18 ديسمبر، 2024 4:54 م

تحليق عابر لطيور الذاكرة 3-نص بوتاجي…يوريكا يوريكا

تحليق عابر لطيور الذاكرة 3-نص بوتاجي…يوريكا يوريكا

كعادتها، طيور الذاكرة تحلق على هواها، تأتي مع صورة من هنا أو كلمة عابرة من هناك، أو من قصاصة ملقاة على سطح المكتب، تنقر على نافذة الذاكرة، تقدح شرارة وتمضي تاركة خلفها سلسلة من المصابيح الصغيرة تضيء بالتسلسل على طريق متعرج متشعب.

بالصدفة الفيسبوكية بدأت بمشاهدة الفيلم الوثائقي “فلسطين 1920: الوجه الآخر للقصة الفلسطينية” من إخراج أشرف مشهراوي والذي يحمل إشارة قناة الجزيرة. اندمجت في متابعة سرد التاريخ من صوت راوية تتحدث الإنجليزية وأصوات أشخاص يتحدثون عن التاريخ باللغة العربية مع ترجمة مكتوبة، منهم ابن حيفا الباحث الدكتور جوني منصور، ولاجئ يافوي في التسعينات من عمره يروي ذكرياته عن يافا، اندمجت في الصور التي تقول كنا هنا قبل الكذبة/ الفرية/ الجريمة التي ولّدت جرائم ما زالت تتفاعل وتفعل فعلها بالشعب المبتلى بتلك الفرية، فرية “أرض بلا شعب”، لكن كل التفاصيل في الفيلم تقول: كنا هنا نصنع حضارة، وها نحن باقون هنا منزرعون، وسنبقى هنا. وفجأة حلّق طائر صغير اسمه “بوتاجي” من شاشة الحاسوب ونقر نافذة الذاكرة.

حاولت مراراً البحث عن هذا الاسم، الاسم الذي كان لافتة كبيرة ملفتة للنظر على واجهة عمارة عارف السعيد في الشارع الرئيسي للقرية، ظل الاسم عالقاً في ذهني، لم تكن حوانيت القرية أو أي من محالها الأخرى تحمل يافطة، فكلنا كباراً وصغاراً كنا نعرفها دون حاجة ليافطات، فهذه دكانة أبو حسن، وهذه دكانة أبو عمر، وتلك قهوة صبري، وتلك ملحمة شكري، وهذا مطعم اليافاوي، وهذا صالون أولاد ياسين. فلماذا كانت هذه اليافطة؟ وما معنى بوتاجي؟ ربما أبقيت السؤال في نفسي، أو سألت أحد الكبار فلم يسعفني بجواب، وكنت محظوظاً إن كان نصيبي رجل يرد باعتذار لطيف، كذلك العم المبتسم دائماً الذي يحمل أوراق الروزنامة ليقرأ الحكم والأمثال والطرائف على وجهها الآخر بعد نزعها من مكانها حين يصبح اليوم أمساً، وقد يكون نصيبي زجراً على إزعاجي لمن توجهت إليه بسؤال اعتبره لا طائل تحته أو فوقه من طفل كثير الغلبة، وهؤلاء كانوا كثراً للأسف. الحقيقة أنني لا أذكر تماماً، ولكنني أذكر أن السؤال بقي “يحوس” داخلي دون إجابة. وكبر السؤال معي، وبقيت معه صورة اليافطة تأخذ مكاناً لا تغادره في قوقعة ما داخل تلافيف دماغي.

الصورة والمكان يقتحمان المشهد. المسجد الذي يسمى اليوم المسجد الكبير، لم يكن يلزمه تمييزاً لأنه كان وحيداً وليس كما هو الآن واحد من سبعة، يقع في وسط المسافة بين اليافطة والمدرسة الابتدائية التي أمضيت فيها سنة. المدرسة الابتدائية المستأجرة في بيت كبير لعائلة إقطاعية بمقاييس القرية، ربما صفة إقطاعية كبيرة عليها إن قورنت بالإقطاع، لكنها عائلة غنية تملك أراضٍ واسعة في سهل القرية. المدرسة التي قضيت فيها الصف الثاني الابتدائي، وكان من أصدائها في كتاباتي قصة قصيرة أو أكثر. كانت أمنيتي حينها أن أصل الصف السادس الابتدائي لتكون غرفة صفنا في العلية، فقد كان طلاب الصف السادس في نظرنا كباراً ومميزين، فهم سيجلسون لامتحان “مترك” السادس كما كانوا يسمونه، ومثله كان مترك الثالث الإعدادي الذي كنا آخر من أدّوه، ولم يبق من الامتحانات العامة غير التوجيهي. كان من مقررات الصف السادس في تلك السنة مقرر عنوانه “بطولات عربية”، كتاب جذبني بشدة وما زلت أذكر صور بعض أبطاله، مثل الشيخ عز الدين القسام ويوسف أبو درة وفرحان السعدي. انتهت السنة الدراسية وانتقلت المدرسة الابتدائية إلى بناية أخرى مستأجرة، وتم إلغاء “مترك” السادس واختفى مقرر بطولات عربية ولم تختف الصور من ذاكرتي، وإن كانت تفاصيل النصوص التي رافقت تلك الصور قد اختفت منها. هُجِرت الدار الكبيرة الواسعة التي كانت مدرسة، وبدأت مبانيها بالتآكل وظلت بقية البوابة الكبيرة صامدة بقوسها، والعلِّيَة أصبح العشب اليابس يعلو سطحها وشبّاكها مفتوح للريح وأسراب حمام عششت فيها، وتساقطت بعض الأحجار من ركنها الشمالي العلوي.

أحاول أن أتذكر ممن أخذت كتاب بطولات عربية ذاك وتصفحته؟ لا أذكر، ربما اطلعت عليه في سنة لاحقة، وربما أخذته من أحد اثنين من أبناء الحارة اللذين كانا في الصف السادس: جميل النمر ويوسف الصادق، كلاهما أخذتهما حرب حزيران ليصبحا نازحين عن البلدة والوطن. جميل عاش في عمان يعمل موظفاً في فندق حيفا وسط العاصمة قرب البنك العربي وكنت أزوره أثناء دراستي الجامعية في الجامعة الأردنية، ذهب فيما بعد إلى الخليج، أما الفندق فقد أصبح معلماً حافظ عليه من الهدم شخص اشتراه وجعل منه استراحة ثقافية وقد زرته وهو بهذه الصفة متذكراً زيارتي لجميل. أما يوسف فقد راح ضحية برصاصة طائشة في أول اشتباك بين مجموعة من المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني وكان طالباً في السنة الأولى في معهد المعلمين، مجموعة غير معروفة كانت تدعى “كتائب النصر”.

وعندما صار البحث ممكناً إلكترونياً قبل سنوات، ألقمت الحاسوب عبر أحد محركات البحث كلمة “بوتاجي” فلم يسعفني، لا أذكر إن كان ذلك في بداية عمر المخزن العملاق للمعلومات “غوغل” المبجل، أو محرك بحث آخر قبله، المهم أن محرك البحث لم يخرج من جوفه أي شيء يسعفني عن هذه ال”بوتاجي”، وتوقفت بعدئذٍ عن التفكير بالأمر.

 

عادت يافطة بوتاجي حية، يوريكا، يوريكا، عرفت بوتاجي. أوقفت الفيديو عند صورة إعلان في جريدة الكرمل وقرأت “في محلات بوتاجي، أكبر مستودع لبيع الفونوغرافات في فلسطين”، وفي إعلان آخر “ثلاجات بوتاجي تعطيكم رطل بوزة في اليوم”، وفي آخر “بوتاجي يعرض موتيسكل بأسعار رخيصة”، وفي آخر”زوروا محلات بوتاجي …أكبر مستودع في فلسطين للبضائع التالية” ويسردها الإعلان بطريقته “من البدلات الجاهزة للرجال والأطفال إلى ماكنات راديو من جميع الماركات”.

حملني اكتشاف “بوتاجي” إلى تلك الأيام حين كانت اللافتة/ اليافطة/ القارمة/ الآرمة، لأتفقد الحارة التي كانت اللافتة تحتل موقعاً فيها، لأعيد رسم المحيط: المحلات المختلفة وأصحابها وقصصهم وقصص طفولة كانت “الحارة” فيها مركز القرية، قصص ترتبط بالدكاكين والمقاهي وأصحابها، طيور ذاكرة تحلق وتأتي بقصة ما لتفتح الباب لقصة أخرى، فهل أستطيع لملمة تلك القصص وإعادة الحياة في تلك المحلات؟

مُرفقان (2)