23 نوفمبر، 2024 5:21 ص
Search
Close this search box.

الحساء المكسيكي

الحساء المكسيكي

كنا نقرأ في طفولتنا الكثير من الحكايات المعربة والمنقولة من التراث والأدب العالمي، فكانت مصدر تثقيف وتنوير وتوعية لجيلنا عكس الكثير من أطفال اليوم الذين لم يستمتعوا بجمال الحكايات التي كانت تسافر بنا عبر البلاد ونحن في بيوتنا، في وقتٍ كان ينتمي فيه أغلبنا إلى الطبقة الوسطى أو أقل بقليل من الوسطى، ولم تكن قيمة تلك القصص مختزلةً في المعاني والمشاعر والقيم الإنسانية التي تحملها، بل كانت أيضاً في التعرف على ثقافات الشعوب وعاداتهم والإنتباه إلى قيمة الإختلاف وجماله والإيمان بإمتلاك غيرنا لمميزاتٍ لا نملكها دون أن يكون ذلك مصدر إزعاج ٍ لنا بقدر ما يدفعنا إلى التواضع والإعتراف بوجود الغير، ولتكون بمثابة عنصر جذب يقربنا من الآخر، فيحببه إلينا ويشوقنا لمعرفة المزيد عنه وعن غيره من أسرار هذا الكون الفسيح..

فنحن أيضاً (آخر) حتى بين أبناء بيئتنا وثقافتنا، كما أن هنالك الكثير من الشعوب الأخرى التي لا تعرف عن حضارتنا وتعدديتها وأعراقها شيئاً وإن كانت حتى شعوباً عربية أو ناطقةً بلغة الضاد، ولسوء الحظ فإن الكثير من القيم التي تعلمناها بسلاسة من خلال الحكايات البسيطة محتها الظروف السياسية التي كان لها أثر كبير في تباعد النسيج الإجتماعي وظهور الطائفية والعنصرية والطبقية والمناطقية سواءاً كان ذلك بين أبناء البلد الواحد أو حتى على مستوى بلادنا جميعاً..

وأذكر جيداً في طفولتي أنني قرأت قصةً من تراث المكسيك بعنوان (الحساء المكسيكي) وهو حساءٌ يحتوي على مختلف أنواع الخضروات، كانت تطبخه إحدى الأمهات لأطفالها السبعة وسط تذمر كلٍ منهم من أحد أنواعه التي لا يستسيغها، حتى ضاقت بشكواهم ذات يوم وفاجأتهم بإعدادها ماءًا مغلياً مع بعض الملح وهو ما أثار دهشتهم وتساؤلهم، فقالت لهم حينها أن الحياة مثل طبق الحساء الذي نأكله يحتوي على كافة الألوان والأشكال والنكهات والمعاني، وأن محاولتنا الدائمة لإزالة ٱحدها لأي سببٍ كان ستنتهي بكل شخص ٍ منا وحيداً وستفقد الحياة حينها جمالها ومعناها الكامن في تنوعها.. وهو ما أعتقد أن كثيراً من الكبار لم يفهموه حتى الآن..

فألحظ كما يلحظ الكثير عند التحدث بصراحة سواءاً كان ذلك من خلال مقالات ٍ فنية أو اجتماعية أو ثقافية أو وطنية أو توثيقية لفترةٍ من فترات التاريخ في أي بلد ٍ كان أن هناك دوماً فئاتٍ ترفض النقد أو مواجهة عيوبها أو عيوب بعض أفرادها من خلال مواضيع تناقش فيها الظواهر دون تعميم، مع عدم قدرتهم على التعامل بنضج ووعي مع النقد وأخذه دوماً على محمل ٍ شخصي اعتقاداً منهم أنهم أفضل من غيرهم وهو قطعاً غير صحيح، كما نلاحظ مشكلةً هامة يعتقد البعض أنها غير واضحة أو مفهومة لدى الكثير من شعوبنا وحتى بين أبناء الوطن الواحد حيث لا نمتلك على الأغلب نظرةً موضوعية تقيم أي حدث أو عمل أو إنجاز أو شخص بشكل احترافي ومن زاوية جمالية وبمعيار الكفاءة والقدرة على تقديم الأفضل، حيث لا زال كثر وبكل أسف يرون الأشياء من منظور عنصري أو طائفي أو طبقي أو حزبي أو مناطقي رغم تصديرهم لصورة معاكسة عن أنفسهم كمثقفين منفتحين على الجميع، ولذلك تعاني بلادنا الأمرين لأن الكثير يظهرون عكس ما يخفون ويقولون ما لا يفعلون، ربما لأنهم أخلصوا لمفاهيم اعتقدوها صحيحة بشكلٍ خاطىء..

فيفترض من بعض الذين (يعتقدون) أنهم يرون الحياة من منظور ديني أن يفهموا معناها الحقيقي وأن العبادات التي يمارسونها تخصهم فيما لا يمكن أن يجتمع الدين مع التمييز ضد أي شخص مهما اختلف عنا ولا يمكن أن يطوع لخدمة فئات بعينها، وأن قيمة العدل هي أساس التعامل مع الغير وهي التي تمثل جوهر الدين إلى جانب الخلق، والذي يشكل المعيار الأساسي في التفاضل بين الناس وليس أي انتماء آخر، كما يثير الإستغراب سلوك البعض من المعتنقين لمبادىء (علمانية) أو رافعي شعارات (إنسانية) يفترض أن تكون نظرتهم للأمور أكثر نضجاً وموضوعية وحيادية لكنها لا تزال تحابي أو تنحاز للثقافة التي جاءت منها على حساب الآخرين وتقوم بتقييم نتاجهم حسب الديانة والطائفة والعرق والجنسية والجنس مما ينسف هذه الإدعاءات التي لا تتجاوز كونها مجرد واجهة يظهرون بها أمام المجتمع..

وقد تكون المرحلة الحالية رغم تعقيداتها فرصة جيدة لرؤية المشهد بتجرد ولمراجعة أخطائنا كي نستطيع تقييم الحياة بكل ما فيها وكل أبنائها بعيداً عن التصنيفات التمييزية التي تتدنى بالذوق والفكر والنفس وتبعدهم عن رؤية الجمال وتذوقه في كل ما نراه..

أحدث المقالات

أحدث المقالات