لن ابالغ هنا، اذا قلت اننا – نحن العرب – لو اتبعنا منهج المعتزلة في المحاكمة العقلية لما تخلفنا عن اوروبا علمياً، لان احد ابرز اسباب ما نعانيه اليوم هو غياب العقل حتى اصبحنا في كثير من الحالات نبحث عمن يفهم بالنيابة عنا، ومن يفكر لنا، ومن يخطط لنا، ومن … ومن!
فالعقل العربي الآن لا يمر بمجرد ازمة، وانما اصبح في الواقع في حالة شلل، والسبب الاول، اننا كمجتمع عربي لم ينجح بعد في تثبيت حقنا في الحرية، وفي رغيف الخبز، ولا يمكن ان يزدهر على عتبات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فكر من ظل القهر، او في ظل الجوع.
غياب العقل العربي، ليس مجرد مشكلة فلسفية ولا حالة طبية، بل مرض اجتماعي وسياسي وتاريخي، نحن جميعاً مصابون به ونعاني من اعراضه القاتلة ولو اننا فكرنا قليلاً لعالجنا الفرق بين دماغ الانسان ودماغ اي حيوان هو في مدى القدرة على الاستفادة من مخرجات الدماغ واعماله ذهنيا وفكرياً لمواجهة الواقع وتفسيره والتعامل معه، حتى الحيوان – كي لا نظلمه – يفعل ذلك في بعض الاحيان.
المشكلة ليست فقط فيما هو مفروض بل ان الاخطر من ذلك هو فيما هو مرغوب، وفي اولئك الذين استسهلوا ان يسلموا عقولهم ووعقولهم ووعيهم لأي كان، ليس فقط ليفكر نيابة عنهم ولكن ليصوغ لهم حتى تصرفاتهم وتعاملهم مع الآخرين.
نتساءل وبمرارة، لماذا كل هذه الرغبة في حالة الغيبوبة الفكرية؟ وما الذي يخسره المرء اذا حاول مرة اخرى ان يستقرئ الامور كي يفهمها على الاقل؟
دعونا نتساءل معاً: لماذا تنتشر الاشاعة بكل هذه السهولة والسرعة بين صفوفنا، الى حد ان من يطلقها هو نفسه من يصدقها في بعض الحالات؟!
ودعونا نتساءل ايضاً: لماذا يصاب الكثيرون بالحمى لمجرد ان يحلم احدهم ان تعديلاً او تغييراً وزارياً مثلاً على الابواب؟ أليس لأي من متداولي الاشاعات مثلاً عقول يحللون بها ما يسمعون؟
وفي مجال التعامل مع الحقائق والقضايا العلمية مازلنا نلغي عقولنا ومازلنا نصدق وبقناعة تامة، ان النعامة بكل هذه البساطة تحفر حفرة وتدفن رأسها فيها، وتغطيه بالرمال، ثم بعد ذلك ترفعه دون ان تموت؟ ونلاحظ ان كثيراً من المعلومات والخدع المتداولة عما يسمى بثقب الاوزون ليس سوى كلام متداول استغل مروجوه انعدام ملكة التحليل عند كثيرين ليسربوا ما يريدونه…؟
قد لا تكون العقلانية من اولويات الامور في حياتنا العربية العامة، وقد يرى البعض ان العقلية العربية بعيدة كل البعد عن العقلانية بمعناها الحضاري. والعقلانية، تعني ضمن ما تعنيه الاعتدال في السلوك وتغليب مفهوم المصلحة على سائر المفاهيم الاخرى.
ودائماً ما تشغل مسألة التفكير العقلاني خيراً كبيراً من الثقافة، والمناهج التعليمية، واساليب تفكير الافراد في الدول المتقدمة، لان العقلانية نقيض للاحكام الاعتباطية او العاطفية التي تسود السلوك الانساني احياناً.
فالعقلانية، تعني بعد النظر، اي انها تتجه قدر الامكان نحو الجانب الاصوب من جوانب التفكير، لان المنهج الذي ينبغي ان يسودها هو المنهج المرتب الذي ينأى عن الفوضى من جهة، ويمكن من التحكم في الظواهر الطارئة من جهة اخرى.
وما من شك في ان نواة العقلانية تتمثل في تغليب مبدأ المصلحة، ولا اعني هنا مفهوم المصلحة بمعنى الذاتية او الانانية المحصنة بل المصلحة المرتبطة بمجموعة من الاهداف التي يمكن تحقيقها، وما لم يتم تكريس الجهود لتحقيق تلك الغايات فيسود منطق الفوضى والعشوائية ، مما سيؤدي الى تهديد صريح لكافة المصالح الوطنية، ولو نظرنا بشيء من التمعن الى طريقة التفكير التي ينتهجها العقل العربي لوجدنا انها تنحو المنحى العاطفي الذي يظهر جلياً من خلال ما نراه من عجز واضح في مواجهة بعض الظواهر الاجتماعية العديدة والتي نذكر منها على سبيل المثال مسائل التعليم والاعلام والصحة والبحث العلمي.
فجميع تلك القضايا الجوهرية لم تستطع الذهنية العربية ان ترقى بها الى المستوى الذي يواكب العصر الحديث. وذلك لغياب المنهج العقلاني والتخطيط السليم الذي يأخذ بعين الاعتبار كافة المعطيات المادية والثقافية. وقد يرى البعض الرؤية العربية بهذا الشكل نقيض العقلانية.
ولا ريب ان الاسباب التي اوصلتهم الى هذه النتائج تكمن في كثرة الشعارات والكلام لدرجة ان الشارع العربي قد سئم من الشعارات التي سيطرت على عدد من نظم الحكم العربية وخاصة تلك التي سادت فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي والتي عادت بنتائج وخيمة كلفت الكثير.
كثير من المصائب والفتن وحتى الحروب كانت نتاجاً طبيعياً لتغييب الوعي واعارة الادمغة للبعض، وكثير من الخلافات ليس على الصعيد السياسي فحسب بل وعلى الصعيد الشخصي، هي نتاج مماثل لحالة مماثلة.
لدينا عقيدتنا الاسلامية الصافية، الكثير من الحلول، ولدينا قبل ذلك التذكير بان ديننا هو دين العقل، ودين الحرية، ولا حرية لمن لا يستخدم عقله.
وعلى الرغم من ذلك، نجد ان هناك نظماً لا تزال تعيش مرحلة اوائل الستينيات، ولعل اساليب التفكير لتلك المرحلة ظلت تلازم الانسان العربي وتسيطر عليه حتى الآن.
وعلى سبيل المثال- لا تزال تظهر اطروحات انفعالية غير عقلانية تدعو الى القضاء على اسرائيل دون مجرد التفكير حتى في ابسط الوسائل التي يتطلبها هذا الامر. كما يعتبر النظام البعثي العراقي من ابرز النماذج الفكرية تناقضاً مع العقلانية، نظراً لبعده كل البعد عن المنطق والرصانة، فقد بنى هذا النظام اسطورة كان الخيال سيدها، والحكم العاطفي غير المدروس شعارها. ولعل المصائب التي نتجت عنها لم تزل تفرز نتائجها القاتلة، ان صح التعبير، حتى الآن. واكبر دليل على ذلك ما وصل اليه الشعب العراقي من معاناة وتمزق. فاذا ما تجاوزنا قرار احتلال صدام للكويت، وركزنا على طرائق التفكير في تحدي دول التحالف مثلاً، وما تبع ذلك من تصريحات، لوجدنا ان الخلل يكمن في المنهج غير العقلاني، ويتمركز في الجانب الانفعالي العشوائي في تفكير السلطة المستند الى العاطفة والغرور.
ان العقل العربي والذهنية العربية متهمان فعلاً ليس بالقصور فحسب وانما بتغليب الانفعال والعاطفة على التفكير المنهجي والعقلاني الذي يعتمد على النضوج الفكري ويستند الى التسلسل المنطقي الذي يوصل الى الاحكام الصائبة ويحقق النتائج السليمة ويعكس الرقي الانساني والتقدم الحضاري. لذا فان العقلانية هي اشد ما يحتاج اليه التفكير العربي من اجل التخطيط السليم لحاضر امتنا ومجتمعنا العربي ومستقبله.
[email protected]