سيرة ومواقف
القسم الثاني
وقرية بيزلي تعد احدى المراكز الدينية في منطقة نيروه وريكان، لأنها كانت تعج بعدد من علماء الدين الاسلامي من أُسر عديدة كانت تمتهن التدريس والخطابة والافتاء في المنطقة، ومن أبرز هذه الأسر: مالا عباسي، ومالا زاده، ومالا شيخي، وغيرها، ومن ضمن هذه الأُسر، أسرة مالا زاده أسرة باحثنا (الشيخ عبدالحميد)، فضلاً أن مسجدها كان يلحق به مدرسة دينية تخرج منها العديد من الملالي والفقهاء بمختلف درجاتهم العلمية.
وكان نظام التعليم السائد في البلدان الاسلامية في العهد العثماني هو السائد في كردستان أيضاً بحكم وقوعها لحوالي أربعمائة سنة تحت الحكم العثماني(1514 – 1918م)، وكان هذا النظام يفرض على الطالب أن يدرس في الكُتاب أولاً، وكانت هذه الكتاتيب منتشرة لتحفيظ الاولاد الصغار مبادىء القرآن الكريم، يشرف عليها مدرس للقرآن يسمى ملا ( تحريفاً لكلمة مولى). ثم ينتقل الطالب بعد ذلك الى المدارس الملحقة بالمساجد، وهذه المدارس هي التي قادت الحركة العلمية والادبية، وكانت تخرج أفواجاً من طلبة العلم، وتثقفهم بالثقافة العقلية والنقلية. ينظر: عبدالرزاق الهلالي، تاريخ التعليم في العراق، ص80 – 93.
وكانت قرية بيزل تعد المركز الديني الرئيس في منطقة نيروه ريكان، قبل أن تقوم الحكومة العراقية بنقل أهاليها وغيرها من المناطق الكردية الملاصقة للحدود التركية الى مجمعات سكنية في سنة 1978م تقع أسفل المناطق المشارة إليها آنفاً؛ بسبب انطلاق الحركة الكردية من جديد (القيادة المؤقتة للحزب الديمقراطي الكردستاني في 26 أيار عام1976م)، ومحاولتها لم شتات الحركة الكردية من جديد التي تم اخمادها في أعقاب اتفاقية العراق والجزائر في 6 آذارعام 1975م.
وكانت القيادة العراقية تعتقد بأن إنهيارالحركة الكردية عام 1975م قد قضى إلى الابد على كل أمل لاعادة عقارب الساعة الى الوراء، أي انطلاق الحركة الكردية من جديد، ولكن يبدو أن تهجير المناضلين الكرد الذين شاركوا في الحركة الكردية التي انطلقت من عام 1961 لغاية 1975م الى جنوب وغرب العراق، ومحاولات الاجهزة الامنية للنظام العراقي السابق من أمن واستخبارات امتهان كرامة المواطنين الكرد، ربما عجل بإنطلاق الحركة الكردية للوقوف في وجه هذه المخططات غير الانسانية وغير المسؤولة تجاه مواطني البلد نفسه.
وكان ميشيل عفلق (1910 – 1989م) مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي وأمينه العام قد صرح لمجلة المعلم الجديد العراقية في عام1976م، بأنه إذا تعاملنا مع الكرد بعدالة الخلفاء الراشدين، فإن العراق سوف ينعم بالامن والاستقرار، ولن تقوم قائمة للحركة الكردية؟، وكان عفلق نفسه قد صرح قبل عدة سنوات وتحديداً في 10/6/1969م بالقول ما نصه:” … الاكراد هم مواطنون عرب مسلمون كغيرهم من العرب المسلمين لا يوجد اي فرق بينهم، عندما كانت البلاد العربية تشكل دولة أو دولاً عربية إسلامية. وفي العصر الحديث كانت الدول الغربية الإستعمارية هي البادئة بإيجاد الفروق وعوامل التمييز بين العرب والاكراد سواء باضطلاعها بمهمة التنقيب عن المميزات التاريخية واللغوية والعرقية للاكراد لتكوّن من ذلك منطلقاً للانقسام في بلدان المنطقة التي كانت هذه الدول تخطط لاستعمارها منذ القرن الماضي، وسواء بتوجيهها للحكومات والقيادات العربية، بعد دخولها هذه البلاد، كما فعلت في مناطق اخرى من المعالم وفي البلاد العربية بالذات حيث حاولت نفس المحاولة مع البربر في شمال افريقيا وقبائل جنوب السودان. ولكن هذا لا يعني ان الاستعمار يستطيع ان يخلق ظاهرة تاريخية فالظاهرة القومية هي من ظواهر العصور الحديثة ودور الاستعمار يقتصرعلى استغلالها ومحاولة الانحراف بها عن طريقها السوي وتسخيرها لمصلحته”.(ميشيل عفلق، في سبيل البعث – المسألة الكردية والثورة العربية، 1969م، ج5، ص37).
وعلى أية حال فقد خططت الحكومة العراقية لإنشاء مجمعات سكنية تم إنشائها لاحقاً في مناطق عديدة؛ لتسهيل مهمة السيطرة على الكرد عامة والحركة الكردية خاصةً، ومنعهم من القيام بأي نشاط قومي للحصول على الحقوق السياسية للشعب الكردي في العراق، ومن جانب آخر فإن القرى الكردية الانفة الذكر كانت دون شك مصدراً لاسناد وإحتضان الثوار الكرد، سيما وأن قرية بيزل والقرى المجاورة لها كانت حاضنة للانشطة المختلفة التي كانت تقوم بها الحركة الكردية، كما أن موقع هذه القرية الحدودي كان يساعد الثوار الكرد في تنقلاتهم عبر الحدود العراقية – التركية.
وبخصوص موضوع بحثنا حول السيد عبدالحميد وعشيرته الريكان، فقد تم اسكانهم في عدة مجمعات سكنية منها:
مجمع شيلادزي الواقعة شرق قضاء العمادية والمطلة على نهر الزاب الكبير ويحدها جبل لينكي من جهة الشمال، وهو امتداد لسلسلة جبل متينا باتجاه الشرق.
مجمع سيريي الذي بدوره يقع شرق مجمع شيلادزي في مدخل كلي بالنده، الذي كان يسمى في السابق كلي أورمار.
مجمع ديرالوك، وهي ناحية تابعة لقضاء العمادية وتقع الى الشرق منها في الطريق المؤدي الى شيلادزي وسيريي وكلي بالنده.
مجمع باكيرات، وهذا المجمع يقع الى الشمال من ناحية زاويتة على الطريق الرئيس الذي يربط مدينة دهوك بمدينة العمادية، ضمن منطقة عشيرة الدوسكي.
ويبدو أن سكان قرية بيزلي قد انتشروا في المجمعات الآنفة الذكر، ولكن صاحب البحث بعد نقله من جامع الفضل في بغداد الى محافظة دهوك استقرت أسرته في مجمع باكيرات مع أخوته وأبناء عمومته.
وكان جد السيد عبدالحميد (الخليفة نبي) قد أخذ الطريقة القادرية من لدن شيوخ الطريقة القادرية في قرية بريفكا، ولا تسعفنا المصادر في تحديد إسم الشيخ الذي سلم الطريقة إليه، ولكن والد الشيخ عبدالحميد الخليفة عبد الخالق(1905 – 1982م) كان قد أخذ الطريقة القادرية من يد الشيخ عبيدالله بن الشيخ نورمحمد الدهوكي البريفكاني(1885 – 1954م)، وقد أختاره الشيخ عبيدالله خليفةً له في منطقة نيروه وريكان.
وتجدر الاشارة إلى أن هناك علاقة قديمة بين والد عبدالحميد (الشيخ عبد الخالق نبي) مع الاسرة البارزانية وتحديداً شخص الزعيم الكردي ملا مصطفى البارزاني (1903 – 1979م)، بحكم علاقات الجيرة والانتماء الى التصوف القادري والنقشبندي.
عاش السيد عبد الحميد سنوات طفولته الاولى في قريته، وفي بداية مشواره، درس عبدالحميد القرآن الكريم والكتب الاخرى التي اعتاد طلاب العلم على دراستها في الحجرات العلمية (= المدارس المسحدية)، مثل: فتح القريب في الفقه الشافعي، والاربعين النووية في الحديث، ومتن الاجرومية في النحو، وكانت دراسته الاولية على يد كل من والد الشيخ عبد الخالق وأخيه الاكبر الملا نوري (1940 – 2008م).
ومن جانب آخر فإن الصراع الذي عصف بالمنطقة حول قيام الحركة الكردية في شهر ايلول عام1961م وما قبلها جعل الكثير من أفراد عشيرة الريكان يدخلون الى تركيا بعد مهاجمة العديد من العشائر الكردية الاخرى الموالية للحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة الملا مصطفى البارزاني لقراهم بسبب خلافات عشائرية قديمة . وقد نشرت جريدة ميلَيت Milliyet التركية تقريراً للكاتب التركي (نجم الدين أونور Nacmadin Onur)، حول تصريحات كلحي آغا رئيس عشيرة الريكان في 27/7/1961م للصحافة التركية، جاء فيها: ” أياً ما يقوله جمال باشا وما يقوله الشعب سنفعله (جمال جورسل قائد انقلاب 1960م التركية ورئيس الجمهورية التركية بعد ذلك)، السبب الوحيد لهذا هو الحكومة العراقية، عشيرة البارزاني متحكمة في كل شيء بالمنطقة الذي نتواجد فيها، ما يريده ملا مصطفى(= البارزاني) يفعله، هاجمونا بقوة قوامها 3 آلاف شخص. ضربنا من أربعة جبهات. قتل منا 60 شخص وأُسر 200 شخص. وجدنا الحل في الهرب، إذا استمرت الحرب فان الجميع سيهربون”. ويستطرد قائلاً: “حتى إن لم يتم القضاء على عشيرة البارزاني ويموت الملا بارزاني لن يعود الى العراق”. ينظر:(دلشاد م. صالح بابلا، موقف جريدة ميلَيت Milliyet التركية من الحركة الكوردية وثورة أيلول في العراق(1958-1963)، ص10 -11).
وينقل التقرير عن لسان بعض اللاجئين من أفراد عشيرة الريكان أن الحرب بين العشائر قد اشتدت في العراق وقتل في صفوفهم 18 شخصاً آخرون، ولم يبقى من عشيرة كلحان ( كلحي) اغا في العراق سوى 1000 شخص يقاتل منهم 150-200 فقط قوات البارزانيين، كما إن هذه القوات أيضاً ستنسحب لنفاذ الذخيرة لديها، واشار التقرير أيضاً إلى قرار كلحي اغا بأنه سيعود إلى العراق في حال عودة الاستقرار إليها، نظراً لوجود أموال وأراضي العشيرة فيها. ينظر: (دلشاد م. صالح بابلا، موقف جريدة ميلَيت Milliyet التركية من الحركة الكوردية وثورة أيلول في العراق(1958-1963)، ص10 -11).
واستناداً الى ما تقدم فقد دخل المئات من أفراد عشيرة الريكان الى الاراضي التركية في شهري حزيران وتموز عام1961م بقيادة رئيس العشيرة كلحي آغا الريكاني(المتوفى في 7/12/1961م)، بعدها دخلوا الى العراق من جديد عن طريق قرية دشتان الحدودية – كاني ماسي – جبل سر العمادية – العمادية.
وبعد اشتداد القتال بين الحركة الكردية والجيش العراقي في سنة 1963م والهجمات العنيفة التي شنها الجيش العراقي في أعقاب حكومة البعث الاولى في شهر حزيران عام 1963م، هاجر قسم آخر من عشيرة الريكان الى تركيا هرباً من جحيم القتال في صيف سنة 1963م وكان من ضمن اللاجئين: الملا نوري بن الخليفة عبدالخالق مع أفراد أسرته، فلحق به أخوه الاصغر منه سناً (عبدالحميد)، حيث دخلوا القرى الكردية الملاصقة للحدود التركية مقابل قرى عشيرة الريكان، وبعد دخولهم الى تركيا قامت الحكومة التركية بادخالهم الى الاراضي العراقية من جديد عن طريق المعبر الحدودي الواقع على نهر الهيزل قبل إنشاء المعبر الحدودي في إبراهيم الخليل، حيث دخلوا منها الى قرية بيدار المسيحية الكلدانية التي كانت واقعة آنذاك على مسافة عدة كيلومترات غرب مدينة زاخو والآن تقع ضمنها كإحدى محلاتها، وبعد عملية استقرار مؤقتة في بعض القرى الواقعة على طريق زاخو – الموصل انتقلوا الى الموصل حيث استقروا هناك.
وفي الموصل كانت تنتظر السيد عبد الحميد مهام جديدة وهي الدراسة لدى علماء الموصل لتكملة دراسته التي بدأها كما ذكرنا آنفاً في مدرسة قريته بيزلي الملحقة بمسجدها. وكما هو معروف فإن مدينة الموصل مدينة عريقة لها تاريخ حافل بكثرة مساجد وجوامعها ومدارسها العلمية، والعلماء والادباء والكتاب الذين تخرجوا منها، فدرس على يد عدة علماء عرب وكرد، منهم: العالم الكبير الشيخ بشير الصقال(1324- 1407هـ/ 1906 – 1986م)، والملا عثمان بن محمد الجبوري(1327- 1405هـ/ 1909- 1984م)، والملا عيسى اسماعيل حسن الخوركي المزوري(1322 -1433هـ/ 1914 – 2012م)، والشيخ حسن الآسيهي السليفاني، والملا نوري البيزلي الريكاني(1352ـ1428هـ/1933- 2008م) علوم اللغة العربية والاسلام: النحو، والصرف، والعقائد، وأصول الفقه، والتفسير.