قبل ثلاثة أيام شاهدت فيلم ” أصحاب ولا أعز”، شاهدته بدافع الفضول إثر ردود الفعل المتفاوتة التي حفلت بها وسائل الإعلام و النقاش الحامي الوطيس الذي دار على وسائل التواصل الاجتماعي مما أعطى انطباعاً لدى المتابع وكأن هناك فتحاً في عالم السينما، فهل كان كذلك؟! وأين المشكلة؟ ولماذأ الضجة المفتعلة في مصر دون غيرها؟
الفلم هو النسخة العربية للنسخة الأصلية الإيطالية من بين نسخ عالمية عديدة وبلغات مختلفة انتجته “نتفليكس”، كان عنوان الفلم في الأصل بالإنكليزية Perfect Strangers وبالإيطالية “Perfetti sconosciuti”وتعني “غرباء تماماً” وهو باكورة انتاج نتفليكس العربية ومن إخراج اللبناني وسام سميرة ونخبة من الممثلين والممثلات العرب أغلبهم من لبنان وأبرزهم نادين لبكي وعادل كرم وجورج خبّاز، والنجمة المصرية الوحيدة منى زكي، والأردني إياد نصّار..
يبدأ الفيلم في وليمة عائلية لمجتمع مخملي برجوازي ذي ثقافة نمطية بالحديث المُطعّم بالكلمات الأجنبية حيث الطعام والخمر والخوض في مشاريع مستقبلية بحثاً عن المال والجاه..وغلبة الثقافة اللبنانية المنفتحة أكثر على طراز الحياة الغربية، ولتأكيد الحضور المصري من باب التنويع جاءت العائلة المصرية بطبخة الملوخية بالأرنب..! وكسراً للملل اقتُرِحت لعبة ترك الموبايلات على المناضد لقراءة الرسائل والاستماع الى النداءات وما يكتنفها من مواضيع جهاراً وهو أمر ألزم الجميع وكان المقرِر هو الزوجات! ومن هنا أميط اللثام عن عالم سريّ يمثل شبكة من العلاقات الجانبية أو الخيانات الزوجية، وهو أمر لم يكن بيت القصيد من لدن المحتجين من المشاهدين الذين فاق سخطهم سخط الزوجات على العلاقات المثلية التي نُظر اليها كطامة كبرى! وفي الحقيقة تبدو لعبة الموبايلات الجزء الرخو في الحبكة الفنية لأنها تفتقد تماماً للمنطق العملي، فلما كان الرجال معرضون للفخ فعلام يوافقون إذن؟!
ولكن السؤال الأهم هل مثل هذا الفلم سابقة خطيرة في السينما العربية التي تتسيدها السينما المصرية؟ ألم تطرح الرواية العربية المثلية الجنسية بطرفيها الذكوري والانثوي؟! فلا بدّ إذن من مسح سريع.
يعتبر نجيب محفوظ الرائد في طرح إشكالية المثلية الذكورية في زقاق المدق والجزء الأخير من الثلاثية وأعني به ” السكرية”، وسعد الله ونوس ” طقوس الإشارات والتحولات” وغادة السمان من أوائل الرائدات في طرح المثلية الذكورية في “بيروت 75″، والنسوية في أحدى قصصها القصيرة، ونجد أن نزار قباني شاعر المرأة والحب، يعالج المثلية النسوية شعراً في “القصيدة الشريرة”، هاكم بعضاً منها:
مطر مطر وصديقتها معها، ولتشرين نُواحْ
الذئبة ترضع ذئبتها ويد تجتاح وتجتاح
وحوار نهود أربعة تتهامس والهمس مباح
كطيور ِبيض في دغل تتنافر .. والريش سلاح
حبات العقدين انفرطت من لهو، وانهدّ وشاح
أشذوذ يا أختاه إذا ما لثم التفاح التفاح
لقد ذاعت رواية محمد شكري رغم محدوديتها الفنية وبساطة أسلوبها القريب من الاسلوب الصحفي، ذاعت للبوح الذي يحمل صدقيته وتعدد أنماطه المثلية بما في الممارسات التي تتضمن نزوعا مثلياً بيدافوليا!! وهناك شبه موجة من الروايات التي تتضمن مشاهد مثلية لاتني تزداد منها: “حجر الضحك” لهدى بركات، و “رائحة القرفة” لسمر يزبك، “شارع العطاريف” للسعودي عبد الله بن بخيت، و “أنا هي أنت” و “أنا هو” لإلهام منصور، و ” الدرس الأول” لمحمد ديبو، وفي العراق تضمت بعض روايات عالية ممدوح لممارسات خفية عن المثلية الانثوية.
أما في السينما فنجد هناك جذاذات مثلية وأحياناً تقترب من الوضوح في أفلام يوسف شاهين: “اسكندرية ليه” عام 79، و”حدوثة مصرية” عام 82، ” اسكندرية كمان وكمان” عام 90.. وكذلك في فلم “عمارة يعقوبيان” إخراج مروان حامد 2006عن رواية علاء الأسواني.
ما أود أن اخرج به هو أن الممارسات المثلية موجودة في المجتمع وعلى نطاق لايقل عن وجودها في الغرب، إلا أن التناول مختلف تماماً، ففي معظم الروايات العربية يعاني المثلي الذكر من النبذ واعتباره مريض، مارق عن الدين يستوجب إقامة الحد عليه (القتل)، وترافقه النظرة الدونية خاصة إذا كان الطرف فيه سلبياً، بينما في العرف الشعبي ومع التركة العثمانية يعبرعن الفاعل في العلاقة كرمز للرجولة والسيطرة على الآخر! (عالج الدكتور علي الوردي هذه الظاهرة في طبيعة المجتمع العراقي).
ولكن التأثيرات الثقافية في السنوات المتأخرة وبفعل الروايات والأفلام والاحتكاك بالغرب قد تغيرت النظرة، فقد ظلت المشاهد الروائية زمناً طويلا تصور المثلي بأنه مريض، منعزل، مخنث، مسلوب الإرادة، لايمتلك أي فاعلية في المجتمع، ولكن التغير الكبير في العقود الأخيرة تجسد بالنظرة الحيادية على الأقل أو المتعاطفة التي تتجاوز النظرة النمطية، وقد لعبت أفلام يوسف شاهين دوراً هاماً، وكذلك فلم عمارة يعقوبيان في أن يكون المثلي شخصاً سوياً كباقي أفراد المجتمع فيهم من المثقفين والأساتذة والأطباء والفنانين والمشتغلين بشتى فنون الأدب والصحافة..
من الملفت أن فلم ” أصحاب ولا أعز” عبّر عن ثقافة لبنانية، من حيث أغلبية الممثلين أضافة الى المخرج، وحتى سيادة اللهحة اللبنانية بل شاهدنا أن الممثل جورج خباز يستجيب لسؤال ابنته ذات السبعة عشر عاماً في ممارسة علاقة حميمة مع صديقها فهو يوافقها ويقر لها بحريتها! فلا غرابة إذن في بلد ذي سمة غربية سائدة حيث أن لبنان وتحديداً بيروت هي بوابة الغرب في الشرق الأوسط، وأن الممارسات الجنسية لا تعد “تابو” كما هو الحال في بقية بلدان الشرق الأوسط بل هناك تسامح متزايد مع الظواهر المثلية؛ ومن ناحية أخرى أن مصر رغم كونها محافظة إلا أنها متسامحة سرعان ما تتطامن مع الظواهر الغربية الوافدة لأسباب تأريخية (منها نهضة محمد علي والبعثات..)، لكن يعاد السؤال لماذا هذه الضجة على فلم لايُعدّ مصرياً وهو يخلو من مشاهد إثارة جنسية حتى من قُبلة اعتادها الشعب المصري في أفلامه؟ وما هو سر الحملة الشعواء التي طالت الممثلة الجادة منى زكي التي مثلت أدواراً معتبرة ومشهودة. ولماذا هذا الحماس الذي ركب المحامي المصري ايمن محفوظ وطالب بحظر الفلم؟ وما سبب هذا التباكي على الأخلاق والقيم المصرية الذي جعل مصطفى بكري عضو البرلمان المصري لتخصيص جلسة برلمانية لبحث الموضوع.. ومنع الفلم؟!
كل هذه الحملة الشعواء وقد سجل الفلم أعلى مشاهدة! كل هذه الضجة المفتعلة والفلم سبق أن عرض في نسخته الاصلية الإيطالية في مهرجان القاهرة السينمائي عام 2016، حيث حصل على جائزة أفضل سيناريو!! فما الذي حدا مما بدا؟
من سمات الثقافة المحافظة المبرقعة بالدين أنها تغض النظر عن كل الممارسات الجنسية من قبيل ممارسة الجنس مع المحارم (زنا المحارم) التي تشكل ظاهرة مؤرقة في مصر بسبب الازدحام السكاني حيث تزدحم عائلة وأطفالها في غرفة واحدة، مع الكبت الجنسي وانعدام الثقافة الجنسية في المدارس، ومن المظاهر الأخرى شيوع ممارسة الجنس مع الأطفال (البيدوفيليا)، والخيانات الزوجية، والجرائم الجنسية كالاعتصاب؛ والظاهرة المثلية الجنسية تتنامى.. ومن يريد برهانا من المختصين فهناك كتب الاجتماعيين والنفسانيين والأكثر تناولا مؤلفات الدكتورة نوال السعداوي، ومن يتابع الصحف المصرية سيذهل لحجم جرائم الجنس في مصر، بما فيها فضائح دور الايتام التي كشف عنها الضحايا من الأطفال قبل أسبوع!! على أن ما يجري في الواقع هو أضعاف المعلن بعشرات المرات إن لم يكن أكثر!
فالتستر على هذه الممارسات وابتلاع ما يحصل من جرائم خشية الفضيحة وفقدان الاعتبار الاجتماعي أو (الشرف الاجتماعي)هو السائد، ولطالما يبرر التستر دينياً بقول منسوب الى الرسول: وإذا أصبتم بمصيبة استتروا.. بل يروى عن النبي (في كتب السير) أنه عندما يعود من غزوة أو سرية وحين يكون الرجوع ليلا ينصح المجاهدين بالتريث وعدم الذهاب الى بيوتهم مباشرة حتى يحل الصباح!!
والسبب السياسي حاضر قوي فإن أي انشغال للشعب حتى ولو بقضايا مفتعلة ستنسيه همومه وسخطه على ارتفاع الأسعار وعدم توفير الخدمات الضرورية وتجعله في شغل شاغل ولو الى حين، وقد عرف في عهد البعث في العراق افتعال ظواهر رياضية، فمن ينسى عدنان القيسي وبطولاته الزائفة.. أو عن جرائم غامضة تصبح حديثاً للناس، وأذكر أن هناك روايتين للروائي الأردني غالب هلسا تتناول هذا الموضوع هما. السؤال، والضحك! فلم يكن غريباً إذن أن ينشغل الشعب في فلم كشف المستور ولطالما كان المستور أعمق مما هو ظاهر بكثير!!