شاطيء الأفراح !

شاطيء الأفراح !

قصة قصيرة

خاص : بقلم – عدة بن عطية الحاج (ابن الريف) :

داهمت الخطوب “مروان” ودخلت عليه من كلّ باب، ولم يجد موئلاً للصبر والسلوى سوى ذلك الشاطيء المهجور الذي يُبعد عن منزله بضع أمتار، كان “مروان” يتيم الوالدين؛ يعيش مع أخته الكبرى المقعدة الكسيحة، والتي لها موهبة عظيمة في العزف على آلة “الكمان”، كانت تعزف ألحانًا حزينة كئيبة وتُرتّل أغاني سوداوية تُعبّر فيها عن أحلام الطفولة التي ضاعت بين أنياب الشقاء والقهر الاجتماعي، كانت “سوسن” بالرغم من إعاقتها فتاة فائقة الجمال شعرها بني كستنائي؛ وعيناها تميل إلى الإخضرار كأنّها زبرجد قُدّ من عقيق، وكان شعرها ناعمًا طويلاً أسودًا غربيبًا، في عينيها إشراقة الفجر الضحوك، كانت “سوسن” فتاة طموحة، ولكنّ ذلك الحادث الأليم الذي وقع لها مع والديها في تلك السيّارة المشؤومة جعلها تُصاب بالشلل الكلّي؛ لأنّها أصيب بكسور في عمودها الفقري، أمّا والداها فرحلا إلى العالم الآخر في ذلك الحادث الكئيب.

عاشت “سوسن” مع أخيها “مروان” في منزل مهجور، ولكنّه قريب من الشاطيء الذي يطلّ على مدينة الأفراح، أرادت “سوسن” أن تذهب مع أخيها “مروان” وتركب معه ثبج ذلك البحر العجاج المتلاطم الأمواج، ولكنّ مرض الشلل الكلّي أقعدها هي مع أخيها في ذلك المنزل المهجور، وصارت “سوسن” لا تُفكّر إلاّ في أخيها “مروان”، تُريد منه أن يذهب إلى مدينة الأفراح لكي يلهو مع أترابه ويمرح مع أقرانه، إذا ذهب “مروان” هناك سيسلو أحزانه لا محالة.

ذات يوم مشرق أخذ “مروان”؛ أخته “سوسن”، إلى شاطيء الأفراح، قال لها وهو يدفع كرسيّها المتحرّك إلى الأمام: يا أختاه اليوم سيخاطبك نسيم هذا البحر وسيبعث في قلبك الفرح والسرور، سيجعلك تفرحين بيومك هذا السعيد وتنسين أيّام وليالي الشقاء التي مرّت عليك.

ـ قالت “سوسن” لأخيها: يا أخيّ، إنّ رؤية هذا البحر العجيب تجعل فؤادي يمتلأ سعادة وحبورًا، أشعر كأنّني حورية من حوريات هذا البحر مسخت إنسانة لكي أصاب بالشلل الكلّي في ذلك الحادث الكئيب، فقدت أبي الذي كان يحملني على كتفيه ويتجوّل بي في الحقول البديعة ويصطاد لي العصافير الجميلة، وتعلّمت الغناء من ذلك البلبل الذي كان يشدو على شجرة السرو القريبة من منزلنا المهجور، وفقدت أمّي تلك الريحانة الناعمة، كانت تهدهدني وأنا في المهد بأغانٍ تجعل الحليم حيرانًا والصاحي سكرانًا، كان لها صوت فيروزي ناعم ينساب بين الأثير كأنّه صوت حوريات قادمات من الجنّة، كانت أمّي تقيس لي ملابس التفاؤل على مقاسها، وتنسج لي من الحرير أثواب الأمل المشرق الذي يطلّ على وجوهنا في كلّ صباح حالم، كانت أمّي هي أميرة قلبي، حبّها جلس على عرش فؤادي وتبوّأ منزلته الموعودة هناك، حبّ أمّي سكن في حشاشة فؤادي صارت هي دقّات قلبي التي تنبض بين الفينة والأخرى معلنة حبّها الأبديّ لأمّي، ماتت أمّي وما مات حبّها في قلبي، إنّها تعيش معي الآن بروحها الطاهرة الزكية.

ـ قال “مروان” لأخته: كفكفي دموعك السجام يا أخيّتي، دموعك غالية باهضة الثمن كأنّها اللؤلؤ والمرجان، لا تجعلي الأحزان ترسل سحبها الداكنة إليك، قاومي مطر الهموم بمطارية الصمود والتحدي، لقد عهدتك امرأة حديدية فولاذية الفؤاد، لا تستسلمي للصعاب، أنت فتاة طموحة ناجحة في حياتها، ولجت ميدان الفنّ من خلال تعلّمك العزف على آلة “الكمان”، كان الصرصور هو ملهمك الوحيد الذي جعلك تتقنين العزف على هذه الآلة الصعبة، صوت “الكمان” هو صوت كلّ حزين في هذا العالم، إنّه نداء الطفولة الذي يسري في أوصال كلّ طفل حالم بالسعادة في هذا الوجود، إنّه صدى لآهات كلّ طفل سرقت الأيّام والليالي سرّ طفولته وباعته في سوق المتاهة والضياع، صبرًا، يا أختاه، السعادة ستأتي إلينا ولو حبوا على ركبها، سيأتي النسيم ليواسيك ويناجيك في يومك وفي غدك وفي ليلك وفي نهارك، فلا تحزني يا أختاه، للصبر طعم ومذاق حلوّ كأنّه الكرز في خريف نضوجه، ابشري ها قد جاء النسيم يختال في مشيته ضاحكًا كالفجر الضحوك حتّى كاد أن يترنّم ترانيم رومانسية حالمة.

ـ قال النسيم لـ”سوسن” وهو يخاطبها صامتًا عبر الأثير: يا صديقتي، لا تحزني وكوني صبورة كهذا البحر الهاديء في أيّام وليالي الصيف الحارّة، صفقي للرياح وتمايلي مع زخّات المطر وانشدي أغنية الأمل واعزفي بكمانك السحري ألحان الطفولة المخمليّة وغنّي أغنية السعادة الوردية البلّورية الناعمة، تعالي إلى عالمنا البحريّ وتعلّمي سرّ الحياة من حيتان الغد المشرق، غرّدي تغريدة البلبل الحرّ الطليق، أوقدي شموع الأمل في كهف قلبك المظلم المدلهم الخطوب، سيري على درب أمواج بحرنا وبالتالي ستصلين إلى جزر نسيان الهموم، وتسكنين هناك مع أخيك هذا الفتي الهمام الحالم الطموح الوديع، سلام يا صديقتي إلى أن نلتقي هناك، في تلك الجزيرة الخضراء التي تسرّ الناظرين وتطرب السامعين وتبعد عنك كلّ القالين.

ـ قالت “سوسن” للنسيم وهي تناجيه في لوح الخيال وتناديه من أعماق قلب الإنسانية الطافح بالمعاناة وبالأتراح الضبابية: يا أيّها النسيم العذب، يا بهجة الحياة ويا رونق السعادة، إنّي أناديك من برج السعادة العاجي الذي غاص في هذا البحر العميق الذي لا ساحل له ولا قرار، إنّي أحلم بأن أصبح حورية بحرية تعبد إله البحر “نبتون”، إنّي أريد أن أنتقل إلى عالمكم الرحب الفسيح، وأعيش مع البرمائيات إنّها جيوانات مسالمة، لا تؤذي أحدًا.

ـ قال لها النسيم: قدّمي طلبك إلى إله البحر “نبتون”، قدّمي له قربانًا بشريًّا، أرمي نفسك في البحر، إذا لفظك البحر هذا يدلّ على أنّ إله البحر “نبتون” قد قبلك في مملكته البحرية، رمت “سوسن” نفسها في البحر فابتلعها البحر ولم يلفظها إلى الساحل إلى يوم الناس هذا، وتحوّلت “سوسن” إلى أسطورة من أساطير “بابل” تتناقلها الأجيال كابرًا عن كابر، أمّا إله البحر “نبتون” فقرّر الانتحار والذهاب إلى العدم حيث لا وجود هناك.

تمت

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة