19 ديسمبر، 2024 12:38 ص

رحلة مع تاريخ المدارس الفكرية العربية والإسلامية : مدرسة الاعتزال ومدرسة أخوان الصفا نموذجا

رحلة مع تاريخ المدارس الفكرية العربية والإسلامية : مدرسة الاعتزال ومدرسة أخوان الصفا نموذجا

نناقش في هذه المرة  موضوعاً خاصاً، بالنسبة للمهتمّين به، يعتبرونه محطةً للتأمّل وإعادة الحسابات مع رحلة مهمة في تاريخنا والبعد الفكري والفلسفي الذي تمرّ به أمّتنا. وأني، في الوقت الذي لا أدّعي فيه بأني متخصّص في التاريخ أو الشريعة أو الفلسفة أو اللغة، أستميحكم عذراً فيما إذا أخطأت، حيث أنّ تخصّصي الجامعي هو في الفيزياء، لكن كقارئ في مكتبة غنية بمصادر المعرفة، استطعت من خلال قراءاتي أن أدوّن بعض الصفحات من التاريخ، وأحب أن تشاركوني في الإطلاع عليها لما لها من أهمّية، ليس في اجترار الماضي، بل في التبصّر فيما لدينا عبر نظرة نقدية موضوعية، فيما كنّا عليه وما نحن الآن فيه.  كما لا أخفيكم سراً أني مؤمن بمدرسة العقل والتفكر والمنهج العلمي في قراءة التاريخ والأفكار والحكم عليها من خلال ذلك… نعم أنا مؤمن بمدرسة العقل لا النقل، لأني مؤمنٌ أن بها وحدها نستطيع أن نخرج من واقعنا المزري ومن النفق الذي نحن فيه منذ العديد من القرون، والذي وجدنا أنفسنا فيه أسرى دون إرادتنا في الولادة،  ولكننا مسؤولون بما وهبنا الله من عقل في إيجاد مخرج منه نحو جادّة الصواب والحياة مع باقي الأمم، كأقران متساوين كبشر بما وهبنا الله من عقل وإنسانية، كما أنها كانت محاولة مني في استفزاز المحب للعديد من الأخوة والأصدقاء الذين أعتبرهم أكثر خبرة مني في هذا الموضوع حيث طلبت من معظهم الكتابة والتحدث فيه لأهميته، ولكن ربما لأسباب عديدة جعلتهم يتريثون الخوض فيه حتّى الآن، وبالتالي كان هذا الموضوع، متمنياً بكل صدق تحفيزاً إيجابياً للأخوة للخوض في مثل هذا الموضوع، والتوقّع منهم البدء في الكتابة والطرح فيه، لتنويرنا نحو الهدف الصحيح في البحث عن الحقيقة.
رحلة مع تاريخ المدارس الفكرية العربية والإسلامية (مدرسة الاعتزال و مدرسة أخوان الصفا نموذجا) … و أين نحن منها اليوم
في نهج البلاغة، سئل الامام علي، رضي الله عنه، في المسير إلى الشام، هل هو بقضاء الله وقدره.؟ فأجاب بلا. لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، حيث ورد في القرآن الكريم “فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره”. (أذن فهو مخير وليس مسيراً) أما بشأن الصفات والذات الآلهية حيث الصفات الحسية مثل اليد والعين، ومعنوية كالعلم والقدرة كما في قول الله تعالى “يد الله فوق أيديهم” أو “وعين الله ترعاكم” و “على العرش استوى”، حيث أصبح موضوع جدل ونقاش، فانقسم المفكّرون إلى جماعة مؤمنة بالحَرفية؛ عُرفوا بالمُشبِهَة والمُجَسِمَة، وإلى مؤولين يحملونها على المَجاز المطلق، فيعتبرون اليد رمز القوة والعين رمز العناية والإرشاد، والاستواء رمز السيطرة والسلطان. كما عُرف المعتدلون بين المدرستين بالصفائية والمُتنَزِهة.
فرق الكلام:
مدرسة القَدَرية (من القُدرة): ونادى بها (معبد الجهني وأتباعه)، وتقوم تعاليمها على أن الانسان مُخيّر، قادر على عمل الخير والشر، مسؤول عمّا يفعله يوم الحساب، وأن الايمان يقوم على المعرفة. ولكنهم ينظرون إلى صاحب الكبيرة مذهب الجبرية بإرجاء الحكم عليه لله. وإن الصفات الذاتية الحسية بالتأويل كاليد والعين، ولكن الصفات المعنوية كالعلم والقدرة بنفي الصفات عن الذات الالهية باعتبارها واحدة مع الذات الآلهية حيث أن الله عالم بذاته لا بعلم وقادر بذاته لا بقدرة “وليس كمثله شيء وهو السميع البصير”.
مدرسة الجبرية: نادي بها (جهم بن صفوان) لذا سمّوا بالجهمية، حيث يقول إن العبد مسير بالارادة تسييراً مطلقاً، و كما نرى إن مصطلح الجبر هو الإستبداد و أطلقوه أسلاف العرب و المسلمين بالحكم على الإنسان (بإنه بمنزلة الجماد) لا إرادة له و لا إختيار..حيث كانوا يسمون الحكم الجائر المستبد بالجبرية أو الجبارية و الحاكم فيه بالجبار و يشهد على ذلك قول رسول الله (ص) للرجل الذي أرتعد في حضرته (هون عليك فما أنا بملك ولا جبار؟!) حيث يظهر ذلك كنهج و فكر و مدرسة من خلال معاوية الذي أؤرخت بإسمه وانه أول من قال فيها، حيث كل ما يفعله إنما هو بقضاء الله و من خلقه ليجعله عذراً له فيما يفعل و ليوهم العامة بإنه مصيب فيه وان الله جعله إماماً وولياً للأمر و بذلك أنشأ نهجه و من جاء بعده من ملوك بني أمية فيما عدى الخليفة الزاهد العادل عمر بن عبد العزيز الذي عُرف عنه زهده و عدله  وبتصحيحه مسار الفساد و عدم العدل الذي عم الدولة الأموية ولبعض الأخطاء التاريخية التي لُصقت بالإسلام و السُنّة لمن سبقه في الحكم و لكن مع الأسف ان هذه الصحوة لم تستمر بعد وفاته المشكوك في اسبابها تاريخياً و تحميل الفاسدين بذلك. ومما يعزز ذلك عدم إستمرار نهجه بعد وفاته. وأهم تعاليمها:
القول بأن العبد مجبر ومسيَّر بفعل الارادة الآلهية ولا اختيار له في شيء ولا قدرة له على اختيار. واتفقوا مع الأمويين في منهج الجبر ولكنهم أختلفوا معهم عندما نادوا بالارجاء لذا سموا بالمرجئة بعد أن رفض الأمويون الإعتراف بإسلام الموالي من أهل البلدان التي فتحها المسلمون…بإعتبار إن إسلامهم ناقص وغير خالص لله ليبرروا ولأسباب إقتصادية أخذهم الجزية من هؤلاء المسلمين حاكمين على نواياهم وليس الإقرار والشهادة كما كان يفعل رسول الله (ص). في حين كان الأمويون يطالبون بإرجاء الدولة الأموية ولمصلحة الطبقة الحاكمة بعدم حكم العامة على أعمالهم وافعالهم وترك ذلك لله في حين لا يطبقون ذلك على الأقوام الذين أسلموا ولذا أوجبوا عليهم الجزية. وهذا ما لم يرتأيه المرجئة في الحكم عليهم في النوايا. وعلى العموم سميت هذه المنهجية بالفرقة الجبرية الخالصة تمييزاً لها عن الجبرية المتوسطة والتي نشأت على يد الأشعري.
مدرسة الصفائية: وأول من أهتم بها (عبد الله بن سعيد الكلابي)، وأهم تعاليمها إثبات الصفات ومدلولها الظاهر لله عز وجل والإمساك عن البحث في ماهيتها، ومنعوا التشبه وأوجبوا التنزيه؛ فقالوا يد الله … إن الله له يد لكنها ليست كيد الانسان، وإن الله يعلم ولكن ليس كعلم الانسان. وفي موضوع القضاء والقدر، جروا مَجرى الجبرية في نفي القُدرة والارادة عند العبد، واعتبروه مسيراً بقضاء وقَدر في كل ما يفعله وما يَترُك، حيث نرى الاختلاف يظهر في اعتماد القَدرية على العقل والتأويل في حين حافظت الصفائية على النص والجبرية بنفي الاختيار عند العبد. ونرى مما تقدم أن معظم المدارس اشتركت بآراء واختلفت في أخرى، وأن هذه البدايات كانت منطلقا إلى مدارس أخرى كما سنرى ذلك لاحقاً. حيث أن مدرسة القَدرية ترى أن “العبد له المَقدِرة”، وتطورت بعض أفكارها إلى مدرسة جديدة هي مدرسة الاعتزال، بينما تطورت مدرسة الجبرية إلى العديد من المدارس منها السلفية وبعدها مدارس متطرفة أخرى.
ومدارس أخرى من يعتقد بالاعتدال، وأخذ من المدرستين، ومنها المدرسة الأشعرية. من خلال ذلك كله نلاحظ أن هذه الحركة الفكرية ونهضتها من جمود إلى انطلاق، خلق منهجاً جديداً في الحياة في ذلك الوقت، وآلية التعاطي معها في ذلك الزمان، وأن صراعاً فكرياً تمّ بآلية الدليل والحوار في فترة ازدهار الأمّة، وإلى الكبت والقهر والانغلاق وباطنية في فترة ضعف الأمّة كما آل إليه حال مفكرّي الأمّة وفلاسفتها، كمدرسة الاعتزال وانتهاء بالانكفاء والباطنية كما هو حال مدرسة أخوان الصفا والتي تمثل النخبة.
علم الكلام والحركة الكلامية والنهضة الفكرية
الفلسفة عند العرب والمسلمين هي معرفة الأسباب الحقيقة للأشياء عن طريق العقل وأطلق مؤرخو العرب لفظ الفلاسفة أو الحكماء على أرباب الفلسفة الذين لم تتقيد آرائهم بقيود الدين و قصروا لفظة (متكلمين) أو أهل الكلام على أولئك الذين أخضعوا تفكيرهم لنظم الدين ويقابل أهل الكلام في الإسلام (الكتّاب المدرسين) في أوروبا المسيحية. وعلم الكلام إلى علم اللاهوت … والمتكلم بالعالم اللاهوتي …فالغزالي متكلمواقطاب الفلسفة العربية مثل الكندي والفارابي وأبن سينا وغيرهم وهم الذين وفقوا بين فلسفة الأغريق والإسلام حيث بدأها الكندي وتابعها الفارابي وأكملها أبن سينا كما هنالك بعض أعلام الأمة العربية والإسلامية من أمثال الجاحظ وأبو حامد الغزالي وأبن رشد وأبن عربي الذين لابد من الإشارة لهم ودورهم في هذه الرحلة التاريخية وسنحاول الإشارة لهم بشكل موجز لاحقاً.
مدرسة المعتزلة: وهي لغة التنحي والانفراد، نشأت على يد واصل ابن عطاء وعمرو ابن عبيد، أإثَر الخلاف بينهما وبين الحسن البصري حول مرتكب الكبيرة.
والمعتزلة هي من أهم الفرق الكلامية حيث جمعت وناقشت الآراء التي دار حولها الجدل بين الجبرية والقدرية والمرجئة والصفائية. والمبدأ الأساسي الذي اعتمده المعتزلة هو النظرة العقلية في المسائل الدينية واعتماد العقل إطلاقاً في فهم المشاكل وحلّها. و تعد من أنصع الصفحات في تاريخنا العربي والإسلامي إشراقاً بعد فجر النبوة و مرحلة الخلفاء الراشدين، حيث أن العقل و المنهج العقلاني و العلمي في الحكم على الأمور من خلال الإختيار و الحرية لا من خلال الجبر والإستبداد و التي تعد واحدة من اخطر القضايا الفكرية و الدينية و الأخلاقية و السياسية التي لا تزال تواجهنا إلى يومنا هذا و لما كان خلو مكتباتنا العربية و الإسلامية و ندرة المصادر إلى وقت قريب في التعرف على هذا المنهج في تاريخنا الا ما ندر من خلال ما كتبه المستشرقون و الذي ربما لا يخلو من تحيز و إجحاف ضذ الإبداع والأصالة في تراثنا هذا كله جعل من هذه المدرسة مغيبة عن طبقات كثيرة من مجتمعنا حتى مرحلة الخمسينات حيث أُكتشفت بعض المخطوطات التي تعد كنوزاً والتي تكشف لنا أفكارهم من خلال أعلامهم و مفكريهم و الذي حفظ أئمة الزيدية بعض آثارهم الفكرية و المخطوطات في اليمن حيث أن مشكلة الحرية كانت واضحة في آيات عديدة من كتاب الله العزيز القرآن الكريم و كذلك في نهج الخلفاء الراشدين و منهم الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه) (متى أستعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) و كذلك عبر المنهج الفقهي للخليفة الراشد الأمام علي (رضى الله عنه) أو من خلال فترة حكمه.
وأهم المبادئ التي عالجتها:
أولا: التوحيد، حيث أنهم نفوا الصفات عن الذات الآلهية لأنها تؤدي إلى الشرك، وكذلك التشبيه، وبحثوا في مسألة خلق القرآن، ورأوا أن القرآن “جسم وعرض” وبالتالي هو مخلوق ومحدث، ولما كان القرآن كلام الله والكلام محدث، لذا فالقرآن محدث، إذن فالله متكلم بكلام محدث وبالتالي خلق القرآن حتى لا يكون هنالك قديم الأزل غير الله عز وجل.
ثانيا: العدل ونفيهم الظلم عن الله، حيث قسّموا الأفعال إلى إرادية وغير إرادية، وأن الحرية هي هبة من الله ومَثلَها الإرادة، ولما كان الانسان حراً فيما يريد، صح حسابه.
ثالثاً: الوعد والوعيد. صدق الله في وعده لأهل الطاعة بالجنة ووعيده لأهل المعاصي بالنار.
رابعاً: المنزلة بين منزلتين. وفيها الحكم على مرتكبي الذنوب الكبائر كالقتل بجهنم عقاباً وتسميتهم بالفسقة وجعلوهم بمرتبة بين المؤمنين والكفار.
خامساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما تعني المشاركة الإيجابية لتقويم الخطأ وإصلاح المجتمع.
لقد مرت مدرسة الاعتزال بأزهى عصرها في فترة الخليفة العباسي المأمون. حيث فتح المأمون باب العقل على مصراعيه في كل مطلب وشأن. وقد كان للنهضة الفكرية، سواء كانت عربية المنشأ أو مترجمة من لغات أخرى، أكبر الأثر في شخصية المأمون عبر مراحل عمره كتلميذ وولي للعهد ثم كخليفة حاكم وأديب وعالم وسياسي وباحث ديني وفيلسوف ومؤلف.
وكان المأمون يعطي لكل صاحب كتاب أصيل أو مترجم الى العربية وزنه ذهباً، وكان يبذل كل جهد في الاتصال بكل الأمم وملوكها للتعرف على ما لديهم من علم وتطويره لاحقاً، كان يحث الناس على طلب العلم والقراءة، وكان يختلي بالحكماء ويناظرهم، كان حبه للفلسفة وتأثره بأرسطو واتساع دائرة المعارف العامة لديه، ورغبته بالقياس العقلي في الحكم على أي شأن، هذا كله جعله يتأثر بمذهب الاعتزال، ويتبناه كمذهب رسمي للدولة التي يقوم مبدأها بالاعتماد على العقل في فهم أي شيء والحكم عليه. إن التزاوج الفكري بين فلسفة الاعتزال والمأمون، وما يمتَّع به من شخصية العالم الفيلسوف مع نفوذ الحاكم وتأثيره، خير مكسب في تصالح مع الزمن لرفد الحضارة الإنسانية والعرب والمسلمين في بغداد والعالم في ذلك الزمان بأهم شعلة حضارية حرمنا منها القدر بوفاة المأمون وانحسار منهج مدرسة الاعتزال لاحقاً، وبالتالي خسارة المسلمين والعرب وبغداد أهم فرصة في التاريخ للتواصل مع المستقبل، حيث نرى أن الأمم الأخرى استفادت من هذا التلاقح الحضاري والذي أدّى إلى الحضارة العلمانية الغربية في يومنا هذا.
ونكاد أن نزعم أن فترة المأمون، وخلفه مدرسة الاعتزال، هي أول من أنتهج التفكير العلمي، وهو الآن في مضامين المنهج العقلاني في المدارس العلمانية. ففي تلك الفترة “المأمونية” كانوا يؤمنون بالاحتكام للعقل والعلم والمنطق في الحكم على الأمور، حيث لم تكن لدى المأمون عقدة من طلب العلم والمعرفة من أي أمّة، ونشر العلم الذي لديه إلى الجميع، لأنه كان يؤمن بأن العلم والمعرفة من حق جميع الناس، وبأن النظرة إلى الدين يجب أن تكون من خلال العقل والتفكر، وبأن الإنسان مسؤول ومخيَّر في أعماله وليس مسيّراً في تصرفاته وأعماله. و لكننا كنا نتمنى أن المأمون و مدرسة الإعتزال بالرغم من قناعاتهم بصواب منهجهم  وعظم المسؤولية التاريخية في بناء منهج العقل و العلم أن لا يقعوا في شبهة إستخدام أسلوب فرض أفكارهم على الأخرين و إعطاء الزمن فرصته لتقبل هذا المنهج من قبل العامة من الناس من خلال الصبر و المزيد من الحوار و خصوصاً ما حدث مع الأمام أحمد و مدرسة الجبرية و الذي كان ذلك من أحد الأسباب التي لم تستمر هذه المدرسة بعد وفاة المأمون في حين لا ندعي أننا أمام حالة المأمون و مدرسته الإعتزال بالمثالية لأنها حالة إنسانية لها حسناتها و عيوبها و لكن المقارنة بين المدرستين و ما أفرزته هو المحصلة النهائية للحكم عليهما و ذلك في الوقت الذي أكتفى المأمون بعزل الأمام أحمد عن العامة و إحتجازه لكونه يتمتع بالكثير من الصفات التي يستطيع بها أن يؤثر على العامة بسهولة مما يعيق مشروعه و منهج مدرسة الإعتزال..نرى بعد ذلك والى يومنا هذا من خرج من عباءة المدرسة الجبرية من تكفير و قتل للمخالف لها و العمليات الأرهابية في يومنا هذا كشاهد على ذلك. وتكرر ذلك في الأمس القريب مع جمال عبد الناصر وموقفه من سيد قطب حيث كنا نتمنى كذلك أن يكون أكثر صبراً في التعامل مع حالته… ولكن النتيجة واحدة بالنسبة إلى اتباع مدرسة البنا الذين هم إمتداد لمدرسة الجبرية ومنهجها. لذلك نلاحظ أن ملامح الفكر الجبري كانت له السيادة والغلبة في كثير من عصور تاريخنا وأدوار حضارتنا حيث أن فكرة الإعتزال ومدرستها لم تحظى بذلك من إزدهار وإستمرار إلى عدة أسباب منها ما ذُكر سابقاً ومنها الزواج الغير مقدس ما بين السلطة الجبرية الإستبدادية وفقهاء الظلام ووعاظ السلاطين إضافة إلى الغاء مبدأ الإجتهاد وحصر الفقه بمدارس محددة لإسباب سياسية من دون وجود سند شرعي في الأصول أو تطبيقاً لنص قرآني أو منهج السنة النبوية و سيرة الخلفاء الراشدين بشيء و بذلك تحويل الفكر الإسلامي و العقيدة و الفقه الى مذاهب و تمذهب و تعصب و من الابداع الى الجمود و من الاجتهاد الى التقليد في حين كانت المدارس فقهية و فكرية واجتهادية للرأي كمدرسة أبي حنيفة النعمان والأثر كمدرسة مالك والفكر كمدرسة المعتزلة وبالتالي كانت هذه الخطوة هي بداية النفق المظلم الذي دخلت فيه الأمة في حالة السبات العميق و الذي لا زلنا فيه منذ العديد من القرون مقترناً بالمرض المزمن عند الحاكم و العامة في عدم إستطاعتهم تجاوز حالة البداوة و عاطفة القبيلة السلبية بدلاً من استخدام العقل و الحضارة المدنية منهجاً و طريقة. وبالرغم من ذلك كله نرى إنّ النهضة الفكرية التي بدأها المأمون ومدرسة الاعتزال أعطت ثمارها في القرن العاشر الميلادي، حيث تحوّلت المدن العربية الكبرى إلى مراكز علمية، وأصبحت هنالك بيوت للحكمة في معظم المدن، كما كان هنالك بيوت للحكمة لمعظم الأمراء والوزراء والعلماء.
وكما أسلفنا عن الخسارة الكبيرة للعلم والإسلام والحضارة الإنسانية في انحسار هذه المدرسة “المأمونية” التي لو استمرّت حتى يومنا هذا، لما رأينا اليوم تيار الانغلاق الفكري المتحجر، ليس في فهم الدين فقط، بل بالوقوف ضد كل علم وحضارة وتقدم، وما ولّده لنا هذا التيار من فرق تكفيرية وموجات همجية إرهابية بحق المخالف لمنهجه.
إنّ من المحزن الآن ليس فقط التراجع عمّا كنا عليه في زمن المأمون وعاصمته بغداد، من سبقٍ لباقي الأمم بقرون، بل أيضاً توقفت لدينا عجلة الزمن، حيث يريد الانغلاقيون أن تعود إلى الوراء بشكل سلبي، في حين نرى باقي الأمم قد استفادت من المنهج العلمي الذي انتهجته بغداد ومدرسة المعتزلة والمأمون، ووصلت إلى ما وصلت اليه في يومنا هذا من عطاء أثرى الحضارة الإنسانية.
طبعاً يجب أن نحترم انتقال شعلة العلم من العرب والمسلمين إلى أوروبا التي حققت نهضتها، وبعدها انتقال هذه الشعلة إلى اميركا حيث نرى أن هذه الأمّة الأمريكية قدمت خلال المائة عام الماضية ما لم تقدمه الإنسانية عبر ألف عام من تقدم علمي وحضاري في كافة مجالات العلوم العلمية والطبية والإنسانية عبر عشرات الألوف من الاختراعات العلمية التي استفادت منها الإنسانية في الطب والهندسة والفضاء والصناعة والكمبيوتر والاتصالات والآداب والعلوم الإنسانية والنظم الديمقراطية، والدستور الأمريكي كشاهد أو نموذج لها. حيث أن ما ميّز نجاح التجربة الأمريكية في يومنا هذا حيث ينظر الدستور الأمريكي إلى الدين بإحترام ويدعم وجوده في المجتمع، لكنه يفصل الدين عن الحكم والسياسة، في حين نرى أن المنهج الأوروبي اختار الابتعاد عن الدين تماماً.
المدرسة الأشعرية: وهي فرقة حاولت أن تسلك الوسطية بين المدرستين، الجبرية ومبالغتها في النص ومدرسة الاعتزال التي أعتمدت الفلسفة وأساليبها في الفهم.  وأخذوا بالإدراك العقلي لكنهم لم يستسلموا للعقل، فقدموا النص الديني على التعليم الفلسفي حيث يتعارضان وكان رائدها أبو الحسن الأشعري وهو تلميذ علي الحياني رأس المعتزلة في البصرة. وقد عارضت الأشعرية مدرسة الاعتزال في الصفات والذات ومنها بأن رؤية الله في اليوم الآخر ليست مستحيلة، وكذلك مسألة خلق القرآن، وحاولوا أن يكونوا وسط المدرستين وكذلك في مسألة الجَبر والاختيار، وهنا نرى أن هنالك الكثير من الآراء والحقائق والتي لا يمكن أن يكون الرأي فيها بالوسط والاعتدال وخصوصاً في موضوع الحق والباطل.
نماذج من بعض أعلام الأمة العربية والأسلامية – متكلمين أو فلاسفة:
وكما أشرنا سابقاً ان لبعض اعلام الأمة من دور كبير في هذه النهضة سواء من خلال أفكارهم أو اجتهاداتهم أو كتبهم في كافة مجالات العلوم والمعارف العلمية والفقهية والفلسفية والأدبية حيث سوف نذكر البعض كمثال لذلك لما كان لإسهاماتهم من دور في تشكيل هذه المرحلة آملين أن تتاح فرصة اخرى للتحدث عن الأخرين منهم الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجه وابن طفيل وابن رشد وابن خلدون وأبو العلاء المعري والجاحظ وأبو حامد الغزالي وغيرهم بالعشرات وبشكل مختصر بما له علاقة بالموضوع ويسمح به هذا البحث، وسوف نذكر البعض كمثال لذلك:
1.   الجاحظ. الجاحظ المتكلم والباحث في الفلسفة والحكيم الموسوعي. ويعد متكلماً جدلاً ومن شيوخ المعتزلة وهو أول من أستخدم مصطلح علم الكلام والكلام إصطلاح لعلم يبحث في الدين والفلسفة ويتناولهما من كل معالم الحياة (جماد، حيوان وإنسان) ومنهج المتكلمين هو الجدل والمناظرة (الحوار) حيث أتفق الجاحظ مع ارسطو إن علم الكلام والفلسفة هي معرفة الأسباب والعلل. وأثرى الجاحظ أبحاثه حول القرآن تفسيراً وتأويلاً ومقارنة وتنزيلاً ومعجزة حيث ليس كل عالم في اللغة بالضرورة عالم بالكلام ويرى الجاحظ الأعتزال هو التوسط والاعتدال بين التقصير والافراط والذي وقعت فيه جميع الفرق وآمن الجاحظ بمبادئ المعتزلة الخمس حيث ان العدل (هو قدرة العبد على الفعل والتوحيد بنفي الصفات عن الله و الوعد الوعيد هو صدق الله بوعده في الثواب و العقاب والمنزلة بين منزلتين لمرتكب الكبيرة بإعتباره فاسق و ليس بمؤمن و لاكافر والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بالفعل الإيجابي للعبد في المساهمة في تقويم المجتمع). وان الله مثال الكمال في العدل والجود والصدق والحلم وان الله شيء لا ينقسم وهو ليس جسم ذو ابعاد كسائر الاجسام (ليس كمثله شيء)، أما صفات الله كالسمع والبصر والعلم…هي عين الذات الآلهية لا تتجزأ حي لا بحياة وعالم بلا علم وان الانسان يستطيع ان يعقل الله عقل إقرار لا إحاطة. وأمتاز الجاحظ بغزارة وكثرة الكتب والمؤلفات له والتي تجاوز عددها 200 كتاب ورسالة شملت مواضيع في الفلسفة والآداب والتاريخ واللغة والطبيعة والجغرافية والاجتماع بالرغم من ضياع قسم كبير من مؤلفاته والباقي منها حوالي الثلث بعضها ناقص والآخر منحول والبعض تام وصحيح بحدود 30 كتاب وقد وردت اسماؤها في كتب التراجم القديمة من إشارات. أهم الكتب التي عثر عليها كتاب الحيوان بسبع أجزاء وهو ليس فقط يتحدث عن الحيوان وطباعه وانما يحتوي على الكثير من الأفكار الفلسفية والديانات وآراء في التطور وأقسام العالم وتأثير البيئة و المعرفة والاجتماع وغيرها..اما كتاب البخلاء وهو اظرف كتبه ولكنه يحتوي على فلسفة اجتماعية و أخلاقية عميقة و تحليل نفسي واقتصادي أما كتابه البيان و التبيين و الذي يعد الثاني من حيث الأهمية في أربعة أجزاء يشمل أساس نظريته الجمالية و البيانية وفيه آراءه في الزهد و التصوف. أما الرسائل التي تناهز الثلاثين موزعة الى طابع سياسي واجتماعي واخلاقي وطابع كلامي وحكمي وأدبي.
2.     ابن رشد. ولد ابن رشد عام 520 هجرية في مدينة قرطبة بالاندلس وتوفي عام 595 هجرية. وهو من أسرة توارثت الفقه و القضاء و كان جده و أبوه من أئمة المذهب المالكي، درس الشريعة الإسلامية على الطريقة الأشعرية و تخرج في الفقه على مذهب الامام مالك و درس الفلسفة والطب و رعاه الوزير الفيلسوف ابن طفيل و قدمه الى البلاط والسلطان يعقوب ابن يوسف ليشرح له الفلسفة و كتب أرسطو وهكذا تقلد مناصب مهمة و حظي بكل اكرام و تقدير وأصبح له تأثير كبير على العقول والأفكار والرأي والقول و لكن هذا النجاح سبب له الحسد و الغيرة من المنافسين الذين أتهموه بالكفر والزندقة و لتهدأة العامة و الغوغاء تم التضحية به وأبعد و كانت كتبه الضحية حيث تم احراقها و كانت في الفلسفة و الطب والرياضيات و الكثير من العلوم الأخرى والتي تعد كنوزاً بحق و ما توفر لنا الآن فقط ما كان قد تسرب الى أوربا أو أماكن أخرى و هي قليلة نسبياً. حيث شاع أسمه في الغرب بالشارح الكبير كما أسماه دانتي في الكوميديا الآلهية وألف أبن رشد كتب في الطب منها الكليات في الشرع ومنها بداية المجتهد و نهاية المقتصد و فصل المقال فيما بين الحكمة و الشريعة من الأتصال و هو يبحث في الدين و الفلسفة وأبرز ما ترك لنا في الفلسفة كتاب تهافت التهافت حيث بلغ به العقل العربي الفلسفي قمته و كما أسلفنا سابقاً الذي رد فيه على كتاب تهافت الفلاسفة للغزالي و دحض آرائه بحق الفلسفة ورجالها حيث نرى أن من أهم المشاكل التي شغلت الفكر البشري هو الوفاق ما بين الدين والفلسفة وبين النقل و العقل و كانت هذه المعضلة قبل الإسلام في مكتبة الأسكندرية حيث حاول (فيلون التوفيق بين شريعة موسى و الفلسفة). وتصدى لها مفكروا الإسلام ومدارسها … حيث من كان منهم من يخضع الدين الى الفلسفة او العكس. وظل هذا الخلاف حتى قام أبن رشد لحل هذه المشكلة في كتابه فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من إتصال وكان ذو قيمة كبيرة فيما دار من خلاف وتكفير بين الفقهاء والفلاسفة. وكما نلاحظ آراءه في تأييد النظر الفلسفي واباحته في الشرع داعماً ذلك بالاستناد الى آيات قرآنية.. وكلما أبحرنا في فكر هذا الصرح نلمس عمقه الفكري في كافة المجالات و التي ربما لاتتسع هذه الورقة بها الآن بل نتمنى ان يأخذ شكل محاضرة خاصة مستقبلاً. وخصوصاً الآراء القريبة من منهج العقل عند المعتزلة في الظاهر والباطن والتأويل ووحدة الحقيقة وسببية المحسوسات وروحانية النفس و الادراك بدون آلة جسدية واستمرار النفس وتبدل البدن والجمهورية الفاضلة والمساواة ما بين الرجل والمرأة.
3.أبن عربي. ولد سنة 559 هجرية بالأندلس و كان والده من أئمة الفقه و الحديث مما أثر ذلك فيه حيث درس الحديث و الفقه على يد أبرز اعلامها و لكن مالت نفسه الى التصوف. تنقل في جميع البلاد من المغرب الى مصر و مكة و حلب و الموصل و بلاد الروم حتى أستقر في دمشق و توفي سنة 638 هجرية. أهم مؤلفاته: كتاب الفتوحات المكية الذي يعد موسوعة صوفية وكتاب فصوص الحكم ويبحث في قلب الأنسان وكتاب ترجمان الأشواق وهو مجموعة من الشعر أزدحمت فيها معاني الغزل. خلاصة فلسفته الله واحد وهو مصدر الوجود والكون أزلي ومخلوق معاً ويمتاز الله عما خلق وانفصال الانسان عن الله خاضع للإرادة الآلهية ويعي المتصوفة الله ولديهم طرق للتواصل والحقيقة المحمدية هي المبدأ الخلاق ولكل نبي كلمة من كلمات الله. أما عناصر الفلسفة لديه متعددة منها الحب ثلاث درجات هي حب الطبيعة وحب الروح والحب الآلهي والانسان الكامل يرى الحقيقة تارة هي الروح الأعظم وتلك الحياة والعرش والعقل الأول و المظاهر والأسماء تتنوع و تبقى الحقيقة واحدة و هي كاملة و تكتمل في صورة الانسان الكامل وعلاقة الأنبياء بالحقيقة كعلاقة الجزء بالكل و الحلول وحدة الوجود بتفاوت نعمة العقل في الكائنات بتفاوت استعدادها للقبول و كان الانسان الأكثر قبولاً لنعمة العقل ولذا كان خليفة الله و المرآة والصورة. ويرى ابن عربي الكون خمس طبقات و هي انعكاس لبعض و هي الحضرات و الحس والأرواح و الذات و قلب المتصوف يرى الفناء مقامات منها الفناء عن المعاصي و العالم المحسوس والذات الجسمانية و العالم و التأمل كما يرى ابن عربي حقيقة الدين ان الأديان متفرعة كل منها يحوي قسم من الحقيقة و لذا على المتصوف جمع أجزاء الحقيقة لا بالتنازع ما بين الأديان وابتعادها لذا كان عمله في التآلف بين المسيحية والإسلام واتخذ لذلك أساساً منها مثل الثالوث المسيحي يقابلها في القرآن الله و الرحمن و الرب وان المسيحية قائمة على مبدأ المحبة والتي هي أساس الايمان في الإسلام. أما في التخيير والتسيير يرى ان الانسان مسؤول عن اعماله لانها صادرة عنه ولكنه يناقض موقفه بعدم الإقرار بحرية العبد مما وضعه في خانة الغموض.
4.  أبو حامد الغزالي. نشأ في حالة اليتم وهو صغير وكفله أحد أصدقاء والده من الصوفية والذي ألقى بذور الصوفية فيه الا أنه كان يحس بفضول عقلي غريب يدفعه الى التصدي على كل مشكلة والتفحص في كل عقيدة ولكل فرد. وكان الغزالي تلميذاً متفوقاً دفعه الى التعجب بالنفس والمباهاة مما جعل إستاذه أمام الحرمين يمتعض من ذلك دون أن ينكر عليه فطنته وذكائه و رافقه ذلك حتى أصبح شاباً ناضجاً و اختلط بأهل العلم و مجالسهم و ناظر الأئمة وأهل العلم بفصاحة وبلاغة حيث دخل المدرسة النظامية ببغداد سنة 484 هجرية وكانت المدرسة النظامية هي وسيلة أهل السنة لتأييد موقفهم في منافسة الأزهر في مصر الذي أسسه الفاطميون، وكان مع تأييد السلطان القائم ضد كل دعوى علوية و لكن حالة القلق و الشك و عدم الاستقرار النفسي لديه دعته الى ترك بغداد و الدراسة و التدريس و التجول من بلاد الى أخرى مؤثراً الخلوة والاعتزال والاعتكاف من مسجد الى اخر وحتى بلغ الخمسين من العمر سنة 500 هجرية وبها خلال هذه المدة الف كتاب المنقذ و ترك التدريس واعتزل نهائياً سنة 501 هجرية حتى توفى سنة 505 هجرية.
آرائه – شخصية غنية الروح واسعة الاطلاع كثيرة الإنتاج متشعب المناحي، في حياته شطران متباينان ووجوه مشتركة في أشياء يفصلهما انقلاب عميق… وأهتدى الى الصوفية عقله كثير التطلع، نفور من الانقياد ونزعته الى اليقين عرضته لعدم الاستقرار وهذه النزعة هي مهلكة لكل الأذكياء حيث ليس من اليسير الجمع بين المتناقضات وعدم الاستقرار. وبالرغم من تفهمنا واحترامنا الى نهج البحث عن الحقيقة وعدم المكابرة والعناد في التمسك بالخطأ ولكنه شكك في الحس و العقل ورأى أن الحق لابد أن يكون في أربعة حالات و فرق هي: 1) الكلام: حيث رآه لا يحتوي على الحق الشافي. 2) الفلسفة: رآها هي كفر و بدع و قسمهم الى: أ) دهريون كفرة ب)طبيعيون آمنوا في بعض و كفروا في البعض الآخر كخلود النفس ج) آلهيون آمنوا بالله و خلود النفس  ولكنهم كفروا  وبدعوا في أمور أخرى. 3) الباطنية: الذين أعتقدوا لابد من أمام معصوم للبت في الخلاف و توضيح الحق أتفق معهم بعجز العقل  وضرورة الأمام المعصوم و لكنه يجب أن يكون النبي محمد (ص) فقط. 4) الصوفية: حيث رأى أنهم السالكون لطريق الحق و الله و أن سيرتهم وأخلاقهم الأحسن لأنها مقتبسة من نور النبوة…فأعتنقها مذهباً له وقد نقد و سفّه غيرها من مدارس. وكما نرى ذلك في كتبه و منها كتاب المنقذ وكتاب أحياء علوم الدين و كتاب تهافت الفلاسفة الذي كفّر فيه الفلسفة و الفلاسفة و حّط من قدرة العقل و رفع من قدر الغيبياتو بالتالي تجاوز النقد لمن أختلف معهم الى هدم منهج العقل و الفلسفة كما أنتقد الباطنية و لكنه كان يمارسها وكفّر الفلاسفة و منهجهم ولكن كان يستخدمها بكل آلياتها ومناهجها لإيصال أفكاره مما يضعه في خانة جاحد الجميل لها و لهم. ونرى انه في الوقت الذي رفض الفلسفة و الكثير من المناهج العلمية العقلانية الا انه أحتفظ بأضعف حلقة لدى علوم اللاهوت الكنسي قبل الثورة الصناعية عن المرأة و النظرة الدونية الناقصة و السلبية تجاهها وكان المسؤول الأول على فرضها على الشرع الاسلامي كمسلمات وبأنها رمز الخطيئة ونقصها العقلي و المعرفي وما ترتب ذلك من اهدار الى حقوق المرأة و تُرجم ذلك بفتاوى و قوانين شرعية حددت من كرامتها و اصالتها كشقيقة وأم للرجل وبانها نصف المجتمع و مربية للنصف الآخر ونرى اليوم الكثير من رجال الدين أو العامة من يرى هذا الاجحاف بحق المرأة بأنه مسلمات ثابتة من أصول الاسلام و هذا ما يتناقض كلياً مع جوهر الاسلام الذي جاء بكلام الله في القرآن الكريم او في السنة النبوية او سيرة الخلفاء الراشدين والحادث الذي دونه لنا التاريخ أثناء خطبة الخليفة الراشد عمر (رض) و عندما جادلته امرأة فأقر لها ذلك حيث قال الحمدلله الذي جعل امرأة مسلمة تصوب لعمر أبن الخطاب…ولكن مع ذلك كله لا يمنع ذلك ان هذا العالم كان يتمتع بموهبة الذكاء والرغبة في البحث عن الحقيقة أصاب احياناً وأخفق في احياة أخرى كان غزير الانتاج بنزعته الصوفية أبدع بحق في كتابه أحياء علوم الدين الذي يعد دائرة معارف في العلوم الاسلامية في العقائد والاخلاق والعبادات والعادات و المهلكات و المنجيات كما له كتب أخرى منها أربعين في أصول الدين، كيمياء السعادة، أيها الولد، رسالة الطير، ميزان العمل، المنقذ من الظلال و الذي يعبر عن ترجمة لحياته و بحثه عن الحقيقة و ما جرى له من مراحل وحالات نفسية و فكرية.
5.  أبن خلدون. ولد في تونس عام 732 هجرية و توفي في مصر عام 808 هجرية من أسرة علم و مكانة سياسية. نبغ باللغة والأدب و في الفقه المالكي وقد تولى عدة وظائف في القضاء و الفقه و الحكم و السياسة و كان ذو طموح كبير لذا كان كثير التنقل والأسفار وانخرط في كافة دهاليز السياسة وعيوبها من مكر و دهاء وغدر من أجل الحصول على المنصب، وقد أستثمر خبرته تلك في كتبه في التاريخ و المقدمة التي موضوعها في العمران البشري ونشوءه و أسباب انحلاله. لذلك فقد وضع خلاصة خبرته وعلمه وفلسفته فيها وانتهج ابن خلدون العقل والمعرفة ورأى في العقل والغيبيات لابد من الفصل بينهما وجعل بينهما المجتمع و شؤنه و تطوره تاريخياً وقد أخذ على المؤرخين وأعمدته من أمثال الطبري والمسعودي وأبن الأثير في كتابة التاريخ عدم الدقة و مراعاة الهوى و العاطفة و قوة السلطان. وطالب بالمؤرخ الصالح ان يكون ذكياً ونزيهاً ودقيقاً وبارعاً في القياس والوقوف على الأسباب ويكون ذو اطلاع واسع في كل علم و فن وثقافة وفقه و سياسة واخلاق. وقد أبدع في مقدمته الفريدة والتي هي مثار الاعجاز والدراسة لسبقها والى يومنا هذا من الغرب والشرق في تعليل ظاهرة تطور الحياة الاجتماعية بتشخيصه المجتمع كائن حي، والمجتمع قاعدة للعمران، و السببية الاجتماعية وضرورة التعاون و العوامل المؤثرة في المجتمع هي الجغرافيا و المناخ و التربة وان المجتمع البشري يتطور باستمرار كحياة كل حي طفولة فشباب فكهولة فهرم وعندما يصل الى هذه المرحلة يكتسحه و يحل محله مجتمع ناشئ جديد ضمن هذه الخطى من نشئاً في البداوة فالزراع و الصناعة منتهياً بالحضارة.
أخوان الصفا
كان القرن الرابع للهجرة حافلاً بالمتناقضات والأحداث والمفاجآت والضعف ما أدى إلى تفكك الدولة العباسية إلى عدة دول وإمارات، كما نشطت الحركات الفكرية المختلفة ومنها المعتزلة بعد أن بطش المتوكل برجالها، وشوّه وعتّم الأشعري على تعاليمها، وساد التعميم في النظرة السلبية وأخذ الكل بجريرة البعض، مما سبب الظلم وعدم العدل الذي هو مبدأ إلهي وأخلاقي وديني، ويعتبر من الثوابت والأصول. وبالتالي خسر العرب والمسلمون والانسانية الكثير من العلم والمعرفة للعديد من العلماء والفلاسفة الذين كانوا ثروة هامة للأمة العربية والاسلامية وللإنسانية، فهم كانوا مصابيح العلم والمعرفة التي بها ازدهرت المجتمعات وتطورت، ونرى ذلك جلياً عند مقاربتنا على إسقاطات الواقع المظلم والانغلاقي الذي تعيشه هذه الأمّة الآن سواء بطبقات السياسيين الفاسدة أو فقهاء الظلام  ووعاظ السلاطين أو من خلال تخبط وجهل العامة وانقيادهم العاطفي إلى الأخرين دون أن يحكّموا أهم نعمة أنعمها الله على الانسان، ألا وهي العقل والاحتكام به على الأمور، وتمييز ما يطرح عليهم من زاد،  وهل هو غثٌّ أم سمين. ونستخلص ممّا سبق، أن الصراع الأزلي بين مدرسة الانغلاق والفساد ومدرسة العلم والعدل ليس بجديد حيث استثمر أصحاب السلطة ذلك في تزاوج غير مقدس مع فقهاء الظلام، مستغلين أحيانا جهل العامة وبراءتهم العاطفية تجاه الدين، والعصبية القبلية أحيانا أخرى، إضافةً إلى القسوة والبطش الذي وصل إلى الإجرام والابادة بالطرف الآخر في حال عدم الإذعان. هذا كلّه، وغيره من أسباب جعل البعض يدجَّن، والبعض الاخر يستسلم، لكن هنالك من فضّل أن يُبطن كلمة الحق في قلبه كي لا ينتحر او يُنحر، مقتدين بالحديث الصحيح “من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”. وفي مفارقة عجيبة، نرى ما أشبه اليوم بالبارحة…! ذلك كله مهَّد إلى ظهور حركات مثل حركة أخوان الصفا. فالمؤسسون لهذه الحركة ألفّوا جمعيتهم، على أن تكون سرية، ولذا لم يكن من السهل أن نعلم عن زمان ظهورها وملابسات تكوينها الشيء الكثير. وكما يذكر أبو حيان التوحيدي عمّا ورد في كتاب (أخبار الحكماء) للقفطي، أن المؤسسين هم زيد بن رفاعة وأبو سلمان المقدسي وأبو حسن الزنجاني والمهرجاني والعرفي، ويظهر أن زيد بن رافعة كان المتقدم بينهم والموجّه والمرشد، وكان مركز الجماعة هو مدينة البصرة، وأن هذه الجمعية استكملت نظامها سنة 387 هجرية.
 والأهداف التي تأسست من أجلها جمعيتهم، أن الشريعة قد تدنّست بالجهالات والضلالات ولا سبيل لتطهيرها إلا بالفلسفة لأنها حاوية للحكمة، ومتى ما انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال، حيث أن تعدّد الفرق وكثرة البدع واختلاف المفاهيم أدّى إلى البلبلة والشكوك، فضعف سلطان الدين على النفوس وتراجعت الثقة بالمفاهيم، وإحياء الايمان لن يكون إلا عن طريق إبطال المزاعم بالدليل، وتأييد الحق بالبرهان، لذلك عمدوا إلى العلوم العقلية لتحقيق تلك الأهداف.
وفي رسائلهم ما يشهد بذلك، حيث اتخذوا العلم وسيلة لتهذيب النفس وترسيخ الايمان، ويذكرون في رسائلهم أيضا، أن أخلاق الناس قد انحطت وكثر بينهم الخداع والغدر وشاع الظلم والتعدي (فصار ذلك سبباً لاختفاء أخوان الصفا)، فانقطاع الوفاء والسبيل للخلاص من شرور الدنيا والفوز بسعادة الآخرة لا يكون إلا بالتعاون، وفي النهاية الهدف الذي ينشدونه يتحقق بالتعاون التام في بناء مدينة روحانية فاضلة تزدهر فيها الحياة، كما نلاحظ أن خصومهم طعنوا بهم، بأن لديهم هدفاً هو إسقاط الدولة العباسية وتصحيح بعض الأخطاء التاريخية لتحقيق العدل. ونرى من يرميهم بالقرب من الإسماعيلية، ولكن هذا لا يتلاءم مع طبيعة الأشياء، فالإسماعيليون تاريخياً هم فرقة سياسية عنيفة، في حين أنّ منهج أخوان الصفا هو العلم والفكر والحجة والبرهان في مقارعة الطرف الآخر، ويسعون كما نرى من اسمهم إلى صفوَة الأخوّة.
نظام أخوان الصفا ورسائلهم.
المبادئ الأساسية:
أولا: التستّر والتكتّم (كما نصّت رسائلهم)، اعتقاداً منهم أن في ذلك حمايةً لهم بالأخذ بمبدأ التقية.
ثانيا: التوسع والانتشار، فإنهم يسعون إلى نشر أفكارهم  بتأسيس فروع لجمعيتهم في جميع الأقطار للاتصال بجميع طبقات الناس لزيادة عددهم،  ولكنهم كانوا حريصين على الانتقاء والاختيار الدقيق وليس ذلك على العموم، حيث حرصوا على التعرف على أخلاق المرشح وأحواله، كما آثروا الاتصال بالشباب من ذوي القابلية والمرونة والذكاء والابتعاد عن المشايخ الهرمة الذين تجمدت لديهم آراء وعادات فاسدة ورديئة يصعب تغييرها، حيث أن الشباب سليمي الفطرة والنفوس الشغوفين للعلوم والمعرفة يريدون طريق الحق، وقرنوا ذلك بتصديق المبدأ وفهمه بوضوح، واتخاذه رأياً وعقيدة والعمل المخلص بموجبه.
ثالثا: التعاون، يوصي أخوان الصفا بالعطف الشديد على الأخ وإيثاره حتى على أدنى قريب لأن صلة الأخوة روحية في حين صلة القرابة مادية ومصلحة.

مراتب أخوان الصفا
قسّموا أعضاء الجمعية حسب نظامهم إلى أربعة مراتب، رمزوا لها:
أولا: مرتبة ذوي الضائع، وهم الأبرار الرحماء. ثانيا: مرتبة الرؤساء ذوي البأس والسياسة، وهم الأخيار الفضلاء. ثالثا: مرتبة الملوك ذوي السلطان، وهم الفضلاء الكرام. رابعا: مرتبة أرباب التسليم ومشاهدة الحق.
وسائل أخوان الصفا
إن المصدر الأول في دراسة أخوان الصفا هو الرسائل التي خلفوها، وفيها دوّنوا علومهم والكثير من آراء وأفكار جمعيتهم، وقد بلغت إحدى وخمسين رسالة، تقع في أربعة أجزاء:
1.في الرياضيات، منها أبحاث في العدد والهندسة والنجوم والموسيقى والجغرافيا والمنطق وتهذيب الأخلاق.
2. في العلوم الطبيعية، تناولوا فيها عناصر الموجودات وأصناف المعادن وأنواع النبات والحيوان.
3.  في الشؤون الخلقية والمدركات العقلية، يعالجون فيها منشأ الأخلاق ونواميس الكون.
4.  في الأمور الإلهية والغيبية، وفيها تفصيل نظام أخوان الصفا وخلاصة أرائهم.
علوم أخوان الصفا و آراؤهم
ليس لتفكيرهم طابع واضح، فقد غرفوا من كل بحر،  ونهلوا من كل مورد، وامتازوا بالشمولية في بحوثهم المعرفية، كما امتازوا بنزعتهم الروحية التي تقترب من الزهد، إنهم يشدّدون على الفضائل الخلقية والقيم الإنسانية والمبادئ الروحية والتذكير بمخافة الله،  ولكنهم يعتقدون بصحّة السحر وصدق التنجيم، و يرونه أجّل العلوم ، فعظموه من أجل استخدامه في فرض آرائهم على الشباب الخام الملتحقين بهم، إذ لا يمكننا أن نتفهم في يومنا هذا، ذلك سوى من باب التأثير النفسي على الأخرين من خلال الإيحاء وغسل الأدمغة الذي يمارسه الإعلام  ورجال الدين وبعض علوم الباراسيكولوجي والتنويم المغناطيسي وغسل الدماغ في يومنا هذا كمثال لذلك.
مصادر علومهم: أعتمد أخوان الصفا لعلومهم مصادر مختلفة أهمها:
الكتب المصنفة على ألسنة الحكماء والفلاسفة من الرياضيين والطبيعيين. الكتب المنزّلة التي جاء بها الأنبياء كالتوراة والأنجيل والقرآن. الكتب الطبيعية التي تتحدّث عن الأفلاك والبروج. الكتب الإلهية التي هي (جواهر النفوس). وقد اعتمد أخوان الصفا على نظرية الفيثاغورسيين في العدد وفلسفة أرسطو في الطبيعة ونظام إفلاطون السياسي ومذهب الإفلاطونيين الإشرافي، وفي فلسفتهم أيضا أصول هندية في احتقار الجسد وتفضيل إحراق الجثة والرفق بالحيوان، ومن الأصول المسيحية عامل المحبة والتسامح. أما طريقتهم إلى معرفة الحق، فبالبرهان العقلي والاستدلال النظري والشعور الباطني.
1. النظام الكوني.  إن عالم الطبيعة لم يُخلق دفعة واحدة، وقد دعموا، وعللوا ذلك مستمدين مذهب فلسفة إفلاطون وفيثاغورس في الانبثاق وطبيعة العدد وهبة العقل وتكرار الواحد.
2.السلم الطبيعي. لهم آراؤهم في ترتيب السلم الطبيعي من الأدنى إلى الأعلى وهو الجماد فالنبات والحيوان وهكذا.
3. التعليم الخُلقي. يعطون الأخلاق أهمية كبرى، ويشيرون إليها، ويعتبرون الأخلاق الفاضلة هي السبيل إلى السعادة واليوم الآخر.  الأخلاق في رأيهم نوعان: مولود بالفطرة البشرية، ومكتسب بالعادات الجارية. أما الأخلاق الفطرية والمكتسبة فتقع تحت تأثير الجسم البشري وتأثير المحيط الطبيعي أو الخارجي وتأثير التعامل وعلومه، وكذلك تحت تأثير التربية وعامل العشرة والمعاملة.
4.المنحى الاجتماعي.  تقوم فلسفتهم على مبدأ التعاون، إذ لا بدّ من نجاح التعاون بوجود عوامل اتفاق الفكر وانسجام الآراء والروح، إنه ضرورة اجتماعية وروحية. فالفرد لا يستطيع أن يستوفي حاجاته من دون تعاون مع أقرانه، ولن ينجو من الشر إلا بالتعاون، وبالتالي فالتعاون قائم على التفاهم في الرأي والمذهب.
5. المنحى الروحي.  يزعمون بأنهم لا يتعصبون إلى مذهب معين، لأن مذهبهم يتجاوز المذاهب، وأن منهجهم يعتمد على كتب الأنبياء كلهم، ولأنهم على الرغم من تفاوت أزمان الأنبياء، يهدفون إلى غرض واحد هو الحث على الأخلاق والفضيلة والتذكير بالله ويوم المعاد وبعدالة الله يوم الحساب، كما يؤمنون بالله، وينفون الصفات عن ذاته شأنهم شأن المعتزلة، ويشدّدون على وجوده بالدليل العقلي.
 نماذج من رسائل أخوان الصفا
1. قيام دولة الشر ونظرتهم إليها، حيث لكل دولة سلم (أو خط بياني) تبتدأ منه ولغاية ترتقي إليها وحد تنتهي إليه. فإذا بلغت الدولة أقصى مدى في غاياتها أخذت في النقصان والانحطاط والتدهور، وبدأ في أهلها الشؤم والخذلان.  وهكذا حُكم الزمان في دولة الخير والشر، فتارة تكون القوة والنجاح لدولة أهل الخير، وتارة تكون القوة والنجاح لأهل الشر. وكما جاء في القرآن “وتلك الأيام نداولها بين الناس”.
2. قيام دولة الخير، حيث رأيهم برغم أن أهل الشر هم الظاهرون في هذا الزمان، ولكن دولة الخير تبدأ بتعاون أهل الخير واجتماعهم على رأي ودين واحد حيث يجب أن يتفقوا على عهود ومواثيق لا يتناحرون أو يتخاذلون عن نصرة بعضهم البعض، ويكونوا كرجل واحد وكنفس واحدة.
3. المدينة الروحانية (المدينة الفاضلة)، وبها يؤمنون بالسعي والتعاون وتجميع القوة لبناء هذه المدينة، ويكون بها الله هو الذي يملك النفوس والأجساد، ويجب أن يكون أهلها قوة، ويكونوا أخيرا حكماء وفضلاء عالمين بأمور النفوس والأجساد وحالاتها، ويجب أن يكون لأهلها سيرة جميلة وحسنة يتعاملون بها فيما بينهم، وسيرة للمدن الأخرى وحسب أخلاقهم حيث أساس هذه المدينة هو تقوى الله، وأن بناءها على الصدق والوفاء والأمانة، وأن يكون الكمال غايتها.
4. مجالس أخوان الصفا، أن يكون لهم مجالسهم الخاصة بأوقات معلومة لا يدخلها غيرهم، يتذاكرون في علومهم ويتحاورون في إسرارهم.
5.  إخفاء العلوم، يجب أن تكون مذكراتهم في علم النفس والحس والمحسوس والعقل والمعقول، والبحث في أسرار الكتب الإلهية والتنزيلات النبوية، وكذلك في علوم الرياضيات ومنها العدد والهندسة والتنجيم والتأليف. إن غايتهم في كتم أسرارهم عن عامة الناس خوفاً من سطوة الملوك لا حذراً من جمهور العوام، وإنهم بذلك يصونون مواهب وهبها الله في العلوم والفلسفة.
6. التوسع، وكما يدعون أن لهم أخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضائلهم في مختلف أرجاء الأرض، ومنهم طائفة من الملوك والأمراء وأبنائهم والوزراء والولاة والكتاب والعلماء والأدباء والشعراء والفقهاء وحملة الدين والصناع حتى يكونوا مندوبين عنهم للإصلاح في أمور الدنيا والدين.
7.أختيار الأخوان، يتم التدقيق والتمحيص بما يحمله الأخ من هبة الله من فضل وحكمة وفهم ليكون مساعداً لهم.
8. الحفاظ على صفاء الأخوة، ومنها شروط اختيار الصديق بالتعرف عليه وأحواله وأخباره وأخلاقه ومذهبه واعتقاده، وهل يصلح للصداقة وصفاء المودة وحقيقة الأخوة أم لا…؟  فإن ظفرت بواحد فيجب تفضيله على جميع الأهل والأقارب لأن وحدة الفكر هي وحدة الروح.
9.  تفضيل الشباب، حيث يرون أن أفكارالنفوس قبل أن تُشغل بأي اعتقاد وعلم ولأن مثلُها كمثل الورق الأبيض النقي الذي لم يُكتب به شيء، فإذا كُتبَ فيها شيء حقاً كان ذلك أم باطلا، فقد شغل مكاناً فيه منع الكتابة فيه، ويصعب مسحه، ولذا يرون الاهتمام بالشباب سليمي الصدر الراغبين في العلم والأدب، الراغبين بطريق الحق والدار الآخرة والمؤمنين بالله وغير المتعصبين إلى مذهب، والابتعاد عن المشايخ الهرمة الذين تحجرت أفكارهم وملئت ورقتهم بما يصعب مسحها. يرون أن الله ما بعث نبياً أو اختاره إلا وهو شاب، وأن الحكمة أعطاها لعبده الصالح الشاب، وأن كل أنبياء الله أوّل من كذبهم مشايخ قومهم المتعاطون في الفلسفة غير الهادفة والنظر والجدل العقيم من دون هدف.
***
وأخيراً، وعبر هذه الرحلة والاستعراض، حاولت كل جهدي أن أختزل ما استطعت دون تشويه الفكرة.
إن تاريخنا حافل وغني بما يعتبر في حينه سابقاً للأمم المجاورة، بما وفر لنا قاعدة للإنطلاق نحو الأمام لا الرجوع نحو الخلف عكس عجلة الحياة والتاريخ والتقدم.
ومهما كان في التاريخ من رموز نجلّها ونحترمها في كافة مجالات العلوم والشريعة، لكن ذلك لا يعني أن نكون أسرى الماضي وعبدة لإشخاص هم كانوا متقدمين على غيرهم في ذلك الزمان، لأن الحياة في تقدم والعقل البشري في نمو، بل أكثر قابلية للاستيعاب والفهم، وأن مبدأ الاجتهاد والتبصر والعقل يوفر لنا مساحة كبيرة للتطور، مع تطور الحياة، واستيعاب المزيد من الفهم للحقيقة، ومنها حقيقة خلق الإنسان من قبل الله عز وجل، لأن يكون خليفة الله في الأرض للإعمار والبناء لا الهدم والتخريب والإرهاب.
اننا عندما ننظر الى “صحيفة المدينة” التي خطها الرسول محمد (ص) نرى خلالها بداية ملامح المجتمع المدني ونجد فيها احترام حقوق الفرد والجماعة وحرية الفكر والتعبد الديني، خصوصا لباقي الأديان مثل اليهودية والمسيحية، ثمّ  ما تبع  ذلك من فترة الحكم الرشيد للخلفاء الراشدين والتي تعتبر فترة النقاء الايماني والمثل والقيم الأخلاقية بعد فترة حياة الرسول (ص)، ثمّ ما نراه حدث من تطور في آلية قيادة تلك الأمة الإسلامية ضمن مدة قصيرة نسبياً نتيجة عدم وجود مؤسسات دولة لدى العرب آنذاك او خبرة سابقة إدارية او مؤسساتية.. حيث نرى الخليفة الراشد عمر(رضي الله عنه) استفاد كثيراً في بناء الجيش الإسلامي وأسلوب بيت المال و توزيعه والبريد والمراسلات … وأمور أخرى، من نظم الدول المجاورة للعرب في ذلك الزمان إضافة الى عمل الخلفاء في مبدأ الاجتهاد بالعديد من المشكلات والمعضلات التي ظهرت أمامهم، كما نرى عندما أجتهد الخليفة الراشد عمر في تجميد العمل بنصوص واضحة.. كل ذلك كان نابعاً من فهم صحيح لتطور المجتمع ومن الحاجة لأستخدام العقل في مواجهة معضلات ومشاكل وجب الاجتهاد فيها. لكن مع الأسف الشديد، هذا النهج الراشد باستخدام العقل والاجتهاد، في مواجهة المعضلات والتطور في المجتمعات، لم يستمر ويتواصل بعد هذه المرحلة الراشدة حيث غاب الرشد بعدها. ولو أستمر هذا النهج لوصلنا الى صيغ الحكم القائمة اليوم في المجتمعات الحديثة المتقدمة من حيث وجود آلية شرعية للانتخاب وتحديد لفترة الحاكم وسحب هذا التفويض عندما تقتضي المصلحة العامة. لكن كما قلنا فإنّ حداثة التجربة الإسلامية آنذاك، من ناحية، وقصر الفترة الزمنية لعهد الخلفاء الراشدين، من ناحية أخرى، أوجد خللاً كبيراً لاحقاً في كيفية الحكم وفي سؤ التصرف ببيت مال المسلمين وفي ظهور الفساد الإداري والمالي والسياسي، بداية مع تأسيس الدولة الأموية ثم وصولاً إلى العهود التي تبعتها حتى مطلع القرن العشرين، حيث أصبح الحكم وراثياً والأفضلية فيه وفي المغانم هي للعائلة أو القبيلة الحاكمة. وقد جرى، للأسف، ربط ذلك كله بقدر الله ومشيئته وبعدم جواز الاعتراض عليه وفق منهج الجبر كما أسلفنا سابقاً.
ان السلف الصالح واعمدة الفقه والحكمة والفلسفة العربية كانوا محطات للانطلاق للامام وكانوا العتبة الأولى والاساس لسلم الرقي والارتقاء نحو الأعلى، ولم تكن اجتهاداتهم من أجل البقاء سجناء مسمرين عند هذه المحطة او تلك، كما هو معظم الحال السائد الآن في العالمين العربي والإسلامي.
رحم الله شاعرنا الكبير ابي القاسم الشابي، وانا أقرأ هنا بعض الابيات المختارة من قصيدته العصماء، “أرادة الحياة”:
                        إذا الشعب يوماً أراد الحياة                        فلا بد أن يستجيب القدر
                        ولابد لليل أن ينجلي                               ولا بد للقيد أن ينكسر
                        ومن لا يحب صعود الجبال                      يعش أبد الدهر بين الحفر
                        أذا طمحت للحياة النفوس                         فلا بد أن يستجيب القدر

[email protected]
www.alhikmabookstore.com

المراجع و المصادر التي يمكن الرجوع اليها للحصول على المزيد من المعلومات و تفاصيل أكثر عن الموضوع:
أسم الكتاب/ المؤلف
كتاب الفلسفة الاسلامية واعلامها/د.يوسف فرحات
سلسلة فلسفة العرب/يوحنا امير
اعلام الحضارة العربية الاسلامية/زهيرحمدان
موسوعة عباقرة الاسلام/د.محمد أمين
رسائل أخوان الصفا/أخوان الصفا
مروج الذهب/المسعودي
بداية المجتهم ونهاية المقتصد/ابن رشد
فتاوى ابن رشد/ابن رشد
مقدمة ابن رشد/ابن رشد
رسائل ابن عربي
آثار ابن المقفع/ابن المقفع
عصر المأمون/أحمد فريد
العدل الالهي بين الجبر والاختيار/محمد حسين
تاريخ علماء بغداد/ابي المعالي
أزمة العقل المسلم/عبدالحميد ابو سليمان
فقه الفلسفة و القول الفلسفي/د.طه عبدالرحمن
ابن النفيس، الطبيب و الفقيه و الفيلسوف/ابن النفيس
اصلاح الفكر الاسلامي/د.طه جابر
اجتهاد في الشريعة الاسلامية/د.محمد فوزي
ابن رشد فيلسوف عربي بروح غربية/د.عاطف العراقي
الوجه الاخر لحداثة ابن رشد/د.محمد المصباحي
التعليقات/ الفارابي
الواحد و الوحدة/الفارابي
المعتزلة و مشكلة الحرية الانسانية/د.محمد عمار
ديوان ابي القاسم الشابي/ابي القاسم الشابي
 الكامل في التاريخ/أبن الأثير
الخصائص/أبن جني
تهذيب التهذيب/أبن حجر العسقلاني
الفصل في الملل والأهوال والمحن/أبن حزم
تهافت التهافت/أبن رشد
الطبقات الكبير/أبن سعد
فصوص الحكم/أبن عربي
المعارف/أبن قتيبة
الفهرست/أبن النديم
مقالات الاسلاميين/الأشعري
فلسفة المعتزلة/د.البير نصري
الحيوان/الجاحظ
     البيان و التبيين/الجاحظ
رسائل الجاحظ/الجاحظ
البخلاء/الجاحظ
المحاسن و الأضداد/الجاحظ
المناحي الفلسفية عند الجاحظ/د.علي بو ملحم
تاريخ الجهمية و المعتزلة/جمال الدين قاسم
رسائل العدل و التوحيد/الحسن البصري
اعتقاد فرق المسلمين و المشركين/الرازي
أساس البلاغة/ الزمخشري
أمالي المرتضى/الشريف المرتضي
تهافت الفلاسفة/أبو حامد الغزالي
أحياء علوم الدين/أبو حامد الغزالي
رسائل الكندي/الكندي
نظرية المعرفة عند أبن رشد/د.محمود قاسم
الفلسفة الاسلامية وعلم الكلام/مونتجمري أن
بحوث في المعتزلة/نلينو (كرلوالفونسو)
المعجم الفلسفي/يوسف كرم
النظريات السياسية الاسلامية/د.محمد ضياء