وصفه أول رئيس لروسيا،قبل انفراط عقد الاتحاد السوفيتي، بالمهرج.
لكن بوريس يلتسين،استفاد من خدمات فلاديمير جيرينوفيسكي في جعل مجلس الدوما( النواب) الروسي سيرك؛ يوافق دون جدل على السياسات والبرامج الاقتصادية التي حولت روسيا الى إحدى جمهوريات الموز، حقبة تسعينيات القرن الماضي.
وكان جهاز أمن الدولة السوفيتية( كي جي بي) اختار فلاديمير فولفوفيتش اديلشتاين ( جيرينوفيسكي)، من بين المتعاونين، لتأسيس حزب( ليبرالي) بعد ان قرر غورباتشوف الغاء المادة السادسة من الدستور السوفيتي، وتنص على الدور القيادي الأوحد للحزب الشيوعي السوفيتي، بما سمح بتأسيس أحزاب ومنظمات إجتماعية، وصار حزب خريج معهد أسيا وأفريقيا، فالوديا، ابن المحامي ايدليشتاين، في طليعتها .
وقبل ان ينهي دراسته في قسم اللغة التركية، بالمعهد الشهير، غيّر فلاديمير لقبه الى جيرينوفيسكي مستعيرا لقب الزوج الأول لوالدته.
وحين أصبح نائبا؛ أطلق تصريحه الشهير ” انا من ام روسية واب محام” فصارت مثلا يضرب عند محاولة إخفاء الانتماء العرقي في الجمهوريات السوفيتية التي كانت تلزم مواطنيها،إشهار الهوية القومية في وثيقة الاحوال الشخصية.
لقد اتقن فلاديمير دور المهرج الى أبعد الحدود؛ ونفذ بحرفية عالية تعليمات رؤسائه في طرح شعارات قومية متشددة، لامتصاص اكبر قدر من الجمهور المصاب بخيبة أمل جراء إنهيار الدولة العظمى، ومزج النداء القومي بالشعارات الليبرالية في مسعى واضح لتشويه سمعة التيارات الليبرالية الموالية للغرب والتي انعشتها ” بيريسترويكا” غورباتشوف وسياسة” القيم الإنسانية المشتركة” البديلة عن الايديولوجية الشيوعية، والدخول في شراكة مع الغرب.
وذهب ” ابن المحامي” أبعد حين اخذ يهاجم اليهود،ويلعب على وتر نفوذهم في الحياة السياسية والاقتصادية والإعلامية السوفيتية والروسية، ولم يتردد عن تقليد حركات الفوهرر، دون استعارات صريحة، لكن النقاد المسرحيين، قبل خبراء السياسية، اكتشفوا الايحاءات الخفية” للزعيم” الذي تجرأ في اكثر من مناسبة على مهاجمة إسرائيل، ليحصل مقابل ذلك على كوبونات برنامج ” النفط مقابل الغذاء” وعلى هدايا مجزية،من بغداد،التي كان يزورها حقبة الحصار عبر الاردن، واصبح مالكا لعقارات كبيرة، اشتراها بسعر بخس ، ” الزعيم القومي” كما نعتته الصحافة الغربية، وصارت الكنية، جواز مرور الى قلوب “الثوريين” العرب، وبعضهم يطوف على ماء الصرف الصحي! وأغدق عليه العقيد القذافي، املا في إنتشار الكتاب الأخضر، حسب الوعد.
وحين عجزت الحكومة العراقية، عن تسديد بدل إيجار المدرسة العربية الاولى في موسكو، وأول مدرسة عراقية في اوروبا الشرقية، كانت قد تاسست في ستينات القرن الماضي؛ تبرع ” ابن المحامي” ببناية من العقارات الكثيرة التي استحوذ عليها بفضل سياسة الخصخصة،وتعتبر أكبر عملية نهب لممتلكات الدولة السوفيتية في التأريخ، باعتراف محافظ موسكو يوري لوجكوف، الذي لم يقصر هو وزوجته؛ يلينا باتورينا في الإثراء على حساب جياع الشعوب السوفيتية.
ما ان أحتل التحالف الانغلوسكسوني العراق، وسقوط نظام صدام حسين، حتى تغيرت الموجة، وتنّكر جيرينوفيسكي للعراق والمدرسة التي علمّت، وتخرج فيها، الاف الناطقين بالعربية على مدى عقود، فانتزع المبنى بالقوة من ادارته العراقية، وختمت الشرطة بالشمع الاحمر المبنى، وطردت التلاميذ والمعلمين.
ولم يشفع للمحامين، عقد البيع والشراء بين سفارة جمهورية العراق في موسكو و” وابن الروسية” الذي أعتبره مزورا بجرة قلم في احدى اقذر عملية نصب واحتيال، يجيدها البهلوان.
حين سالت غينادي يناييف ، نائب رئيس الاتحاد السوفيتي، خلال مقابلة نشرناها على اجزاء أواسط تسعينيات القرن الماضي في ( الراي الاردنية) لماذا وقع الاختيار على جيرينوفيسكي بالذات لتزعم أول حزب( معارض) مواز للحزب الشيوعي، اجاب مقهقها:
” في اجتماع المكتب السياسي، لم نجد مرشحا أفضل،في قائمة جهاز أمن الدولة، افضل منه لانه يتمتع بمواهب خطابية وقدرة على اللعب؛ حيثما تميل الرياح”.
لم يخيب ابن المحامي، الآمال المعقودة عليه، سواء في الشهور الأخيرة من عمر الدولة السوفيتية المغدورة، او حقبة يلتسين، وما أعقبها من نشاط؛ اقام خلالها ؛ فلاديمير جيرينوفسكي؛ الدنيا، ولم يقعدها، وحقق نتائج باهرة في الحط من سمعة الشعارات القومية، وتحويل الأفكار الليبرالية الى مادة للتندر؛ ليصبح مجلس الدوما، حلبة لمعارك جيرينوفسكي، تنهال خلالها قناني الماء والأقلام، والاقداح، والأحذية على رؤوس النواب الخصوم، ولم يسلم من اعتداءاته حتى ( النائبات)؛ وقد تعرضن للضرب ونتف الشعر على يد “الزعيم القومي” وتلك نوائب الديمقراطية!
كان الراحل، متطرفا في كل شيء؛ فقد دعا الى ” الاقتصاد” في الفحولة، وأقترح سن قانون يجيز للرجل مواقعة الأنثى، اربع مراتٍ في العام فقط، بهدف الإنجاب، وللحفاظ على قوة الرجال لصالح الانتاج والعمل. بدلا من تبديدها في الامتاع والمؤانسة!
لكن ” الزعيم” كان يشاهد في حمامات البخار مع باقة من الولدان والغلمان. وكأنهم حواري في لوحات عصر النهضة!
وطالب بتحديد نسل شعوب القوقاز للحفاظ على ” تفوق العرق الروسي واصحاب العيون الزرقاء” على حد قوله، ودعا الى حشر الشعوب غير الروسية في الجمهوريات، داخل أسلاك شائكة لمنعهم من التكاثر والتنقل والتمدد.
ولو ان شخصا اخر غير البهلوان القومي، قالها، لتمت محاكمته بجريمة تبنى العقيدة النازية. فعلى يد النازيين ظهرت معسكرات الاعتقال،والافران.
لكن ما يحق للزعيم القومي لا يجوز لغيره.
وخاض ” ابن المحامي” حربا شرسة ضد الحزب الشيوعي الروسي، ولم يفوت مناسبة الا وكال الشتائم لتاريخ ولأعضاء الحزب وقيادته، التي تعاملت معه وفق مبدا ” ليس على المجنون من حرج” مع ان رئيس الحزب غينادي زيوغانوف؛ على يقين بانه يتمتع بصحة عقلية حديدية، وإنه ينفذ تعليمات من يسعى لتحجيم دور ومكانة الحزب الشيوعي الذي وجد فيه كادحون يكتوون بالعوز والفاقة، أملأ في إصلاح الحال.
وتطرف فلاديمير جيرينوفيسكي في التعامل مع جائحة كورونا، وأسرف في تلقي جرعات اللقاح، على مدى عامين من الجائحة.
واعلن قبل دخوله المشفى بايام انه اخذ الجرعة الثامنة ” تحوطا”. وسرت شائعة ان احد الولدان سمم “المعلم” في احدى الخلوات. وصدّق الشارع الرواية، نظرا للتاريخ الحافل بالاثارة للمرحوم.
وكان آخر تصريح ناري أطلقه” الزعيم القومي” أواسط شباط المنصرم، معلنا ان القوات الروسية ستدخل أوكرانيا في الثاني والعشرين من الشهر وانها ستواصل الحملة حتى بولندا ودول البلطيق، وتفرض شروطها على حلف الناتو.
اخطا ” جيرك” الاسم السائغ للراحل شعبيا، في موعد العملية العسكرية بيومين فقط. ولم يتوقع مؤيدوه وخصومه، انه سيدخل، ردهة الانعاش بعد أيام، ليخرج منها محمولا على الاكتاف، في مراسيم تشييع فخمة، لم يحظ بها بعد الحقبة السوفيتية في قاعة قصر المؤتمرات غير يفغيني بريماكوف، الذي لعب أدورا مؤثرة وخطيرة في الحقبة السوفيتية، وبعدها، وكان على النقيض من ” ابن المحامي” اكثر شخصيات الدولة رصانة، سواء في موقع الصحفي المراسل لإذاعة موسكو وصحيفة برافدا في الشرق الاوسط، او مبعوثا لغورباتشوف الى بغداد لعدة مراتٍ، أو وزيرا للخارجية ورئيسا لجهاز المخابرات، وصولا الى رئاسة الحكومة ما بعد إعلان افلاس الدولة الروسية وعجزها اواسط التسعينات عن سداد الديون؛ فلجا يلتسين الى بريماكوف والحزب الشيوعي لانقاذ البلد من الانهيار الكامل.
كان بريماكوف، يغرق في الضحك،وهو يستمع الى تصريحات “جيرك” فقد كان رحمه الله يعرف
” القدر وغطاه”.
اذكروا محاسن موتاكم!