يتداول الكثيرون أسماءاً لمواقع تاريخية تنسج حولها الحكايات ويكتب عنها قصصٌ شتى، نأخذ منها موقف المتفرج فيحكي الآخرون حكايتنا التي ينبغي أن نحكيها بأنفسنا دون أن نسأل لماذا؟
وبلادنا زاخرةٌ بكنوزٍ لم تكتشف وحكايات ٍ لم تروى أو لم تأخذ ما تستحقه كإرث ثقافي وحضاري لا ينبغي إهماله وتركه ليطويه النسيان ومن بين هذه الكنوز الأثرية والتاريخية بلدة وقصر (عراق الأمير) الأثرية في الأردن الحبيب..
فتقع بلدة عراق الأمير ضمن حدود بلدية عمّان في منطقة وادي السير مطلةً على تلالٍ خضراء عالية ومتوسطة الإرتفاع تكثر فيها ينابيع الماء وتشتهر بأشجار الزيتون عدا عن عددٍ من الأشجارٍ الأخرى، وتضم في جنوبها (قصر العبد) أو ما يسمى ب(قصر عراق الأمير)، كما تحتضن عدداً من الكهوف التي تعود للعهد النحاسي وما قبله وهي سبب تسمية عراق الأمير بهذا الإسم..
فالبعض يعتقد أن الإسم مشتق من دولة العراق لكنها في الحقيقة تعني الكهوف أو بمعنى أدق الجبال التي توجد فيها هذه الكهوف ولها معانٍ أخرى ويرجح أيضاً أن أصلها سومري، وبالفعل فإن هذه المنطقة تعج بالكهوف وتتشابه في الخصائص والتسمية مع منطقة عراق الدب في محافظة عجلون شمال غرب الأردن..
وقد بنى هذا القصر الحاكم (هركانوس) الذي كان ينتمي إلى أسرة طوبيا العمونية والتي وجد اسمها منقوشاً بشكل ٍ عميق على جدران أحد الكهوف المجاورة للقصر، فعاش في بداية القرن الثاني قبل الميلاد، وتم استخدام هذا القصر خلال العصور الكلاسيكية والبيزنطية والذي بني من حجارة كلسية ضخمة تم استخراجها من المناطق المجاورة، وتم بناء القصر في منطقةٍ منخفضة كانت تشكل بحيرة اصطناعية مصممة للإحاطة بالبناء ويوجد حوله سور يعمل كحاجز، والتي لا تزال تجتذب بعض علماء الآثار الذين وجدوا في بعضها قبوراً لملوكٍ وشخصيات ٍ بارزة في تلك الفترة عدا عن عثورهم على آثار تؤكد على استخدام بعض هذه الكهوف كإسطبلاتٍ للخيول ووجد في أحدها قرابة ٨٠ حوضاً لتقديم الماء والعشب للخيول، إلى جانب العديد من أدوات البناء والحفر والنحت والصيد، والذي تطور بمرور الزمن منذ بدء استيطان الإنسان لهذه المنطقة منذ قرابة ١٠,٠٠٠ إلى ١٢,٠٠٠ عام والتي وجد فيها الكثير من الإكتشافات ومظاهر الحياة والحضارة أيضاً داخل العاصمة الأردنية عمّان في منطقة عين غزال، وعرفت الكثير من الإزدهار في عصورٍ مختلفة عبر التاريخ فشهدت نمواً في فترات وانحساراً في فتراتٍ أخرى لكنه لم يتوقف..
وذكرها الفيلسوف السوري الفينيقي زينون بإسم (صوربيت أي حوربرتا) والتي تعني الحصن الحصين أو القلعة وهي لفظة ارامية، وهذه المنطقة غنيةٌ بالكهوف ولها تقسيماتٌ خاصة بعد أن تمكن سكانها من التوائم مع طبيعة محيطهم، فكانوا يستفيدون منها ويحولون بعضها إلى قصور أو بيوت أو مخازن أو قبور، ويتم نحتها بشكل ٍ مختلف بإستخدام أدواتٍ متعددة كالمطرقة والإزميل والإبر والمقاشط الصوانية والمثقاب والمنشار بمقاساتٍ متفاوتة، وبحسب الحاجة والمقصد من استخدام كل مكان وتخصيصه لغرضٍ ما، وهذه الكهوف عبارة عن صفين علوي وسفلي ويبلغ عددها ١١ كهفًا يوجد في الطابق العلوي منها ممرٌ ضيق يربط بينها وهو محفور بالصخر ولا يتسع إلا لمرور شخصٍ واحد في نفس الوقت، وقد تم العثور أيضاً على رؤوس سهام مصنوعة من عظام الحيوانات والتي تستخدم كصنارة للصيد، وذلك لأن سكان هذه المنطقة وتحديداً في بلاد الشام والعراق استوطنوا الأرض وزرعوها ومارسوا البناء ورعي الحيوانات وطقوس الحياة المدنية باكراً، وقد أشارت دراسات ٌ تاريخية في السنوات الأخيرة إلى أن أول مكانٍ تم فيه زراعة القمح كان في منطقة بين حمص وحلب في سوريا، إلى جانب اكتشافات حضارية مماثلة في فلسطين والعراق والأردن ولبنان، وهذا بالطبع لا يقلل من شأن أي ثقافة أو حضارة أخرى لكن الحديث هنا عن منطقة بعينها، وبشكل ٍ عام قد يظهر أي اكتشاف في بلدٍ ما ولكنه يحقق ازدهاراً أكبر عند انتقاله إلى بلدٍ آخر مما يؤكد على قيمة التنوع الثقافي والإنساني واسهام كل فئة في الحضارة بطريقتها الخاصة..
ويعد قصر عراق الأمير أو (قصر العبد) أحد أهم الآثار الهيلينستية المتبقية في الأردن وذلك لأن معظم الآثار الهيلينستية قد طمرت تحت الابنية الرومانية وغيرها من أبنية في العصور التي تلتها بعد إنشائه بأمر الحاكم (هيركانوس) وكان يتكون من طابقين وبوابتين شمالية وجنوبية ويحتوي القصر في الوسط على أربعة غرف، وكما يبدو كان هناك تقسيم خاص للقصر بحيث توجد بإستمرار مقراتٌ للمراقبة والحماية وتأمين الأسرة الحاكمة، كما كانت أماكن تواجد الخدمات وتوزيعها مدروسة من حيث هندسة أماكن خزانات المياه المتصلة بالينابيع المجاورة، والدهاليز والنوافذ فنلاحظ أن الغموض يحيط بهذا المكان، كما كان الهاجس الأمني للحاكم هيركانوس يؤرقه فكان حذراً عند إنشاء هذا القصر..
وكما يبدو من الآثار الموجودة في الطابق الثاني للقصر أنه كان معداً من خلال عدد من الغرف للسكن والإستقبال لكن بناءه لم يكتمل بسبب انتحار الحاكم (هركانوس) بسبب تهديد الجيش السلوقي له حيث لا يوجد أثرٌ لسقف، وفي القرن الرابع ميلادي تعرضت هذه المنطقة إلى هزة أرضية عملت على تدمير القصر، والذي كانت النقوش والمنحوتات على جدرانه بشكل ٍ عام حيوانية ومن أهمها نقوش الأسود التي وضعت أسدين منحوتين في كل جهة للدلالة على المراقبة والحراسة كما وضعت لإظهار علو الحاكم هيركانوس، عدا عن النسور التي كان من المفترض أن يكون عددها ٨ نسور وكانت جميعها في وضع تناظر وموزعةً على زوايا القصر لكن لم يتبق أي أثر ٍ لها إلى جانب اللبؤات والفهود المنحوتة، ووجدت أيضاً مصراتٌ للعنب وصنع النبيذ كما عثر على مجموعاتٍ من الأواني الفخارية..
وتحيط العديد من التأويلات والتفاسير التاريخية حول هذا القصر الذي يمتاز بالغموض والرهبة، لكن من المؤكد أن معرفة القليل عنه تشكل فرقاً في نظرتنا إلى بلادنا وتاريخنا وتدفعنا إلى تقدير الثراء والتنوع والغنى الذي نملكه، وإن كان قصر عراق الأمير تحفةً غير مكتملة تظل أرضنا حاضنةً للكثير من الحكايات والأساطير والملاحم التي ساهمت في صنع تاريخ الإنسانية مما يدفعنا إلى التعلق بها الآن أكثر من أي وقت ٍ مضى خاصةً أنها في أمس الحاجة إلينا..