الإنسان يكون صحيحاً إذا كان على الحال التي خلقها الله عليها في بدنه وروحه، فإذا خرج عن الحال التي فطر الله العباد عليها اعتل بدنه واعتلت روحه، واحتاج إلى معالجة حتى يتعافى بعودته إلى الخلقة السوية وخير ما تعالج به الأمراض القرآن الكريم، وقد دل على أن القرآن شفاء نصوص من القرآن الكريم:
ـ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس، آية : 57). أي: من الشبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من دنس.
ـ وقال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾ (الإسراء، آية : 82). يقول تعالى عن كتابه الذي أنزل على محمد وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه تنزيل من حكيم حميد إنه شفاء ورحمة للمؤمنين، أي يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيع وميل، فالقرآن الكريم يشفي من ذلك كله.
ـ وقال تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ (فصلت، آية : 44).
والقرآن الكريم ينفرد بمعالجة أمراض النفوس والقلوب دون سواه وعملية إصلاح النفس البشرية أطلق عليها القرآن “تزكية النفس” وعملية إفساد هذه النفس سماها “بتدسية النفس” وأقسم الحق سبحانه وتعالى أقساماً سبعة في مطلع سورة الشمس على أن المفلح من زكى نفسه، والخائن الخاسر من دساها، قال تعالى: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا *وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس، آية : 1 ـ 10).
وقال في موضع آخر: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾ (الأعلى، آية : 14). وقال لموسى عندما أرسله إلى فرعون: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى﴾(النازعات، آية : 17 ـ 19).
ولما كان القرآن هو طب القلوب ودواؤها وبه تتحقق تزكية النفوس والأرواح، فإنه بمثابة الروح لأرواحنا والنور لبصائرنا : ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا﴾ (الشورى، آية : 52).
فقد وصف الله عز وجل الوحي بوصفين: الأول: أنه روح، والثاني: أنه نور، وبالروح تكون الحياة وبالنور تكشف الظلمات، ولذا فإن الله يحيي بهذا القرآن من ماتت قلوبهم وعميت بصائرهم بالكفر والضلال ” أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا” (الأنعام، آية : 122).
وأمراض القلوب التي أنزل القرآن شفاء لها نوعان: أمراض شبهات تجعل الإنسان في حيرة وقلق وضياع، وأمراض شهوات، فأمراض الشبهات مذكورة في مثل قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً﴾ (البقرة، آية : 10).
وأمراض الشهوات مذكورة في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ (الأحزاب، آية : 32).
وهذان النوعان من أمراض القلوب أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده، وشقاؤه في معرفته لربه واستقامته على طاعته، والبعد عما نهى عنه وحذر منه، إن أكثر أمراض النفوس تأتي من الشيطان والنفس الأمارة بالسوء فالشيطان يستعين على بلوغ غرضه من الإنسان بالنفس الأمارة بالسوء وليس من طريق للخلاص من الشيطان إلا بالالتجاء إلى الله وقد علمنا الله أن نلجأ إليه دائماً ونحتمي من نزغات الشيطان. (دراسات فقهية في قضايا طبية ، عمر الأشقر، محمد عثمان شبير، د. عارف علي عارف، 1/ 13)
﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ (المؤمنون، آية : 97 ـ 98).
وقال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ﴾ (الناس، آية : 1 ـ 6).
أ ـ من يذهب إلى أن النصوص عامة في أمراض القلوب والأبدان:
ويذهب جمهور علماء أهل السنة إلى أن النصوص المقررة لكون القرآن شفاء عامة في أمراض القلوب والأبدان، ولهذا الشفاء شروط لتحققه وفي ذلك يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: قال الله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الإسراء ، آية : 82).
والصحيح أن (مِنَ) هنا لبينان الجنس لا التبعيض، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ (يونس ، آية : 57).
فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدوار القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل ويوفق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه لم يقاومه الداء أبداً، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها، فما من مرض من أمراض القلوب، والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحماية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه. (زاد المعاد، 3 / 178)
ب ـ الأدلة على أن القرآن شفاء لأمراض الأبدان:
وعلى كل فسواء أكانت النصوص القرآنية المقررة لكون القرآن شفاء خاصة بأمراض القلوب أو شاملة لها ولأمراض الأبدان، فقد قامت أدلة كثيرة على أن القرآن شفاء لأمراض الأبدان، ومن هذه الأدلة:
ـ ثبت أن القرآن يطهر الأرواح ويباركها ويصلحها، وإذا صلحت الأرواح كان في صلاحها صلاح للأبدان، يقول ابن القيم: قد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفوس والطبيعة تعاونا على رفع الداء وقهره، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه، وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به، وجهاً له، وتنعمها بذكره وإنصراف قواها كلها إليه وجمعها عليه واستعانتها به، وتوكلها عليه أن يكون لها ذلك من أكبر الأدوية، وتوجب لها هذه القوة رفع الألم بالكلية. (زاد المعاد، 3/66)
ـ ثبوت معالجة الرسول صلى الله عليه وسلم بالرَّقي وإرشاد أصحابه إلى المعالجة به والرقية كما يقول ابن الأثير: العودة التي يُرقي بها صاحب الآفة، كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات. (النهاية في الغريب الحديث، 2 / 254)
ويقول القرافي في تعريفها: الرقى ألفاظ خاصة يحدث عندها الشفاء من الأسقام والأدواء والأسباب المهلكة، ولا يقال لفظ رقى على ما يحدث ضرراً بل ذلك يقال له: السحر.
والأحاديث التي تدل على مشروعية الرقي متواترة تواتراً معنوياً، فهي وإن اختلفت ألفاظها ووقائعها إلا أن كل واحد منها يدل على مشروعية الرقي.
وقد يقال: نعم صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم عالج المرض بالرقي، وأرشد أصحابه إلى المعالجة بها ولكن هذه في الرقية بغير القرآن.
والجواب على هذين من وجهين:
ـ إذا ثبت أن الرقي عامة ممّا يشفي من الأمراض والأسقام فإن كلام الله أفضل ما يقري به، لأن له من الخصائص ما ليس بغيره، وفي ذلك يقول ابن القيم ـ فيما نقله عنه ابن حجر العسقلاني: إذا ثبت أن لبعض الكلام خواص ومنافع فما الظن بكلام رب العالمين.
وقراءة القرآن من أنفع الأدوية للأدواء التي يسببها الجان، أو يكون له دخل في الإصابة بها، كتلبس الجان بالإنسان، والسحر والعين والحسد ونحوها.
ـ صح في الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم رقى بكتاب الله، كما صح أنه أقر من رقى بكتاب الله، ففي صحيحي البخاري ومسلم والموطأ والسنن لأبي داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث.
وفي سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ ويقول: «أعوذ بالله من الجان، ومن عين الإنسان». فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سواهما.
وصح في صحيحي البخاري ومسلم والسنن لأبي داود والترمذي أن رجلاً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رقى رجلاً كان سيداً في قومه من لدغة حية أو عقرب بفاتحة الكتاب، فشفاه الله وأخذ على رقيه أجراً، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأقره على رقيته وعلى ما أخذه من أجر على رقيته.
وأورد صاحب جامع الأصول حديثاً آخر رواه أبو داود ذكر فيه أن صحابياً رقى معتوهاً في القيود بفاتحة الكتاب فشفاه الله وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقره على رقيته وعلى ما أخذه من أجر عليها.
وممّا يدل على صحة التشافي بالرقي وأعظمها الرقى القرآنية أنه ثبت بما لا يقبل الشك أن الرقي ذات تأثير على أمراض الأبدان، وهذا أمر مشاهد في كل عصر ومصر، يقول ابن حزم: جربنا من كان يرقي الدمل الحاد القوي الظهور في أول ظهوره، فيبدأ من يومه ذاك بالذبول، ويتم يبسه في اليوم الثالث، ويقلع كما تقلع قشرة القرحة إذا تم يبسها جربنا ذلك ما لا نحصيه، وكانت هذه المرأة ترقي أحد دملين قد دفعا على إنسان واحد، ولا ترقي الثاني، فيبس الذي رقت، ويتم ظهور الذي لم ترق، ويلقى منه حامله الأذى الشديد، وشاهدنا من كان يرقى الورم المعروف بالخنازير، فيندمل ما يفتح منها، ويذبل ما لم ينفتح، ويبرأ. (الفصل في الملل والأهواء، 2/ 4)
وقد ثبت في صحيح الأحاديث أن الذين رَقوا بالقرآن شفى الله على أيديهم من رقوه. (دراسات فقهية في قضايا طيبة معاصرة، 1 / 17)
المراجع:
ملاحظة: استقى المقال مادته من كتاب: ” المواطنة والوطن في الدولة الحديثة المسلمة، للدكتور علي الصلابي، وقد اعتمد المقال في كثير من أفكاره على كتاب: دراسات فقهية في قضايا طبية، لعمر الأشقر ومجموعة من المؤلفين.
تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي.
دراسات فقهية في قضايا طبية، عمر الأشقر، محمد عثمان شبير، د. عارف علي عارف.
زاد المعاد في هدي خير العباد، محمد بن أبي بكر قيم الجوزية.
النهاية في الغريب الحديث، ابن الأثير.
فتح الباري في شرح صحيح البخاري، الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني.