خاص : دراسة بقلم – سعيد العليمي :
“القرامطة” في الدراسات التاريخية العربية المعاصرة..
يأتي في طليعة رواد المؤرخين المعاصرين؛ الفلسطيني “بندلي جوزي”، الذي كان أول من حاول تفسير وقائع التاريخ العربي الإسلامي على ضوء المادية التاريخية، وقد أولى اهتمامًا خاصًا بحركات المعارضة الثورية؛ خاصة لـ”البابكية” و”القرامطة”. وكان كتابه المعروف: (من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام) (32). فاتحة تطبيق المنهج العلمي وطرائقه الانتقادية على واقعنا التاريخي. فلم يأخذ بأقوال مؤرخي القرون الوسطى واتهاماتهم التقليدية لحركات المعارضة الثورية، كما لم يُساير بعض المستشرقين في ضلالاتهم، وإنما تحقق من طبيعة هذه الحركات من خلال دراسة موضوعية نقدية. ولم تكن أولى المحاولات الرائدة لتخلو من بعض القصور تفرضه ضآلة المادة العلمية المتوفرة حول هذه الحركات الراديكالية فيما يتعلق بالكثير من جوانبها، فضلاً عن أن حداثة استخدام المادية التاريخية ومحاولة اكتشاف الأوضاع الخاصة؛ “الشرقية”، من خلال منهجها والغريزة الثورية التي قادته إلى التعاطف مع المنتفضين، كل ذلك أدى به إلى رؤية “التجربة القرمطية” من واقع معايشته للثورة الاشتراكية وإنجازاتها في “الاتحاد السوفياتي”. فقد اعتبرها تجربة شيوعية دون أن يُحدد طبيعتها الاجتماعية بالنسبة إلى عصرها والبيئة التاريخية التي ظهرت فيها. ولم يُميز بين طابع “مشاعية الكوفة”؛ التي أقامها “قرامطة العراق”، وبين النظام؛ “المشاعي”، الذي أقيم في “البحرين” على قاعدة جموع العبيد. وقد وثق آراء “البغدادي” في: (الفرق بين الفرق)؛ بشأن بعض مظاهر التجربة دون نقد وتمحيص، وخلط بين أساليب الضم إلى الدعوة وبين مراتب العلم؛ وهي البلاغات، كما أنه قد تجاهل أيضًا واقع وجود الرقيق الزنج في ظل نظام “قرامطة البحرين”. وأخيرًا فإنه قد رأى أن الحزب الإسماعيلي أراد بناء نظام اجتماعي جديد اشتراكي دون أن يوضح طبيعته، وما إذا كان ممكنًا إقامة مثل هذا النظام في شروط ذلك العصر؛ ولم لِم يتم بناؤه بالفعل حين سيطر الإسماعيليون على “المغرب” ثم “مصر”.
ولا يبدو أنه كان مطلعًا على كل آراء مؤسسي الماركسية؛ بشأن المجتمعات الشرقية، وربما كانت مقدمة كتابه؛ الآنف الذكر، تُشير إلى أنه كان متابعًا للمناقشات التي دارت في العشرينيات في أوساط العلماء والمؤرخين السوفيات حول أسلوب الإنتاج الآسيوي، فهو يؤكد في هذه المقدمة على وحدة قوانين التطور الاجتماعي، ووحدة المراحل التاريخية التي مر بها كل من الشرق والغرب على السواء. ولكنه من البين أن “بندلي جوزي” لم يعتمد على بعض الدراسات الماركسية التي كان من شأنها أن تُنير بشكل أعمق الطريق أمام بحث الحركات الثورية، أعني بصفة خاصة مؤلف “إنغلز” حول حرب الفلاحين في “ألمانيا”. وكذلك مقالاته حول “المسيحية البدائية”، أضف إلى ذلك مؤلفات “كاوتسكي” حول نشأة وتطور المسيحية، خاصة كتابه: (أسس المسيحية)، فهي جميعًا تُعطي نقاطًا ممتازة للمقارنه التاريخية. ومع ذلك يظل لـ”بندلي جوزي” فضل الريادة في بحث حركات المعارضة الثورية في التاريخ العربي الإسلامي من منظور المادية التاريخية. ورغم أن كتابه قد صُدر في أواخر العشرينيات، فقد ظل يُمارس تأثيرًا عميقًا على أجيال من الباحثين الذين كانت دراسة حركات المعارضة الثورية موضع اهتمامهم.
ويأتي في طليعة الرواد العرب؛ المؤرخ الاقتصادي العراقي؛ “عبدالعزيز الدوري”، الذي أسهم اسهامًا ممتازًا في بحث التاريخ الاقتصادي للمجتمع العربي الإسلامي في عصور مختلفة، خاصة في العصر العباسي، وهو يُعتبر بحق مؤرخًا خلدوني النزعة. وقد اهتم في دراساته بتبيان الأسس الاقتصادية لبعض ثورات القرنين الثالث والرابع الهجريين؛ وخاصة ثورتي “الزنج” و”القرامطة”. وهو قد تناول بحث الإسماعيلية و”القرامطة”؛ سواء بإيجاز كما هو الحال في كتابيه: (تاريخ العراق الاقتصادي فى القرن الرابع الهجري) (33)، و(مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي) (34)، أو باستفاضة كما هو الحال في كتابه: (دراسات في العصور العباسية المتأخرة) (35 ). فضلاً عن مقدمته المطولة التي صُدر بها الترجمة العربية الأولى لكتاب المستشرق؛ “برنارد لويس”: (أصول الإسماعيلية) (36). والميزة الأساسية لكتابات “الدوري”؛ هي تبيانه للجوانب الاقتصادية باعتبارها الأساس الذي إرتكزت عليه حركات المعارضة الراديكالية ضد نظام الخلافة، كما أنها اهتمت بتصنيف الطبقات والفئات الاجتماعية التي شكلت هيكل هذه الحركات وبُنيتها، وإنطلاقًا من ذلك رفض “الدوري” وصف “الحركة الإسماعيلية القرمطية” بأنها حركة فارسية تهدف لإرجاع مُلك الفرس، وبيّن أن الإرستقراطية الفارسية قد ناهضتها بنفس الحمية التي ناهضتها بها الإرستقراطية العربية الإسلامية، كما أن القاعدة الاجتماعية للحركة قد شملت الفلاحين، والحرفيين، وعوام المدن، وقبائل “العراق” الجنوبي. وقد ميز وقدم مقارنات مفيدة بشأن اختلاف التنظيم الاقتصادي الاجتماعي لكل من “قرامطة العراق” و”البحرين”. وإن كان قد وصف أهداف الأولين بأنه: “إقامة مجتمع اشتراكي في السواد”، ووصف النظام الذ أقيم في “البحرين” بأنه دولة: “شبه اشتراكية”؛ دون أن يُحدد طبيعة هذه الاشتراكيات من خلال البيئة التاريخية التي أحاطت بها. وقد اعتمد على روايات “البغدادي” بشأن تطرف “القرامطة” في خلع الأديان، ناسيًا أن الحركة التي كان أبرز شعاراتها “حق العلويين في الخلافة”؛ لم يكن ممكنًا أن تُقوض بذاتها أساس دعوتها. وأن هذا الحكم التعميمي لا يُميز بين أطوار الدعوة ولا بين الأصول العقائدية للفرق التي كونتها.
لقد صدرت على مدار العقود الثلاثة الأخيرة؛ عدة أبحاث ودراسات عن “القرامطة” من قِبل الباحثين العرب. وهي ذات طابع تقليدي في منهجها ومادتها على السواء. وهناك نموذج يعكس هذه الكتابات التقليدية المعاصرة ومنهجها في بحث “حركة القرامطة” الثورية، وهو كتاب: (القرامطة أول حركة اشتراكية في الإسلام)، من تأليف الشيخ “طه الولي” (37). ولأن الكتاب نموذجي في تبني نهج مؤرخي القرون الوسطى، وهو ذات النهج الذي تبناه الدكتور “عبدالرحمن بدوي”، في البحث المطول الذي خصصه لـ”القرامطة” في كتابه: (مقالات الإسلاميين)، لذلك سوف نستغني بتقييم كتاب الشيخ “الولي”؛ عن تقييم هذه الكتابات المشابهة له فى جانب أو آخر. ولذا سيكون تقييمنا له تفصيلها بعض الشيء.
إن المؤلف ينطلق من مفهوم خاطيء يُشكل انتهاكًا للبحث العلمي وموضوعته يتمثل في تبنيه لأفكار مسبقة كانت الوقائع التاريخية المجتزئة هي أدواته في البرهان عليها. فلم يكن هدف دراسته – كما قد يوحي بذلك عنوان الكتاب، إبراز العناصر الديمقراطية أو الاشتراكية في هذا الحدث التاريخي بقدر ما كان هدفه أولاً إدانة الأفكار الراديكالية المعاصرة التي تتبنى قضية العدل الاجتماعي، وثانيًا إلقاء ظلال معينة على دوافع “الثورة الإيرانية”؛ التي كانت في أوج إزدهارها؛ أنذاك، باعتبارها تتبنى المذهب الشيعي. ولذا ليس صحيحًا ما يدعيه المؤلف من أن بحثه ليس مقصودًا به، أن يكون أداة إعلامية تهدف إلى مناصرة الفكر القرمطي أو مناهضته، بل إن المقصود هو التعريف المجرد بهذا الفكر الذي أثار حوله كثيرًا من الضجيج المذهبي في أوساط الرأي العام الإسلامي؛ فضلاً عن أنه لا يوجد في العلوم الاجتماعية ما يُسمى بالتعريف المجرد لأي فكر، فإن مادة الكتاب كلها هي اختيار وإنحياز لوجهة نظر معينة. ونحن لا نعترض على الكاتب في أن تكون له وجهة نظر معينة بشأن الأفكار الراديكالية المعاصرة، وبالأحرى في “الثورة الإيرانية”. غير أن هذه الطريقة تشوه التاريخ بقدر ما تُزيف السياسة، وهي في كل الأحوال تُشكل عائقًا يحجب الفهم العلمي للظواهر الاجتماعية والتاريخية التي ينبغي النظر إليها دون أية إضافات غريبة من خارجها.
والنقطة المركزية التي يدور حولها الكتاب تتمثل في رد “الحركة القرمطية” إلى النزعات الفارسية القديمة التىي أرادت إزالة مجد العرب وإقامة مجد الفُرس. ولذا يرى المؤلف: “أن الكتابة عن القرامطة وعن حركتهم مرتبط ارتباطًا عضويًا بالكتابة عن الصراع القومي بين العرب المسلمين وبين بعض المسلمين من غير العرب”. وأن الأمم المغلوبة وفقًا لمخطط تاريخي تآمري قد دخلت في دين الأمة الغالبة، ولجأت للأساليب الباطنية وحاولت استغلال ولاء عامة المسلمين لـ”آل البيت”. ولم تكن موالاة “آل البيت” سوى ذريعة يتوصلون بها إلى غاياتهم، أى لم تكن عقيدة أملتها شروط تاريخية معينة بقدر ما كانت أداء لتحقيق أغراضهم.
وفى الواقع فإن المؤلف يواصل المؤرخين القدامى الذين لم تُتح لهم ظروفهم منهجًا أفضل، كما أن ولاءهم الاجتماعي ومصالحهم قد ارتبطت في غالب الأحوال بالخلافة الرسمية. والحال أن التآمر لا يستطيع أن يُفسر ظاهرة تاريخية جماهيرية كبرى. وهي ظاهرة تستمد جذورها من واقع العصر. ومن الثابت تاريخيًا أن التشيع قد بدأ عربيًا وفي محيط عربي خالص، واعتمادًا على قبائل عربية؛ وأنه قد مثل بصفة أساسية الفئات الاجتماعية المضطهدة في مواجهتها مع الخلافتين: الأموية والعباسية. وقد كان هو المهيأ لأن تلتف حوله الاتجاهات المعارضة. كما شملت صفوفه بعض أبرز مثقفي العصر؛ آنذاك. وقد ناصر المضطهدون هذا المذهب لأنه كان يعدهم بعصر أفضل في ظل “إمامة الهدى” بدلاً من “إمامة الجور والضلال”. وإذا كان الفكر المضطهد قد لجأ إلى لغة دينية فلم يكن ذلك من قبيل التآمر، بقدر ما كان أمرًا حتمته شروط العصر؛ فقد كانت كافة العلوم الرئيسة تُمثل فرعًا من فروع اللاهوت، وكانت الإيديولوجية الدينية هي الوحيدة المُسيطرة، فكان منطقيًا أن تنبثق من داخلها اتجاهات متعارضة تُلبي نوازع مختلف الطبقات المتصارعة، أي بالإنطلاق من نفس أسسها خاصة وأن الدولة ذاتها قد كانت دولة دينية.