لم تر العصور رجلا -غير موحى اليه- يتكلم بلسان انساني شامل وعلم رباني كامل ومنهج فقهي عامل كمثل علي بن ابي طالب الهاشمي القرشي صهر النبي محمد عليه الصلاة والسلام وربيبه وابن عمه.
هذا الرجل النبراس لم تشهد له البشرية عموما والبيئة العربية خصوصا شبيها و إن ضجت وامتلأت بالعظماء ممن عاصروه وممن اختارهم الله لصحبة نبيه فجعلهم “كالنجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا”.
وفضلا عن الدين وعمق اليقين فعلي كان فردا لايشبهه من حوله ، في العقل والشعور والفهم والاستبصار ، جمعه بين ما لايجمع يلفت الانتباه ويسحر اهل النهى والانصاف ،
فهويحارب الى حد طلب الموت ويتبصر حد حب الحياة وهو الذي صور هذه المعضلة الأزلية احسن تصوير بكلمات قليلات “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كانك تموت غدا”
ينقطع الى الله كأحسن عابد زاهد حتى تخضل لحيته بدمعه فيقول للدنيا “غري غيري غري غيري فقد طلقتك بالثلاث”
نعم حقا ، على الدنيا التي غرتنا جميعا وغرت كل من حوله في أواخر سنواته ان لا تغر عظيم الزهد وعميق العقل والفهم الذي لاتنطلي عليه خدعة سنوات العيش القصيرات فهو يقرا ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ ليس كما نقراها نحن، فهو يقرأ و يعي ويصدق. وهو يعلم ان الحياة المزهرة انما هي طريق الموت المظلم المجهول فهو الذي يقول بجملة فلسفية مخيفة “انفاسنا خطواتنا الى الموت” بتجسيد مرعب للتناقض الصادم ، فانظر كيف يكون العقل الذي يخرج الدنيا من قلب الرجل مهما حلت واخضرت فانفاسه خطواته الى القبر ، فهل يوقف انفاسه كي لايصل اليه !
علي الذي اراد ان يصلح الدنيا عندما قبل حكمها بعد عظماء الصحابة وهو منهم ، بل هو الكفء الذي لاجدال عليه فقد قال فيه عمر العادل الزاهد “لو وليها الاجلح لحملهم على الجادة” اي لأصلح الناس وعدل فيهم. على الخليفتين سلام الله وبركاته.
الرجل الذي يصدق من يخدعه لا لانه غر حاشاه بل لانه يعظم الله في نفسه ونفوس الناس فلما عوتب في رجل خدعه قال “لم يخدعني انما خدعنا بالله” اي ذاك الرجل حلف لي وعاهد بالله.
علي ذو العقل الجبار الذي لو اراد ان يناور في السياسة ويخادع لحكم الارض كلها وليس خلافة المسلمين فحسب ولكنه غلب على امره طوعا و وعيا فقال “والله لا اداهن في ديني” “ولو اردت المكر والمكيدة لما غلبني أحد”
القائد الفذ الذي خذله اصحابه وهو على الحق فعاد الى ربه وبرأ نفسه مما اصابه به اصحابه من الخذلان فقال يخاطبهم في حسرة بالغة ممزوجة بفخر صادق “والله لقد افسدتم علي رايي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش ان عليا بن ابي طالب شجاع ولكن لاعلم له بالحرب ، لله ابوهم وهل أحد منهم أشد لها مراسا مني ، لقد نهضت لها وما بلغت العشرين، وها أنا قد نيفت على الستين، ولكن لا راي لمن لايطاع ،، الا انه لا راي لمن لايطاع”
الحاكم الذي اذا حكم بكتاب الله لم يجامل ولم يحاب ولم يتردد و ان فضل السلامة والصلح بين الناس فقال ” ان الله داوى هذه الامة بدوائين السيف والسوط فلا هوادة عند الامام فيهما ، فاصلحوا امركم بينكم ولا تاتوني”
امام البلاغة الذي يضع الكلمة في موضعها الذي لايدانيه بشر بعد النبي في ذلك ، اذا هدأ برع واذا غضب ابدع ، يوصف بعض جنده من المترددين المتقلبين ممن خذلوه “اذا كنتم من الحر والقر تفرون فإذا أنتم والله من السيف أفر. يا أشباه الرجال ولا رجال. حلوم الاطفال وعقول ربات الحجال” فهل رايت اقصر حلما من طفل و أغير عقلا من امراة، فبلغ مايريد في عبارتين.
علي امام الحكمة الذي يعلمنا ان “فقد البصر أهون من فقد البصيرة” وهو الله محق ، وهو الصابر الذي يعلمنا الصبر بالاقناع وليس بالترديد فيقول “لن يحصل الأجر حتى يتجرّع الصّبر”. و ما سمعت من نصيحة بشرية في فضل الصبر على المصائب من قوله مقتبسا من نور النبوة “اذا اصبت فلاتجمعن عليك المصيبة والجزع ، فانك ان صبرت أجرت والمصيبة فائتة وان جزعت ازرت والمصيبة قائمة” او “إنك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور” وعلي هو الذي علمنا بعد رسول الله ان الناس صنفان “اما اخ لنا في الدين او نظير لنا في الانسانية”
المناظر القاطع الذي عاد ابن عباس حبر الامة وامام المفسرين وناصر امير المؤمنين (المفترى عليه) ومعه علماء الصحابة عن محاججة الخوارج حفاظ القران اصحاب الحاكمية لله فخرح اليهم و افحهمم حجة ولم يقدروا عليه علما حتى قاتلوه.
المسلم الذي آلى حقن دماء المسلمين عندما رفعت المصاحف وكان اقرب الفريقي الى العفو بينما كان اقربهما الى النصر ، وهو الذي اقدم قبل ذلك الى اكرام من اجتهد خطأ فقاتله من الصحابة المسلمين وسماهم “اخوة لنا بغوا علينا” فاعادهم الى ديارهم موقرين مخفورين.
المتدبر في خلق الله ليس كما يتدبر غيره فهو يرى فلسفيا
ان “لو كان لربّك شريك لأتتك رسله” وعقائديا ان “شرّ الإيمان ما دخله الشّك”
وهو المجرب الذي لايعجب ممن يجازبه بالخير سوءا لانه يرى ان “مسرّة الكرام في بذل العطاء، ومسرّة اللّئام في سوء الجزاء”
ويرى علي وهو العالم ان “من وَقَّرَ عالِماً فقد وَقَّرَ ربّه” وقد نظر الى قرابته من النبي عليه وعلى اله الصلاة والسلام نظرة اخرى اذ عنده “إنّ عدوّ محمد صلّى الله عليه وسلّم من عصى الله وإن قربت قرابته” وهو الذي ينبئنا ان في دولة الفاسدين التي نحن فيها اليوم ألم ومهانة فتنبأ بآلامنا قبل قرون وقال “دول الفجار مذلّة الأبرار” ورغم هذا ارادنا ان “لانستوحشن طريق الحق لقلة سالكيه”
قال في آخر ايامه رضوان الله تعالى عليه ” الا ان الدنيا قد ادبرت وآذنت بوداع، وان الاخرة قد اقبلت واشرفت باطلاع ، الا وان المضمار اليوم والسباق غد ، الا وانه لا عدل اليوم ولاظلم غد ، الا وانكم في ايام امل من ورائه أجل، فهل من تائب من خطيئته قبل قدم منيته”
وكان آخر دروس امام الانسانية لنا وصيته في قاتله يوصي بنيه وحكومته ، فيما اخرجه البيهقي في سننه “أطعموه ، واسقوه ، أحسنوا إساره ، فإن عشت فأنا ولي دمي ، أعفو إن شئت وإن شئت استقدت ، وإن مت فقتلتموه فاضربوه ضربة بضربتي ولاتمثلوا به”
فكان سلام الله عليه أخوف مايخاف علينا منه :”اتباع الهوى وطول الامل”