27 ديسمبر، 2024 6:47 ص

ويجري بي دربٌ غريب على خطاي ، يُحاذي نهراً ، يحتضنه هدوءٌ عسجدٌ برغم اكتظاظه بالمشاة ذاهبين وآيبين . بدءاً ضمتني ساحة ٌ يتوسطها حوضٌ يُسقسقُ ماؤه علواً وسفلاً . وحوله زهرٌ مختلفُ الألوان ، كان مرمياً وسط المرأى ، لاشأن له بأحد ، ولا شغل لأحد معه سوى كونه بؤرة للنظرغيرعاديه . وعلى الميمنة محالُ بيع الألبسة والأطعمة ومقهى عريض الواجهة . تنتشرُ امامه موائدُ صغيرة محفوفة بكراس بيض . وثمة اناسٌ يجلسون : يحتسون القهوة أو الشاي ويُدخنون . وحواراتٌ تدور بين اثنين او ثلاثة من دون أن يرفع أحدٌ منهم صوته . كنت ماشياً وحسبُ من مبتدأ المرأى نحو أعاليه كما لوكنتُ جائلاً خلال صورة فوتغرافية . تجاوزت عدداً من الدكاكين على ميمنتي ، ثمّ تبدّى لي نهرٌأوطأ من رصيف الدرب ، كان ينحدرُ من الشمال ثمّ يتقوّس نحو اليمين مُحاذياً ظهور الدكاكين والمقهى . وبدت الضفة الأخرى غابة نخل متواشجة تضمُّ فراغاتُها اشجاراً واطئة ًذات ورق كثيف . لم ادقق النظر في معرفة كينونتها كونها بعيدة ، فالنهرُ عريضٌ ، كما أنّ ماءه يبدو ضحلاً صافيّاً بوسعي رؤية ُقاعه الرملي والحصوى وقنافذِ الماء تتحرّكُ ذهاباً واياباً، واعداد ٍ من الأسماك الصغيرة والمتوسطة الحجم . لكنّ المفاجأة التي صدمتني وصعقتني أن باصاً كبيراً ظهرمن أعلى النهر يجري فيه ثمّ يلتفُّ يساراً نازلاً مع مجراه , واستغربتُ أنّه لم يُثر عكراً في الماء ولا أثارَ رُعباً بين كائناته . ظهر ومضى واختفى من دون أن يحتفي به أحد . والأغرب أني كنتُ كلفاً بالنظر الى ميمنتي واغواني مرأى النهر العجائبي حتى أني لم التفت الى يساري لأرى معالمه التي ظلت مجهولة لي حتى ذي اللحظة . كان دربي طويلاً بعد ان غيّبت مبانٍ وجدرانٌ النهرَ الذي ظلّ مرمياً وراءها . غبئذٍ عدتُ الى مبتدأ انطلاقتي . الى الساحة والحوض .لكن توقفتُ امام بعض الدكاكين وانخرطتُ في عراك سلمي مع بعض اصحابها . كنتُ خلال ذلك أنظرُ في ما تعرضه من الأطعمة فقد غشيني الجوعُ ، وأردتُ تناول شيء من الطعام المعروض الذي يُباع كالأكلات السريعة . لكني خرجتُ من المعمعة بهدوء من دون انفعال . بيد أني التقيتُ امرأة في الخمسين كانت تجلس جوار النهر على كرسي وامامها طاولة عالية عليها طبق يتوسطه بعضُ بقايا طعام . سرتُ الى جوارها ولم التفت اليها الا أنها بادرتني : / تبدو غريباً فمن أين أنت ؟ / ليس من أيّ مكان ، مجرد عابر أخطو في ممرات أحلامي ، أجبت ُ / استغرقت في الضحك حتى دمعتْ عيناها ، نهضت وغابت لحظة ثمّ عادت حاملة كرسياً وضعته قرب كرسيها ، ودعتني الى الجلوس . فلبيّتُ طلبها . كنتُ أشعرُ بالتعب ، وتيبّس حلقي . بعد قليل جاء العاملُ حاملاً صينية فيها كوبٌ من الشاي وصحنٌ ينطوي على بعض المعجنات .  شكرتها . كان وجهها مألوفاً لديّ ، وكم حاولتُ أن اتذكّرها ، وأين التقيتها بيد أني أخفقت ، واحجمتُ عن السؤال . كنا نطلّ على النهر الذي مرقه باص قادمٌ من الجهة المعاكسة . خجلتُ من السؤال لئلا تتهمني بالجهل على الرغم من غرائبية المشهد وندرة حدوثها . بيدَ أنّها اوضحت لي : / هي مركبات برمائية تجري على اليابسة وفي مياه النهر . والنهرُ عميقٌ صاف لكنه مخادع يبدو لناظره  ضحلاً . صفاؤه اللامتناهي هو الذي يوقعنا في الوهم … . ولي بيتٌ على الشارع ، نوافذ ُه وشرفته العريضة تُطلّ على النهر . ، واجملُ اللحظات للتأمل هي الصبح وقبل الغروب : أفقُ المساء يشتعل يكادُ يحترقُ ويُحرق سعفات النخل . والصبحُ حين يهلّ علينا يتمرّغُ بقدميه في النهر ويفضح كائنات الماء اللامرئية. وفي كلتا الحالتين يتورمُ حلقُ الصباح والمساء بزقزقة العصافير .. كانت تسألني وأنا أجيبُ والسؤالات وجواباتها ما كانت عقلانية ، وتذكرتُ اني مررتُ بذات الأمكنة والدرب خلال احدى سفراتي الى اسبانيا ما عدا النهر . ربّما كان ذلك في غرناطة اوقرطبة او اشبيلية . هناك كانت الدروب ضيّقة ونظيفة هادئة على الرغم من اكتظاظها بالمشاة . لكن كلّ احد ماض في طريقه سواء أكانوا فرادى أم جماعات . وسمعتُها تقولُ : / لقد وفد كثير من المشرقيين الأجانب الى بلدنا ، لم يتعوّدوا بعدُ على معطيات عاداتنا وتقاليدنا . يحتاج ذلك الى وقت . فأنتم ما زلتم تظنون انفسكم على حق . ولا تعترفون بالقصور الثقافي ./ هززتُ لها رأسي موافقاً وأنا أزدرد قطعة من الكيك ، واحتسي حسوة من الشاي . طالت جلستنا وأشرف النهار على الذبول ، ودعتني الى أن نلتقي ثانية بعد اسبوع في بيتها أو في هذا المكان . هززتُ لها رأسي موافقاً ، ثمّ غادرتها ، ولم يزل دفءُ كفّها يتسعرُ داخل كفي . كان لونُ المساء ارجواناً أوعتاماً او ضباباً ، واضواء المصابيح تضجّ من حولي . بل كانت خطاي تتعجلّ في ترك هذه اللوحة ألتي رمت معالمها في طريقي . لكني أسفتُ كثيراً على كوني غير مستطيع بأيّ حال أن ألبّي طلب تلك المرأة لنلتقي ثانية وفي ذا المشهد بالذات . هي لا تعرفُ أني عابرُ ازمنة وأمكنة تلجُ بي أحلامي في دهاليز مستحيلة حيناً ومعروفة بالنسبة اليّ أحياناً ولن تتكررَ كرّة ً أخرى. لكن هذه الصورة المنطوية على كلّ ما رأيتُ تظلُّ معي من دون أن انساها .
بيد أني غشيتُ ذي المدينة ثانية ، فلم اجرِ في دروبها ولا في أسواقها ، بل كنتُ فوق سطوح متلاصقة لا يفصل سطحٌ عن آخر سوى سياج واطيء . والغريبُ انّ بعض السطوح تحوّلت الى حدائق صغيرة تكتظ بشجيرات الورد والريحان . لم يقع نظري على شجرة عالية ، على الجهة اليمنى كان النهرُ لم يزل يسترخي كما رأيتُه قبلاً ، ولا أدري كم سطحاً عبرتُ . كنتُ أرى بعض ساكني البيوت يتناولون فطورهم على سطوح بيوتهم ، والأغربُ أن لا أحدَ اكترث بي أو اعترض على اقتحامي منازلهم . كأني بها ممرّ ثان يُضاهي الشارع والدرب . في أحد السطوح رأيتُ المرأة الخمسينية ، كانت تحتسي الشاي بعد أن فرغت من فطورها الصباحي . رمقتني بنظرة لا مبالية كمَنْ لا تعرفني أبداً . وددتُ لو اقتربُ  منها واسلم عليها بيد أنها تجاهلتني ، لذلك واصلتُ سيري قافزاً اسيجة السطوح المُتبقية. في السطح الأخير توقفتُ كيف أنزل وأخرج الى الشارع ؟ لم يكن ثمة َسياجٌ، بل تمرأى لي سلمُ خشب عالٍ اسعفني على النزول . أحسستْ أنّ جولتي كانت جزافية عشوائية بلا معنى . لكنها تركت لديّ انطباعاً لن أنساه . فقد صافحت عيناي ألواناً من الزهور والشجر النادر لا قبل لي بها أبداً . وليست لها اسماء في قواميس النبات . وحدي مَنْ تمتع برؤيتها . كما أني لم آنسْ اعتراضَ اصحابها على تطفلي العبثي هذا. بل ، سلامٌ وأمانٌ ولا مبالاة حجرية . أعادني الشارعُ ثانية الى الساحة والحوض المائي والمقهى حيثُ انطلقتُ منها . ترى ما الذي اعطتني جولتي هذه من دروس ؟