرّاهن في مختلف أبعاده الاجتماعيّة والسياسية والثقافية.
وفي كلا الجنسين أعيد منبه الوقت إلى لحظة إشكالية ثمّ أعود للتلاعب بالوقت لتفكيك تلك اللحظة. وتبقى مسألة الخيال في الجنسين مسافة أمان، أرضا محايدة تمكن القارئ من التأمّل في واقعه والتفكير في تغييره.