لعل التفاني في العمل , والإخلاص فيه , لا سيما ذلك العمل المنبعث من نية صافية من القلب بعيدا عن براثين التنازع والتصارع مع الآخرين , والسعي الحثيث المستمر والدؤوب على مواصلة مسيرة العلم والذوق الفني والاخلاقي والارتقاء بالمجتمع , سرعان ما يولد البغضة والنميمة في قلوب ضعاف النفوس أصحاب المصالح الضيفة المسختين الذين لا يعملون بتفان , مثل هؤلاء يبغضون من المخلصين لانهم سيسلطون الضوء على تسيبهم لا إراديا . وهناك النوع الآخر الذي يعمل لكن لأجل مصالحه فقط , بلا منظومه قيمية عالية , متعاطفا مع المسختين ويكسب ولاءهم دائما ضد المتفانيين , مما يشكلون حلقة ضيقة خانقة ضد الاشخاص المخلصون المتفانون .. فيدفع ذلك بالشخص الحي الى العزلة والاندماج مع الذات , فيدخل في عزلة إيجابية منبعثة من الرغبة في تجنب الشعور بالإزعاج الناتج عن التواجد مع الناس السلبيين بالسخت والتسيب والغليظين او العدوانين كما اوضحنا .
كلما ازداد الإنسان وعيا كلما ازدادت الفاصلة ما بينه وما بين المجتمع , مما يضطره اخيرا الى العزلة والاستقلالية بذاته وقرارته أكثر . فيبتعد عنه الاقارب والاصحاب أوتوماتيكيا أيضا لأنه شخص واع مستقل بقرارته . لا يمكن للأخرين التحكم به .لاسيما ومجتمعنا الشرقي الاشخاص فيه يحبون التدخل والتحكم بالآخرين وتوجيهه نحو مصالحهم وأهواءهم , خصوصا وبصفة اكبر لو كانت إ مرأة ..
عندما يعزل الإنسان نفسه عن السياق الاجتماعي لحياته، فقد يستطيع رؤية تأثير هذا السياق على شخصيته بصورة أوضح. يؤيد توماس ميرتون، وهو راهب وكاتب قضى سنوات في عزلة، هذا الرأي. فقد كتب في كتابه “خواطر في العزلة”: “لا نستطيع أن نرى الأمور بوضوح إلا إذا ابتعدنا قليلاً”.
هنا يأتي دور العزلة. يتطلب هذا الانفصال ما يسميه المحلل النفسي دونالد وينيكوت “القدرة على أن تكون وحدك”. هذا هو المفتاح لفكرة بوكر التي تقول بأن في العزلة تقوية للذات. يؤكد بوكر أنه “يجب عليك امتلاك هذه القدرة: القدرة على معرفة أنك ستبقى على قيد الحياة، وأنك ستكون بخير إذا كنت غير معتمد على هذه المجموعة. وبعبارة أخرى، فإن الشخص الذي يستطيع العثور على تجربة شخصية غنية في حالة العزلة من المرجح أن يكون شعوره بالوحدة أقل كثيراً حين يكون بمفرده”.
خلاصة القول: لكي تكون العزلة مفيدة، يجب أن تتحقق بعض الشروط. كينيث روبين، وهو طبيب نفسي في جامعة ميريلاند، يسميها “the ifs”. تكون العزلة مثمرة فقط: إذا كانت طوعية، وإذا كان المرء يستطيع تنظيم مشاعره “بصورة فعالة”، وإذا كان يستطيع الانضمام إلى مجموعة عندما يريد، وإذا كان يستطيع الحفاظ على علاقات إيجابية خارجها. إذا لم تراعى هذه الشروط، فقد تصبح العزلة ضارة. بالنظر إلى ظاهرة هيكيكوموري في اليابان، نرى مئات الآلاف من الشباب المصابين بالاكتئاب أو الاضطراب، ينعزلون بعيداً عن المجتمع، أحيانا لسنوات، وغالباً ما يتطلب الأمر علاجاً مكثفاُ لإعادة إدماجهم في المجتمع. الفرق بين العزلة كتجديد للنشاط والعزلة كمعاناة هي نوعية التأمل الذاتي الذي يمكن للمرء أن يمارسه إثناءها، والقدرة على الاندماج في المجتمع عندما يريد.
إذ يستطيع الاشخاص المتفانون المندمجون مع ذواتهم المتصالحون مع انفسهم . المدركون جيدا لقدراتهم وقدرات وواقع من حولهم , وهم في عزلتهم في بناء مستقبل مهني ناجح “المعلم الحقيقي الوحيد هو بداخلنا”.