19 ديسمبر، 2024 12:21 ص

فيزيونوميا الذاكرة المزهرة لمنى سعيد!

فيزيونوميا الذاكرة المزهرة لمنى سعيد!

فجاة تنقطع منى عن الكلام المباح.
ينقطع السرد، فتشعر وكأنك معلق على ” بيك” إضافي من خمر “الجمر والندى”، المعتق لآكثر من أربعة عقود، كي تصل الى الذروة.
” للجعب” استغرقتني سيرة منى سعيد؛ كما لو انها تحدثني، وجها لوجه.
سمعت بعضا من رحلة العذابات، حين التقينا قبل بضع مرات في دبي. وكنت التقط أخبارها المتباعدة،في  عمّان، او من بغداد؛ وأبحث عن الرواية الكاملة لمقتل سامي العتابي، وكنا نعمل سوية في ” مجلتي والمزمار”.
اكتشف في “فيزيونوميا” منى سعيد ؛ ان انف وحنك سامي العتابي، أطول من اللازم، حتى ان شقيق منى، عارض زواجها من سامي لسبب فيزيونومي.
بيد ان منى سعيد، تقودنا في كتابها العسلي، الى استعادة”فيزيانوميا” كل الوجوه التي مرت في حياتنا المرحة المبتسرة، قبل النزوح العظيم.
لم يكن انف وحنك سامي العتابي، علامة فارقة، بين الرفاق والاصدقاء والخصوم ، فكل من حمل وجهه على مسرح الحياة البغدادية، كان يتقنع، بسيماء مدن النزوح، يحمل في تجاعيد الجبهة،  وانعطاف الانف، وتقعر  العينين، وتسفيطة الشعر، وطول الاذنين،نفس الملامح، يشاركه من كان يتطلع الى السماء، كمن يراقب ساعة كسوف الشمس.
كانت السعادات، المؤقتة، تمضي، مسرعة، وفوق الاحناك الناطقة كانت الانوف القصيرة والمستطيلة،تشم عن بعد ” الشعواط ” القادم.
منى سعيد،  تفتح في ” الجمر والندى” صندوق حياتنا المحترقة ، مثل الكتب والمناشير في تنانير البيوت، ومنها بيت العتابي.
لا تخفي ،صاحبة تسريحة الصبيان ، والتنورة القصيرة، والانف بارنبة منمنة، مشاعرها، حين تتحدث عن حياتنا  الجامعية، وعلاقاتنا في الحواري الخلفية ، بصدق يليق بامرأة غير هيابة.
 منى تذكرنا  ببغداد الازل، تسرد رحلتها بين الامصار والاعاصير ، فيما القبر الفارغ، لسامي العتابي، يقض مضاجعها، ويحول حياتها الى بحث مستديم، ليس عن القاتل، انما الصرخة المكتومة في الليالي الموحشة:
-وينك ياسامي؟
فالقتلة معروفون وان كانوا بلا وجوه ولا عناوين.
مرة تحدثت  سيدة شيوعية من بلد عربي، في مؤتمر دولي نسوي عن الاعتقالات القسرية، لاعضاء في الحزب على يد الانقلابيين، وكانت شديدة التاثر لان إدارة المعتقل منعت عنهم الزيارات لأسابيع.
ممثلة الحزب الشيوعي العراقي، بدات خطبتها بالقول:
ياليتنا كنا معكم !
وبدات تسرد صورا من التعذيب البشع والقتل المروع،  في انقلابات العراق، فابكت الحاضرين، واضطرت المتحدثة السابقة الى الاعتذار، لان عذاباتها بدت نزهة أمام قيامة العراقيين.
في محطات مذكراتها ، المنثورة مثل حبات الرمان، تمسك منى سعيد  دموعها، وتغالب الحزن، في سردية، تنتهي فجأة، كمن يشهق بالماء .
تتجدد  منى سعيد، بعد رحلة شاقة عبر حياة،كانت ندية في مطلعها،الى ان اجتاحها  جراد القمع والعسف، والفاقة والتشرد.
غاب سامي، وترك يمامته في حضن منى، ترضع  الامل، مع حليب جففه الحزن، وطول الغياب.
ربما لا يجد القارئ ، مفاجئات مثيرة في مسيرة، الصحفية، والتشكيلية، والمترجمة،  متنوعة المواهب،وقبل كل ذلك، أمرأة تعشق الحياة، ولم تفارقها الابتسامات وحتى الضحك الى حد غرق  الدموع، حين تروي مفارقات حياتها مع الراحل البهي سامي العتابي، ومحنتها ؛سنوات الانتظار المهلكة.
و حتى بعد ان بات واضحا، ان ” ابو حنك”  الرقيق، مثل غصن البان،ذاب في أقبية التعذيب، بقيت منى تنتظر معجزة  في الزمن الرديء.
تثير فينا، مذكرات منى سعيد الاشجان، بيد انها تمنحنا أملأ اخر في ان يستعيد العراق، عافيته، ما دامت قبيلة منى سعيد النسوية، الجريئة، الخلاقّة، المعفرة، بالعذابات، مكتضه برغبة الحياة والابداع.
بستان من الزهور على القبر المجهول  للفتي  الدائم سامي العتابي، وحديقة شبوي وسوسن لصاحبة الذاكرة المزهرة منى سعيد الطاهر.