لم ولا اشك ابدا ، بنزاهة وحيادية ومهنية اي قاض عراقي ، وللقضاء في العراق ومنذ البدء تاريخ مشرف يليق بالعراقيين ورثة حمورابي الذي تعلم منه العالم فكرة التشريع . وحتى في العهد المظلم ابَان حكم البعث المنحل ، وما عدا المحاكم الخاصة والتي كانت تشكل خارج هيكلية القضاء ، كانت المحاكم تمارس عملها المعتاد بمهنية وحياد ، ولم يكن التدخل او التأثير على مهنية القاضي مقبولة ، لم تكن قرارات المحاكم خاضعة لغير سلطان القانون . واسوق هنا مثلا للتدليل على اقوالي وعزة النفس التي كان القضاة ولا زال يمتلكونها .
كنت امارس عملي ، محام في نهاية السبعينيات من القرن الماضي ، في احدى المرات وانا اترافع في دعوى مدنية امام القاضي النجيب (غازي النقيب ) السامرائي ، حاول احد كوادر البعث الرفيعة في دهوك الدخول الى قاعة المرافعة والتوسط لطرف في الدعوى ، فخاطبه القاضي بكلمات لازالت ترن في اذني ، قائلا له (( اخرج قبل ان اضعك في گونيه (كيس) وارمي بها الى الشارع )). ولابد ان زملائي المحامين يتذكرون الحادثة . وذات مرة شاهدت القاضي الجليل( وريا الجاف ) رئيس محكمة جنايات دهوك اواسط الثمانينيات وهو يطرد عنصرا خبيثا ينتمي للأمن ويقول له (( ايها المملوك ، لا اريد ان ارفع من شأنك بوضعك في السجن )) . وقلت عنصرا خبيثا حتى لا اعمم الحالة .
سيدي القاضي ، اوافقك تماما ان الدستور يعتريه الكثير من النقص والتناقض ، وانه بحاجة لتعديلات واضافات ، كما اوافقك اننا وبسبب النقص الدستوري دخلنا مرحلة الاجتهاد ، وسبق لي ان كتبت على صفحتي في الفيسبوك ، بعد اخفاق مجلس النواب في اختيار رئيس الجمهورية خلال المدة الدستورية ، انه حصل خرق للدستور،وان كل ما يقال ويحدث في مجلس النواب والمحكمة الاتحادية بشأن رئاسة الجمهورية ، بعد هذا الخرق، هو من باب الاجتهاد في غياب النص . والمجتهد قد يصيب وقد يخطأ ، وفي الشريعة الاسلامية وهي مصدر التشريع (( للمجتهد ان اصاب أجران ، وان اخطأ له أجر واحد )) وهكذ كان ، فالمحكمة الاتحادية اجتهدت بشأن استمرار رئيس الجمهورية في مهامه ، ولم تستند الى الدستور وانما عللّت قرارها بالضرورة والمصلحة العامة ، وكذلك في استبعاد السيد الزيباري من سباق الرئاسة ، فان المحكمة اجتهدت واضافت عرفا دستوريا الى شروط الترشح للرئاسة وهو (( لا حق لمن تم سحب الثقة منه لاي سبب من قبل مجلس النواب الترشح للرئاسة )) ، لكنها اي المحكمة لم تمنع السيد خالد العبيدي من ان يكون نائبا للسبب ذاته ، وسيكون قرارالمحكمة بشأن فتح باب الترشيح للرئاسة مجددا بعد انتهاء المدة القانونية اجتهادا ايضا ، لافتقارنا لنصوص دستورية او قانونية . وحسنا فعل المشرع الدستوري بالنص على قطعية قرارات المحكمة الاتحادية قطعا لخصومات ونزاعات قد تستغرق مددا طويلة وتشغل القضاء وتنهكه من غير حاجة .
كما ان تفسيركم للكتلة الاكبر التي يتزاحم عليها الكتل ، ويتسببوا في ضياع الجهد والوقت ، محل قبول ويجب ان تحدد بدقة في الدستور القادم .
سيادة القاضي زيدان : الامر الذي استغربه في دعوتكم او مشروعكم لتعديل الدستور ، هو عدم الاخذ بالحسبان ،ان بلادنا متعدد القوميات والطوائف ، وان الدستور و العراق الجديد مبني على مبدأ التوافق والشراكة بين المكونات ، دعوتكم لاصدار كل القرارات والتشريعات من مجلس النواب وفق الاغلبية المطلقة وفي مواضيع في غاية الحساسية والاهمية مثل انتخاب رئيس الجمهورية وتشريع قانون مجلس الاتحاد وقانون المحكمة الاتحادية وغيرها ، وبحجة تبسيط اتخاذ القرارات ، يحمل ابعادا سياسية خطيرة وينسف مبدأ التوافق والشراكة ويحرّم الكرد والسنة والتركمان والاشوريين من كثير من حقوق المواطنة ومن مشاركتهم في العملية التشريعية وانتخاب رئيس الجمهورية ، او يجعلها عديمة الجدوى ، ويحصرالحكم والتشريع بطائفة واحدة تشكل اغلبية المجتمع العراقي التي يسهل عليها ان تشكل اغلبية مطلقة في مجلس النواب ، بينما يتعذر عليها ان تشكل ثلثي عدد الاعضاء مما يجبرها على اشراك الشركاء الاخرين في التصويت اثناء العملية التشريعية .
لا اشكك في نواياكم الحسنة مطلقا ، لكني وددت ان اذكر المعنيين بالاثار الخطيرة لتفكك المجتمع العراقي وتعرض وحدته الوطنية للصدع في حالة وضع مقدرات البلاد بيد مكون وحيد . فالديمقراطية هي حكم الاغلبية مع ضمانات للاقلية .
اسجل الاحترام للمحكمة الاتحادية على اجتهادها الموافق للدستور بوجوب حضور ثلثي اعضاء مجلس النواب كشرط لتحقق النصاب في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية . قرار المحكمة الرصين هذا يجعل من النسيج العراقي اكثر تماسكا ، وبعكسه اتخاذ القرارات المصيرية بالاغلبية المطلقة التي يمتلكها مكون معين يفكك هذا النسيج .
لا يخفى على احد ، ان تحصين القرارات وتعزيزها ومنحها القوة التي تسحقها بالتصويت عليها من قبل اكثر ما يمكن من عدد النواب ، لها من الاهمية ما يفوق اهمية تبسيط وتسهيل تشريعها.
ولك جلّ التقدير سيادة القاضي فايق زيدان .