في مقالي السابق أوردت شهادات لمسؤولين (كبار) من ليبيا وإيران عن واقعة قصف بغداد في عام 1985, بصواريخ إيرانية مصدرها ليبيا. وكانت الأجهزة المخابراتية والدبلوماسية العراقية ترصد التحركات الإيرانية للحصول على أسلحة نوعية لتحقيق قدر من التوازن مع القدرة العراقية المتصاعدة. وكان النظامان؛ السوري والليبي, بالإضافة لكوريا الشمالية, هي الأطراف الأساسية التي تمدّ الإيرانيين بالسلاح والعتاد, وفي إحدى المرات, وفق ما ذكره الفريق نزار الخزرجي, تمكنت المقاتلات العراقية من ضرب وإغراق باخرة كانت تنقل شحنة صواريخ ليبيّة لإيران في مياه الخليج العربي.
كان العراق قد قطع علاقاته الدبلوماسية مع تلك الدول الثلاث, في شهر تشرين الأول 1980, لثبوت دعمها للنظام الإيراني ومساندتها له في العدوان على بلدنا. ولكن بقي دبلوماسي ليبي واحد في مقر سفارتهم في حي المنصور ببغداد, لرعاية مصالح بلاده. ولغرض الحصول على دليل الإدانة الدامغ, تقرّرتنفيذ عملية استخبارية من قبل جهاز المخابرات العراقي في شهر نيسان 1985, باختراق السفارة الليبية والاطلاع على المراسلات السرية. وتكلّلت العملية بالنجاح, وتم الحصول على الوثائق التي تثبت تورّط النظام الليبي بتزويد العدو الفارسي بالصواريخ التي قصفت بغداد.
كان الرد العراقي صارماً, فقد صدر بيان شديد اللهجة من وزارة الخارجية, يعلن فيه العراق؛(سحب اعترافه) بليبيا, وهو إجراء أقوى من قطع العلاقات في العرف الدبلوماسي, ولم يسبق للعراق أن فعله مع أيِّ دولة أخرى. كما تقرّر تقديم دعم, بالخبراء العسكريين والأسلحة, لدولة تشاد, حيث كانت داخلة في حرب مع ليبيا, التي احتلّت جزءاً من أرضها, لإشغال النظام الليبي في ساحته الخلفية, و تلقينه الدرس الذي يستحق, حيث تولّى جهاز المخابرات هذه المهمة.
وصلت الرسالة العراقية, للقذافي, والذي كان متردداً أصلاً في موضوع تزويد الإيرانيين بالصواريخ, فخفّف تأييده تدريجيا لهم, للسبب الذي ذكرته آنفا, وكذلك لأسباب أخرى من أهمها؛(فضيحة؛إيران-غيت), في عام 1986,حيث زوّدت الولايات المتحدة الأمريكية النظام الإيراني بأسلحة نوعية, مقابل الإفراج عن رهائن أمريكان خطفتهم المنظمات الإرهابية العميلة لإيران في لبنان. وبذلك سقطت ورقة التوت التي كانت تستر سوأة نظام خميني, وافتضحت أكاذيبه السخيفة بعدائه المزعوم للـ(الشيطان الأكبر), كما كان يصفها. ورأى القذافي؛ المسكون بمعاداة أمريكا, إن (أصدقائه) الإيرانيين, ينامون معها في فراش واحد, فقرّر وقف دعمه العسكري لهم, وخاصة بعد أن رأى أطماعهم في الأراضي العراقية, باحتلالهم لمدينة الفاو, وإعلان ضمها لإيران, وتسميتها بـ(الفاطمية)!!!.
كانت العلاقات العراقية- الليبية, حينذاك, في أسوأ حالاتها, وكان الرئيسان صدام حسين ومعمر القذافي, على طرفي نقيض, ومع ذلك, بعث القذافي برقية تهنئة للرئيس صدام حسين, بمناسبة عيد الفطر, وكان ذلك في أواسط الثمانينات, وبعد أيام, ردَّ الرئيس صدام على تهنئة القذافي, ببرقية قاسية ومن العيار الثقيل, وفيها تأنيب وتقريع له, وجاءت بالصيغة التالية تقريبا:
من صدام حسين, إلى معمر القذافي.. عطفاً على رسالتكم, ومن موقع الاقتدار والقوة, أقول لك: إن شعب العراق العظيم, لن ينسى من طعنه في الظهر من عرب الجنسية, واصطفَّ مع العدو الإيراني الفارسي في عدوانه على بلادنا !!.
وخاب ظن القذافي بالإيرانيين, والذين وقف إلى جانبهم بشكل أعمى, ففي مقابلة صحافية مع جريدة القبس الكويتية في أيلول 1985, أجراها معه رئيس تحريرها؛(محمد جاسم الصقر), أدلى بتصريح ناري, ونصه بالحرف الواحد؛( أنا مع إيران ولو احتلت نصف الوطن العربي)!!!, وأذكر إن الجريدة وضعت هذا التصريح الغريب والمستفزّ, كعنوان رئيس؛(مانشيت), في صدر صفحتها الأولى.
وكان الإعلام الليبي قبيحاً للغاية في الهجوم على العراق, وقد كنت, في منتصف الثمانينات, استمع أحياناً لإذاعة ليبية تنطق بإسم اللجان الثورية, اسمها؛(صوت الوطن العربي الكبير), يمكن التقاطها في العراق على الموجة القصيرة, كان خطابها الإعلامي صارخاً, وكأنني أسمع إذاعة طهران الناطقة بالعربي !!.
في المقال الرابع والأخير في هذه السلسلة, سأتحدث فيه, إن شاء الله, عن زيارة العقيد معمر القذافي لبغداد في 1990, واعتذاره للعراقيين عن موقفه المشين, وكيف وصف (حافظ أسد), بكلامٍ قاسٍ.