18 ديسمبر، 2024 11:52 م

مهنة الكتابة بين الإلهام والصنعة

مهنة الكتابة بين الإلهام والصنعة

ويليام زينسر ( 1922- 2015 ) كاتب ، وناقد ، واستاذ جامعي أميركي ، مؤلف 19 كتابا في موضوعات شتى (الموسيقى ، البيسبول ، الرحلات ) والعديد من الكتب المقروءة على نطاق واسع حول فن الكتابة . وفي مقدمتها كتابه الشهير” كيف تكتب جيداً ؟ ” الذي صدر في طبعات متلاحقة بلغت ثلاثين طبعة باللغة الإنجليزية في أميركا وحدها ، وبلغ إجمالي عدد النسخ المباعة منها اكثر من مليون ونصف المليون نسخة ، ناهيك عن ترجمتها الى العديد من اللغات الأجنبية .

ذات مرة دعي ويليام زينسر من قبل احدى المدارس الثانوية في ولاية ( كونيتيكت ) لمناسبة ( يوم الفن ) للحديث عن الكتابة كمهنة . وعندما حضر الى المدرسة اكتشف وجود كاتب آخر ، وجهت له الدعوة للحديث عن الكتابة كهواية مسلية. كان هذا الأخير طبيباً جراحاً ( يسميه زينسر ، الدكتور بروك ) ، بدأ بالكتابة منذ فترة قصيرة ، ونشر عدة قصص قصيرة في المجلات الأميركية . جلس الضيفان على المنصة جنبا الى جنب ، أمام قاعة غصت بالتلاميذ ، وأولياء الأمور، والمدرسين .

كان الطبيب الجراح يرتدي سترة حمراء صارخة ، ما أضفى عليه بعض المظاهرالبويهيمية ، التي يفترض أن يتسم بها الكاتب . ولهذا فان السؤال الاول كان موجها البه :

– ماذا يعني أن تكون كاتباً ؟

أجاب الجراح :

– ان الكتابة متعة لا تضاهى. عندما أعود الى البيت مرهقاً ، بعد يوم مُتْعِب في المستشفى سرعان ما اجلس الى طاولة الكتابة . وما أن أشرع بالكتابة حتى يزول كل التعب المتراكم. وتنسكب الكلمات على الورق بسهولة ويسر . أنه أمر سهل للغاية

أما زينسر فقد أجاب عن السؤال ذاته قائلاً :

– ان التأليف عمل شاق ، وليس ممتعا دائما . عمل ينجزه الكاتب وحيداً ، والكلمات نادرا ما تنساب على الورق مثل السيل المتدفق .

ثم سألوا الدكتور بروك :

– هل تنقح وتضبط ما كتبته ؟

– هذا ليس ضروريا على الاطلاق . ان العبارات في شكلها الأصلي تعبرعلى نحو طبيعي عن افكار الكاتب.

اما زينسر فقد علق قائلاً :

– ان تنقيح المسودة هو العمل الرئيسي للكاتب ، فالكتّاب المحترفون يعيدون الصياغة مراراً وتكراراً ، حتى الوصول الى صيغة مرضية

ثم سألوا الدكتور بروك :

– ماذا تفعل عندما لا يسير العمل بشكل جيد ؟

فأجاب قائلاً :

– بكل بساطة أتوقف عن الكتابة ، واضع ما كتبته جانباً لبضعة ايام او اكثر

حتى تسير الامور على ما يرام

اما زينسر فقد اجاب عن السؤال ذاته قائلاً :

– ان على الكاتب المحترف ان يضع جدول عمل لنفسه ، وان يلتزم به بكل دقة ، يوما بعد يوم . الكتابة فن وحرفة ، وان الشخص الذي يهرب من حرفته بسبب نقص أو غياب الإلهام ، يخدع نفسه ، ولن يكون قادرأ على كسب قوت يومه من كتاباته .

وسأل احد التلاميذ :

– ماذا لو كنت منزعجا أو مكتئباً ، هل سبؤثر هذا في نتيجة عملك ؟

قال الدكتور بروك :

– ربما نعم . اذهب لصيد السمك ، أو للنزهة

قال زينسر ردا على نفس السؤال :

– ربما لا . اذا كانت وظيفتك هي الكتابة كل يوم ، فيجب أن تعتاد على القيام بها مثل أي وظيفة أخرى .

وسأل تلميذ آخر :

– هل الاختلاط بالأوساط الأدبية مفيد للكاتب؟

رد الدكتور بروك ، بأنه مسرور بصورته الجديدة كشخص مبدع . وذكر عدة قصص عن لقاءاته بناشره ووكيله الادبي ، وقضائهم وقتا طيبا في مطاعم مانهاتن الراقية ، حيث يجتمع الكتاب والمحررون.

وقال زينسر :

– لكتاب المحترفون يعملون بجد وهم وحيدون ، ونادرًا ما يرون كتّابًا آخرين.

سئل زينسر :

– هل تستخدم الرمزية عندما تكتب؟

أجاب قائلاً :

– أحاول أن لا أفعل ذلك . طوال حياتي لم أتمكن مطلقاً من فهم المعنى الخفي لعمل فني واحد في الأقل ، سواء كانت قصة أو مسرحية أو فيلماً , وعندما أشاهد الرقص أو التمثيل الايمائي ، فأنا لا ادرك حتى ما يحاولون الايحاء به .

وصاح الدكتور بروك :

– أنا احب الرموز جدا

ووصف بحماس كيف انه يجد متعة بالغة في استخدام الرموز في كتاباته .

قد تبدو اجابات الكاتبين متناقضة من الوهلة الاولى . ولكنني أرى ان اجابتهما تكمل إحداهما الاخرى ، وترسم صورة شاملة لمهنة الكتابة .

زينسر يتحدث عن تجربته ككاتب غير خيالي ( نون فيكشن ) ، وهذا النوع من الكتابة يعتمد على سعة اطلاع الكاتب وثقافته ، وأنتقاء المعلومات ومعالجتها في المقام الأول ، ويختلف الى حد كبيرعن الكتابة الابداعية ، كالرواية والقصة القصيرة .

الدكتور بروك تحدث عن تجربته في كتابة القصص ، التي يلعب الخيال فيها الدور الأهم . ولهذا فان كلاهما على حق .

يعتقد البعض ان الكتابة عمل سهل يمكن ان يمارسه أيّ مثقف، ولكن عندما يوغل في تجربة الكتابة ويزداد وعيا بها ، فأنه يتأنى ويتباطأ في سكب كلماته على الورق بشكل تلقائي ، بعد ان يكتشف أن الكتابة الجادة ليس بالأمر الهين ، بل عمل شاق يزداد صعوبة ومشقة كلما ازداد خبرة الكاتب ومعرفته بأسراره بمضي الزمن ، وان الكتابة المزاجية السهلة ، غير الجادة ، تكون سطحية في معظم الأحيان ولا قيمة حقيقية لها ، لذا يجهد نفسه لكي ينتج نصّا جيدا وناضجا . ويدرك ان العمل الأبداعي كدح ومعاناة وعملية بناء تحدث على مهل ينجزها الكاتب وحيدا في خلوته

النجاح في الكتابة سواء كانت خيالية او غير خيالية يعتمد على عاملين اساسيين – الموهبة، والعمل الدؤوب المنظم . الكاتب الجاد لا يكون راضيا عن عمله ابدا . ويعتقد ان عمله غير مكتمل وغير جيد بما فيه الكفاية ، ويحلم بمستوى اعلى مما يستطيع ، وهو لا يحاول ان يكون افضل من أسلافه أومعاصريه ، بل أفضل مما هوعليه الآن . ويتعلم الكتابة على نحو أفضل يوما بعد يوم . ويتعلم من أخطائه . هذه هي الطريقة الوحيدة لتعلم الكتابة الجيدة .

الهام وصنعة

يقول الكاتب الفرنسي ستندال (1783- 1842م ) : ” لم أبدأ الكتابة الا في عام 1806 ، حين احسست في نفسي العبقرية . لو كنت قد افضيت الى انسان راجح العقل بخططي الأدبية ونصحني : ” اكتب يوميا لمدة ساعتين ، سواء كنت عبقريا أم لا ” عندئذ لم اكن قد اهدرت عشر سنوات من حياتي في انتظار الألهام”.

مقولة ستندال صحيحة الى حد كبير ولكن لا بد من هاجس يحرك العملية الأبداعية كلها من بدايتها. ان بذرة الكتابة أو النص وشحنته الأولى، قد تأتي المبدع في أي وقت، وفي أي مكان، وليس في موعدٍ محدَّد ، أوفي طقوس معينة، ثم بعد ذلك يأتي دور الصنعة في تعديل النص وتهذيبه وتشذيبه وصولا الى صيغته النهائية .

وبصرف النظر عن الأسم الذي نطلقة على ( الهاجس ) أو ( الدافع ) الذي يقف خلف احساس الكاتب الداخلي ، أعتقد أن من الصعب أن يبدأ الكاتب بالعمل اذا لم تكن ( فكرة ما ) قد نضجت في ذهنه ، واستولت على تفكيره ويتلهف للتعبير عنها وتجسيدها.

يقول فكتور هيجو :” ان الإلهام هو بمثابة الطائر الذي يخرج من البيضة ، فلو لم يتم إحتضان البيضة ، والرقاد عليها ، لما أفرخت وخرج منها الطائر . ”

والحق ان لكل كاتب طريقته في العمل ، منهم من لا يبدأ العمل الا وقد استحضر في ذهنه فكرة ما ، وآخر يجلس الى منضدة الكتابة وهو خالي الذهن من أي أفكار مسبقة . ولكن تجارب كبار الكتاب تثبت أن 90% من الكتابة الأبداعية صنعة يتم أتقانها بالمران والممارسة الطويلة ، والشخص الذي يهرب من عمله لعدم وجود ( الهام ) يخدع نفسه بنفسه .

وقد عرف الكاتب الأيطالي البرتو مورافيا ( 1907 – 1990م ) مورافيا بأنضباطه الصارم . ويقول في هذا الصدد : ” منذ فترة طويلة جدا ، وانا اكتب كل صباح بالطريقة نفسها التي انام فيها وآكل يوميا . لقد أصبحت الكتابة جزءا عضويا في ايقاعي البيولوجي . ”

قال الروائي التركي أورهان باموق في محاضرة نوبل (2006) : ” إنّ سرّ مهنة الكاتب في نظري لا يكمن في إلهام مجهول المصدر، بل في المثابرة والصبر. ويبدو لي أنّ التعبير التركي الجميل “يحفر بئرا بإبرة ” قد اخترع من أجلنا ، نحن معشر الكتاب.”