19 ديسمبر، 2024 1:08 ص

أيهما أهم المعتقدات أم الوطن

أيهما أهم المعتقدات أم الوطن

لقد كانت المعتقدات سواء كانت دينية (سماوية أو وضعية) أو كانت فكرية وسياسية ستارا لكثير من القوى في العالم لتنفيذ رغباتها في الاستيلاء على اراضي الغير والاستحواذ على أموالهم وممتلكاتهم أو استعبادهم وبعيدا عن كون هذه الرغبات ذات أهداف سامية أو دوافع باطلة فانها أدت الى تغيير جغرافية العالم لمرات متعددة وصعود امبراطوريات وممالك ونهاية واندثار أخرى وتسببت في حروب طحنت الملايين من البشر على مر التاريخ.
كان العراق ساحة للصراع بين الامبراطوريتين الفارسية والعثمانية لقرون عديدة ولعل أشد ما مر على العراق هي الحروب بين العثمانيين والصفويين من أجل احتلال أرضه وبعد أن اعتمد الشاه اسماعيل المذهب الشيعي لدولته عام 1501 م ليكون بمواجهة العثمانيين السنة ويعطي لحربه بعدا عقائديا مذهبيا فلقد كان عليه استحضار كل الخلافات العقائدية بين الفريقين لتوظيفها في تلك الحروب لذلك فبعد أن استولى على بغداد في سنة 1508 م , دمرت جيوشه مواقع عدة هامة للسنة وجرى الإعلان عن تشيع العراق حيث أجبر إسماعيل الأول السكان إلى التشيع ونبذ المذهب السني وقد تسببت هذه الإجراءات من قبل الصفويين لقهر السنة العراقيين إلى الغضب والاستياء وأدت الى ظهور الصراع الطائفي الى العلن في العراق بعدما كان الشيعة والسنة من أهل العراق قبل ذلك في تأخ ووئام .
في عام 1534 م انتزع العثمانيون بقيادة السلطان سليمان القانوني بغداد من أيدي الدولة الصفوية التي كانت تحت حكم شاه طهماسب بعد سلسلة من الحروب العثمانية الفارسية الطويلة ولكن بغداد سقطت مرة أخرى بيد الفرس عام 1623م على يد الشاه عباس الاول والذي أكمل ما بدأه الشاه اسماعيل بتحويل بلاد فارس إلى المذهب الإثني عشري حيث أصبحت أغلبية بلاد فارس في عهده تدين بالمذهب الإثني عشري.
وفي 1638م قاد السلطان العثماني مراد الرابع بنفسه جيشا إلى بغداد وفتح المدينة في كانون الأول بعد حصار دام 39 يوما، ورجعت بفعالية السيطرةُ العثمانية على العراق واستمرت حتى الاحتلال البريطاني للعراق.
لقد عملت الدولتان خلال هذه الحروب وتبادل السيطرة على تغذية الصراع الطائفي من خلال دعم طائفة موالية واضطهاد الاخرى وعمل كل منهما على اقامة مراكز فكرية وتجمعات عرقية موالية له تحت الغطاء المذهبي وكانت أرض العراق الخصبة وخيراتها الوفيرة عامل جذب للكثير من أبناء الجوار للاستيطان في أرضه وأجد أن هذا الاستيطان كان يحظى بتشجيع ودعم الدولتين لمحاولة احداث تغيير في التركيبة السكانية الاصلية للعراق.
ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين اندلعت الحرب العالمية الاولى نتيجة الصراع على النفوذ بين القوى العظمى في ذلك الوقت وأدت الى انتهاء عصر الامبراطورية العثمانية وسقوط الحكم القاجاري في ايران وظهور الاستعمار الجديد على الاراضي التي كانت تابعة للامبراطورية العثمانية ومنها المنطقة العربية حيث تم تقسيمها بين الحلفاء المنتصرين في الحرب حسب اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 و خضع العراق للاستعمار البريطاني بشكل كامل عام 1918م.
لقد عملت بريطانيا بعد احتلال العراق على التعامل مع العراقيين من خلال المنظور الطائفي ووجدت قبولا من بعض الواجهات ورفضا من أخرى لهذا التعامل – وكما ذكرنا في مقالات سابقة – أن دولة العراق الحديثة قد قامت بارادة و تضحيات أبناء العراق بكل طوائفهم ومكوناتهم ونجحوا في اجبار بريطانيا على اقامة هذه الدولة ونظامها الملكي في 23 أب 1921 .
لقد عمل جلالة المغفور له الملك العظيم فيصل الاول على رأب الصدع بين مكونات الشعب العراقي وشجع أبناء الطائفة الشيعية على الانخراط في بناء مؤسسات الدولة الفتية في محاولة منه لاحداث التوازن في ادارة الدولة رغم معارضة قسم من رجال الدين الشيعة وكره البريطانيين لهذه الطائفة الذين كان لابناءها اليد الطولى في محاربة جيوش الاحتلال وتكبيدها خسائر جسيمة وبصعود نظامين علمانيين في تركيا (أتاتورك) وبلاد فارس (رضا بهلوي) فقد خفت بشكل كبير حدة الصراعات الطائفية عدا ما تبقى من أثار الماضي من المرتكزات الفكرية والثقافية والتي تتخذ من المناسبات الدينية منابر لاذكاء هذا الصراع في كل حين.
بعد ذلك نشأ صراع عقائدي من نوع أخر في العراق وهو الصراع بين التيار القومي والحزب الشيوعي وفي الخمسينيات نشأت الاحزاب والحركات الاسلامية تحت ستار مواجهة المد الشيوعي المتعاظم في العراق وجميع هذه التيارات لم تكن ذات أجندة وطنية خالصة بل وأجزم أنها كانت موالية أو مدعومة من جهات خارجية وقد أصبح هذا الصراع دمويا بعد سقوط الحكم الملكي عام 1958 م واستمر مع تسلم البعث للسلطة عام 1968 ثم تحول الى صراع سياسي- طائفي بعد قيام نظام ولاية الفقيه في ايران عام 1978 ومع وصول صدام الى قمة السلطة عام 1979 تحول هذا الصراع الى حرب شاملة داخلية وخارجية أكلت الاخضر واليابس وتسببت في قتل وجرح الملايين وأمام بطش نظام صدام أصبح الصراع الطائفي في العراق نارا تحت ركام الحروب والحصار والدمار والمقابر الجماعية.
وقبل 2003م وحيث أن أمريكا وحلفاؤها أرادوا التخلص من صدام ونظامه بأية وسيلة فأنهم وجدوا قوى شيعية وليبرالية حاضرة معهم لتحقيق ذلك الهدف مقابل أن تكون السلطة للقوى الشيعية بعد اسقاط النظام (مؤتمر لندن 2002 م) وهذا ما حصل فعلا وقد خلق ذلك اصطفافا طائفيا واضحا ورفضت القوى السنية الواقع الجديد مما جعل العراق ساحة نيران تسعرها دول الجوار.
بعد هذا الاستعراض للصراعات العقائدية على أرض العراق أجد أن كل الايديولوجيات التي تأثر بها العراق لم تكن نتاجا محليا وأن التضحيات التي قدمها أبناء العراق لحملهم ودفاعهم عن هذه الايدلوجيات قد ذهبت دون أن تحقق للعراق شيئا بل العكس فأن بعض هذه العقائد قد تسببت في الغاء أو اضعاف الانتماء الوطني لابناء البلد وأصبحت وبحكم تغذيها من الجوار تمهد السبيل للقضاء على دولة العراق وتفكيكها وصرنا نسمع من بعض العراقيين ممن لهم ارتباطات عرقية أو عقائدية أو مصلحية مع الدول الاخرى دعواتا صريحة لرفض الحدود وأنها نتاج المستعمر وأن الدين أو العقيدة لا تعترف بالحدود وهم بذلك يضربون عرض الجدار النظام العالمي الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية والذي نظم العلاقة بين الدول والشعوب لتفادي عودة الماضي الذي تسبب في حربين عالميتين أزهقت أرواح الملايين من البشر عدا ما تسببت من هدر للاموال والموارد.
ان أخطر مايواجه العراق كوجود اليوم محاولات الجوار للهيمنة على البلد من خلال التنظيمات السياسية والثقافية المذهبية والتشكيلات العسكرية والتي تهدف الى الهيمنة وتأجيج الصراع الطائفي وتفكيك الدولة مستغلة ضعف الحكومات المتعاقبة أو تعاونها مع هذا المنهج مع عزوف المواطنين عن الرغبة في التغيير والغفلة وعدم امتلاك الوعي المبكر لايقاف هذا المد المتنامي لتحقيق أحلام الامبراطوريتين في تقاسم أرض العراق وانهاء وجوده وظهور أطراف من الجوار العربي أصبحت لها أطماع في أرضه وتحلم في أقتطاع حصتها من البلد.
ان الحل الاوحد الذي يحفظ وحدة العراق ووجوده اليوم هو بالتمسك بالهوية الوطنية ورفض المضي بالدعوات الطائفية المغلفة بوحدة العقيدة والمذهب أو العرق ولابد من تيار وطني عراقي ينبه الى خطورة هذه الدعوات ومقاومتها بكل الوسائل المتاحة وبضرورة الوعي أن الوطن هو البيت الذي يحمينا من المخاطر وأن كل الايدلوجيات مهما استمرت فأن مصيرها الزوال وأن التدين الحقيقي لا يتعارض مطلقا مع الدولة المدنية ومؤسساتها الديمقراطية طالما أن الدستور يكفل احترام الاديان والعقائد كافة ويمنع أي تجاوز عليها.

أحدث المقالات

أحدث المقالات