21 يونيو، 2025 10:42 ص

مفهوم الإمبريالية بين الأمس واليوم

مفهوم الإمبريالية بين الأمس واليوم

خاص : بقلم – هيفاء أحمد الجندي :

انصب جهد “ماركس”، على تحليل آليات النظام الرأسمالي، للفترة التي سبقت صعود الإمبريالية، وصاغ نظريته الاقتصادية، حول الأزمات على قاعدة الرأسمالية الصناعية والتنافس الحر، ورأى بأن المكان الوحيد، الذي تُنتج فيه القيمة وفائض القيمة، هو كدح العمال في العملية الإنتاجية.

وقد برهن على إمكانية حدوث نمو اقتصادي، من دون الحاجة إلى المنافذ الخارجية إذ يمكن امتصاص الفائض، عن طريق توسيع السوق الرأسمالية.

بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه، هل يمكن حقًا تحقيق نمو وتجاوز أزمات الرأسمالية، من دون الحاجة، إلى المنافذ الخارجية ؟

من البداهة القول؛ أن الرأسمالية، وبحكم طبيعتها، هي نظام يتجه لإنتاج الفائض الذي لا يمكن استثماره، في توسيع وتعميق النظام الإنتاجي فقط، بل يحتاج إلى منافذ خارجية، خاصة وأن الرأسمالية، وكما أسلفت، تبحث دومًا عن فائض القيمة ولتحقيقه يتعين على الرأسمالي، أن يُحقق فائض الإنتاج، وهذا يعني، أن الرأسمالية تُنتج على الدوام فائض الإنتاج، الذي يتطلب التوسع، خارج إطار السوق المحلي وهذا النظام، المحكوم بقانون: “اتجاه معدل الربح إلى الهبوط”، يجد نفسه مضطرًا إلى التوسع الجغرافي، خارج الحدود القومية، لا رغبة منه في التوسع؛ وإنما لتجاوز نقص الاستهلاك، الذي يزداد تفاقمًا، في عصر الإمبريالية.

وما سبق ذكره؛ يؤكد صحة وجهة نظر، الاقتصادية الثورية؛ “روزا لوكسبورغ”، أن عدم وجود مستهلكين، لكل ما يُنتج من بضائع، داخل البلدان الرأسمالية، هو الذي يدفعها للبحث عن الأوساط الما قبل رأسمالية، أي المستعمرات، لتحقيق فائض القيمة معتبرة المستعمرات، ضرورة حياتية للإمبريالية، لحل التناقض بين القدرة على الإنتاج والقدرة على الاستهلاك، الناتج عن تناقض الرأسمالية الأزلي أي الطابع الاجتماعي للعملية الإنتاجية، والتملك الفردي لوسائل الإنتاج. لذلك لم تبحث “لكسمبورغ” عن الحلول للأزمات، ضمن إطار نمط الإنتاج الرأسمالي فقط؛ وهنا تكمن عبقريتها وتجديدها، عندما انكبت على دراسة مشكلة التوسع العالمي للرأسمالية والعلاقة بين التشكيلات الاجتماعية في المركز وتشكيلات المحيط؛ وبينت أنه يجري وفي موازاة إعادة الإنتاج الموسع، عملية تراكم بدائي ومن خلال هذه العملية، يتم تجاوز التناقض الدائم بين القدرة على الإنتاج والاستهلاك، وخلصت إلى أن فائض القيمة؛ لا يمكن أن يتحقق من دون منفذ خارجي غير رأسمالي.

ومع التوسع خارج الحدود القومية، تكون الرأسمالية قد انتقلت، من مرحلة التنافس الحر، إلى مرحلة الاحتكار وفي هذه المرحلة، كما بات معلومًا، يتم تجميع المشروعات والشركات ويتركز الإنتاج، والذي يمنحها القدرة على التنافس، فضلاً عن أنه وفي أوقات الركود، ومع احتكار الصناعة والتجارة، يزداد الاعتماد على رأس المال المصرفي، وتتحول المصارف، من دور الوسيط، الذي يُقرض النقود إلى هيئة احتكارية قوية، تُهمين على وسائل الإنتاج، ويُمثل هذا التحول من دور الوسيط المتواضع، إلى دور المحتكر، إحدى أهم العمليات الجوهرية لنمو الرأسمالية وتحولها إلى احتكارية إمبريالية.

ويتم الانتقال من بعدها، إلى مرحلة تدويل الإنتاج، وتصدير الرساميل وعملية التصدير هذه، هي التي تُميز مرحلة الإمبريالية، وتُعطيها سمة الطفيلية والتعفن؛ وفق تعبير “لينين”، وتحول الدول الإمبريالية، إلى دول ريعية، يتكاثر فيها عدد الذين يتعيشون من عائدات رؤوس أموالهم، الموظفة في الخارج، وعندها سوف تبدأ مرحلة التنافس بين الإمبرياليات، وصراعها على اقتسام المستعمرات، سيأخذ هذا الصراع، طابع الهيمنة السياسية والعسكرية المباشرة، على المستعمرات أو البلدان المُصنعة الضعيفة.

وستنتزع الاحتكارات المتنافسة، فائضًا ما أنفك يتزايد، من قوة عمل، أغلب العناصر الاجتماعية، في المستعمرات وأنصاف المستعمرات، وستبدأ مرحلة جديدة من التراكم، في النظام الإمبريالي، الذي سيفرض تقسيم دولي استعماري جديد للعمل قوامه، التحالف الطبقي، بين الاستعمار والطبقات المحلية وسينتج عن هذا التحالف نمط رأسمالي قائم على الملكية العقارية الكبرى، وستبرز طبقة جديدة من كبار الملاكين العقاريين المحليين، الذين سيوزعون الأراضي “للإيجار” على صغار الفلاحين، وهذا النمط من الرأسمالية، يُتيح امتصاص القيمة المنتجة والتي ستتحول إلى ريع احتكاري إمبريالي.

وهكذا تقوض الإمبريالية، البنى الما قبل الرأسمالية وتُعيق عملية انتقالها التاريخي إلى نمط رأسمالي مستقل، وهذا يؤكد فكرة الماركسي النمساوي؛ “أوتو باور”، بأن انتشار علاقات الإنتاج الرأسمالية، في المستعمرات والتي نشأت في ركاب الغزو الإمبريالي لا تؤدي إلى خلق عالم متجانس، بل تؤدي إلى خلق عالم ذو قطبين قطب المناطق الصناعية وقطب المناطق الزراعية، والذي يحكم العلاقة بين القطبين، هو قانون التطور اللامتكافيء، بين المراكز الإمبريالية، التي تُهمين على المجتمعات الفلاحية في الأطراف، وبناءً على علاقة اللاتكافؤ هذه، يجري تحويل خفي للقيمة والذي يُعبر عن نفسه، بوجود سوق عالمية للسلع والرساميل، وهي سوق مبتورة وفق تعبير؛ “سمير أمين”، لأنها قائمة، على حرية تنقل السلع والرساميل، دون قوة العمل، هذا جوهر “قانون القيمة المعولمة”؛ والذي كان لـ”سمير أمين” الفضل، باكتشافه والنتيجة ستكون، أجور غير متساوية، حتى إذا تساوت إنتاجية العمل، وتوزيع غير عادل والأمر الذي يُفضي إلى تسرع التراكم في المراكز، ويُعرقل حصوله في الأطراف.

لا ضير من القول، بأنه من المستحيل، تقديم تحليل واقعي للرأسمالية، بعيدًا عن إطار معالجة هذه التحولات، في مفهوم القيمة، المسؤول عن تحويل أسعار الإنتاج إلى أسعار احتكارية معولمة.

وفي هذا المقام؛ تحضرنا تساؤلات “سمير أمين”، كما وردت في كتابه (قانون القيمة المعولمة)؛ ماذا يقول “قانون القيمة”: إن المنتجات عندما تكون سلعًا، تمتلك قيمة وأن هذه القيمة، قابلة للقياس، ومعيار هذا القياس، هي كمية العمل اللازم اجتماعيًا لإنتاجها، وما الذي لا يقوله “قانون القيمة” ؟.. إن السلع يجري تبادلها، بنسبة قيمتها، أي العمل المباشر الحالي، في حين أن العمل الغير مباشر، هو عمل سابق متبلور على شكل أدوات الإنتاج.

لا غضاضة من القول، أن صيغ التخصص الدولي اللامتكافيء، والذي يعكس آلية تراكم بدائي، يعمل في صالح المركز، وهذه الآلية، هي المسؤولة، عن التفاوت، في جزاءات العمل وعلى استمرار التخلف في المحيط ، الأمر الذي أدى إلى تفاقم التناقضات الداخلية للتشكيلات الاجتماعية في المحيط، بمعنى أن: “تصدير الرساميل” ساهم في تعزيز القطاع التصديري، وبذلك تكون قد فرضت على المحيط، دور المصدر للمواد الأولية، والتي تُعتبر؛ من العناصر المكونة للرأسمال الثابت، وبأسعار رخيصة مقارنة مع الأسعار في المركز.

الأمر الذي أدى، إلى التقدم في القطاع التصديري، وتخلف بقية القطاعات، سيما وأن السوق المتولدة؛ عن تطور التصدير، هي سوق مبتورة ومحدودة تمخض عنها انخفاض الطلب على مواد الاستهلاك الجماهيري، في الوقت الذي جرى فيه تدعيم موقع فئات اجتماعية طفيلية كومبرادورية، تهتم باستهلاك منتجات البذخ التي تحتاجها هذه الفئة، الأمر الذي أدى إلى تسريع إندماجها في النظام العالمي، وإلى إفقار وتهميش الجماهير وتحويل صغار المنتجين والحرفيين إلى كادحين وإلى إفقار الفلاحين من دون بلترتهم.

ومن النتائج التي ترتبت على التطور التخارجي، الذي يضمن للأقلية دخلاً متزايدًا ضروريًا لإتباع أنماط الاستهلاك الأوروبية، أنه قوى من ريعية القطاع الذي يُنتج منتجات البذخ وعندها ظهرت آليات جديدة للسيطرة والتبعية التكنولوجية.

لا ضير من القول؛ بأن تطور الرأسمالية، في المحيط، سيبقى تخارجيًا ولم ينبع من نقص السوق الداخلية، ولكن من تفوق الانتاجية في المركز، وعلى جميع المستويات وهذه العاهة، أدت إلى تضخم القطاع الثالث، بشكل مفرط وتجلى في المركز، في صعوبة تحقيق فائض القيمة، وفي المحيط في نقص التصنيع وتقوية مواقع الريع العقاري، والنشاطات اللامنتجة كالتوظيف في القطاع العمراني.

وعلاوة على أن موجة الأرباح القادمة من المحيط، قد زادت من خطورة امتصاص الرأسمال الزائد، وكان الاقتصاديان البارزان: “باران” و”سويزي”، قد اقترحا عدة مخارج لحل أزمة الفوائض، وبحسب هذان الاقتصاديان، إن تصدير الرساميل، لا يُعطي حلاً لمشكلة الامتصاص، ولكنه قد يدفع إلى تفاقم الحالة واعتبرا؛ بأن التبذير والمصروفات العامة والإنفاق العسكري؛ تُساهم في حل مشكلة الامتصاص، و لكنها تُساهم في الوقت عينه، في تضخيم القطاع الثالث وحتى الحلول الكينزية، والتي أثبتت نجاعتها، في مرحلة خلت، حيث تتدخل الدولة وتجري تحسينات على البنى التحتية وتُزيد من إنفاقها العام، قد أثبتت فشلها مع تعمق أزمة الرأسمالية الإمبريالية وزيادة الأمولة والتمييل، وبرهنت، أن النظام الرأسمالي، لا يمكن إصلاحه؛ سيما وأن المبدأ النيوليبرالي الجديد يُناقض نظريات تدخل الدولة والتي أصبحت تُمثل مصالح الأملاك الخاصة، والشركات الاحتكارية وباتت مهمتها اليوم، تقتصر على خلق الظروف، التي تُيسر تراكم الرأسمال الربحي.

وثمة أزمة تراكم اليوم وفوائض من الرساميل، التي تبحث عن منافذ للامتصاص والحل الوحيد؛ كما دومًا الاستثمار في القطاع العقاري والتوسع العمراني؛ ولهذا التوسع اليوم بُعد طبقي صارخ، إذ يستلزم تدمير مدن وأحياء وأماكن سكن الفقراء والعمال والمهمشين، وكان المفكر الماركسي؛ “ديفيد هارفي”، قد أطلق على هذا التحول: “التراكم عن طريق نزع الحيازة أو الملكية” وبواسطة الدولة، التي دمرت وهدمت أحياء العمال والفقراء، كي تُقيم بدلاً عنها الفنادق والأبراج والمباني العامة، وهكذا يتم إعادة تدوير الفوائض لصالح الأغنياء.

في “الصين مثلاً؛ وحسب “ديفيد هارفي”، يُطرد الملايين من المساحات التي يقيمون عليها، ونتيجة لإفتقاهم لحقوق الملكية الخاصة، يمكن طردهم بسهولة من الأرض وبأمر من الدولة، التي تمنحهم مبلغًا نقديًا تافهًا، لمساعدتهم على المضي قدمًا قبل أن تُسلم الأراضي، للمطورين العقاريين، وبمعدل ربح عالي وغالبًا ما يكون، رد الطبقة الحاكمة الصينية، عنفيًا ووحشيًا، حيث تمت إزالة مجمعات ريفية في “الصين” وأقيمت مجمعات سكنية بدلاً عنها، وهذا هو الحال في “الهند”، أيضًا، حيث يُستخدم العنف ضد المنتجين الزراعيين، بيد أن الأخطر هو تدمير مجتمعات فلاحية بأكملها.

واعتبر “سمير أمين”، أن بروز ظاهرة الأمولة والتمييل والطفرات العقارية، هي مظهر من مظاهر شيخوخة الرأسمالية، وأن التوسع الرأسمالي، يقتضي تحطيم مجتمعات بأكملها، وخلق كوكبة من العشوائيات، لأن المنطق الذي يتحكم في النظام الرأسمالي ليس معنيًا بإشباع الحاجات الحقيقية، لمئات الملايين، الذين يُكابدون من الجوع والفقر المدقع، ولكنه معني بإضافة الملايين من الدولارات لأرباح رأس المال المالي وعملائه المحليين، والمتضرر الوحيد لرأسمالية الاحتكارات المعممة، هي الشرائح الاجتماعية الدنيا والهامشية، والتي يمكن اعتبارها قوة ثورية جديدة، لأنها تتحمل وزر السياسات النيوليبرالية الجديدة، وسياسة: “خصخصة الأرباح وتعميم الخسائر”؛ وهذه الفئة الاجتماعية الجديدة والتي أطلق عليها؛ “ديفيد هارفي”: “البريكاريا”، والتي تشمل العمالة الموسمية والمؤقتة؛ (بعدما انحسر وتراجع دور الإنتاج والتوظيف في القطاع الإنتاجي لصالح الأمولة والتمييل)، إضافة إلى العمال وهذه “البريكاريا” الإشكالية والغير منظمة، وفق تعبيره، يجب أن تُأخذ بعين الاعتبار وعلى محمل الجد، وعليها أن تنظم نفسها ضمن أطر تنظيمية جديدة وديمقراطية، كي تواجه الـ”أوليغارشيات” الاحتكارية والتي تتنافس فيما بينها وهذا الصراع بين الإمبرياليات القديمة والجديدة سوف يُعمق من حالة التفاوت والاستقطاب داخل كل بلد وبين المركز والمحيط، وسيما وأننا نعيش في ظل مرحلة يُعاد فيها إنتاج الكولونيالية (النيوكولونيالية)، ومن أوسع أبواب الهيمنة العسكرية ومن أبرز تداعياتها، تضخم أجهزة الدول وزيادة عسكرتها وفاشيتها.

غني عن البيان القول؛ إذا كانت اللينينية هي “القول الماركسي الجديد” لمرحلة رأسمالية عصر الإمبريالية، فإن الأمينية، نسبة للمفكر “سمير أمين”، هي: “القول الماركسي الجديد” لمرحلة رأسمالية “الما بعد إمبريالية” المتعلقة بقانون القيمة المعولم، والذي يعود الفضل لـ”سمير أمين” باكتشافه، بوصفه الشكل الجديد لـ”قانون القيمة” الماركسي.

ومن الطبيعي، أن تنعكس التغييرات التي طرأت على جوهر رأسمالية اليوم المالية على بنية الصراع الطبقي وأشكال التحالفات، إذ لم يُعد الصراع كلاسيكيًا كما عهدناه بين طبقتين متمايزتين، رجال الصناعة والطبقة العاملة، وإنما بين الفئات الشعبية المفقرة المهمشة والهامشية وبين الـ”أوليغارشيات” المالية الفاشية، وهذه القوة الاجتماعية الشعبية الثورية الجديدة، التي احتلت وستحتل الفضاء الثوري الاحتجاجي العام، ضد رموز السلطة المالية والطبقية، وسيقع على عاتقها استعادة المدن، التي استبعدت عنها وطردت منها، حتى يُعاد تشكيلها وهندستها وفق مصالح الرأسمال المالي والمضاربين العقاريين.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة