خاص : بقلم – محسن الميرغني :
-1-
تُحدق الدراما في أرواحنا عن طريق شخصياتها وأحداثها وتُمعن النظر. إنها الوسيلة الأكثر نضجًا ونفوذًا على النفس الإنسانية في مجتمع تحكمة سطوة الدين أو ابتكارات العلم ذات القيمة المذهلة في مسألة التطور الإنساني.
والدراما كما أصفها تُمثل “بؤرة الحقيقة”، الحقيقة التي يُجمع كثير من الفلاسفة والمفكرين على أنها ليست واحدة ولا مطلقة، نراها تتجسد في الدراما أمام أعيننا باعتبارها لحظة مكثفة من الوجود في حيز من الزمن والمكان تُعبر عن حقيقة من وجهة نظر صناعها؛ ولكنها موضوعة في بؤرة الضوء.
ومن ثم فإن المُشاهد الذي يستمتع بالدراما كفن، كثيرًا ما يتعلق بعمل درامي ما أو شخصية درامية بقدر ما تتطابق حقيقتها مع حقيقته هو في لحظة ومكان المشاهدة أو خارجها.
من هنا يمكن القول أن الدراما واحدة من أبرع الفنون البشرية القادرة على الإمساك بالزمن وخلق المعنى وإدراكه مهما اختلف الزمان والمكان.
وهذاهو سر القوة التي تُجسدها الأعمال الدرامية؛ سواء كانت متلفزة أو على منصات إلكترونية أو فوق خشبة المسرح.
لأنها قادرة على النفاذ بسهولة ويُسر إنسانيين إلى الناس؛ كل الناس، ومن هنا أيضًا تنبع مسؤولية الفنان مبدع العمل الدرامي في مجالاته المختلفة كتابة وتأليفًا وتمثيلاً وإخراجًا، بما يصنعه من فن له أهمية وقيمة لدى الآخرين من البشر بقدر ما يحمله من قيم وصدق وحقائق.
-2-
في العام 1987 قدم المخرج “محمد فاضل”؛ من تأليف “أسامه أنور عكاشة”، المسلسل التلفزيوني: (عصفور النار)؛ في معالجة مصرية لرائعة “سوفوكل”؛ (ألكترا).. في (عصفور النار) يستغل المؤلف الحبكة الدرامية بالأساس لتعرية خطاب الاستبداد الذي يُجسده “صقر الحلواني” من خلال شبكة علاقاته ببقية الشخصيات. وكيفية تطورها وانتهاءها.
ومن خلال رحلة شخصية البطل “الحسيني صالح الحلواني”؛ القادم لقرية “الحلوانية” لإثبات نسبه، تدور حبكة العمل الدرامي لتُقدم للمشاهد تيمة الاستبداد كمحور أساس للعمل.
وتطرح أفكارها وتساؤلاتها حول كيف يمكن للقاتل الفاسد المستبد أن يُزيف الحقائق لفترة من الزمن، ولكنه لا يمكنه أبدًا، بل ويعجز تمامًا بكل جبروته وسلطانه عن تغيير الحقيقة وطمسها.
وفي نهاية العمل تظل حيرة المشاهد قائمة تجاه حقيقة نسب “الحسيني” لوالده المقتول؛ حتى مع نهاية الحلقات السعيدة، لكننا نعرف يقينًا أن المستبد يحترق.
-3-
في 2022 يُقدم “حسين المنباوي” مخرجًا؛ و”عبدالرحيم كمال” مؤلفًا، مسلسل: (جزيرة غمام)؛ ليطرح بحسب رؤيته إجابات غمامية ضبابية تلفيقية مليئة بالدروشة والتهويمات الصوفية عن أسئلة إنسانية كبرى مثل:
ما الحب ؟.. ما الصدق ؟.. ما الإيمان ؟.. ما اليقين ؟.. ما الاستبداد ؟.. ما الفساد ؟
من خلال عرضه لجريمة قتل تشغل حيز المحرك الرئيس لأحداث الدراما، وشخصية عمدة متسلط في مواجهة شخصيات تُجسد خطابات الدين والمال والحب والسلطة. لكنها تُظهر لنا في حالة ميوعه وتشتت.. بتغليفها بهالة من الحس الصوفي المهيمن على صيغ المؤلف في كافة أعماله السابقة.
في (جزيرة غمام) تختبيء الشخصيات الدرامية وراء معسول الكلام والجمل المسهبة والإطنابات الفارغة التي توحي ولا تُقر بفساد الفاسدين بوضوح.
وكأن المؤلف والمخرج يحومون حول المسائل والقضايا التي تطرحها الحبكة الدرامية ويخافون منح المشاهد حقائق شافية دراميًا عن كل ما يعتمل في داخل العمل من صراعات مؤسطرة..
بل ويستلذ المؤلف لعبة التهويم الصوفي والدروشة في إحالة فساد الجزيرة إما لمؤثر خارجي يُمثله عالم الغجر، أو فساد عناصر مجتمع الجزيرة مثل شخصية رجل الدين، دون وجود أية إشارات واضحة لدور وأهمية فكرة الحق القانوني أوتعرية سلطة الطغيان وفضح دورها في الفساد والإفساد.. ونحن أمام رواية غرائبية يُلفها الواقع غير المقنع، فقتلة الضحية: “سندس”؛ مثلاً يموتون بشكل قدري إلهي عبر تهويمات يُرددها: “عرفات” بلسان صوفي.. والمتهم الثالث فيهم الذي يعترف ويُقر بجريمته تحكمه شريعة الثأر لا القانون..
بالرغم من وجود عمدة وخفر.. وهو شكل قانوني لسلطة الدولة الحديثة في الريف.