منذ قرون بعيدة قال أجدادنا : “خير الكلام ما قل ودل” , وبرز فيهم أعلام إتخذوا منهج الإختصار أسلوبا لنقل المعارف ونشر العلوم , وكان ذلك في زمن لا يعرف من وسائل الإتصال التفاعلية غير الكلام المكتوب على الورق الشحيح النادر آنذاك.
أدرك أجدادنا أهمية الإختصار في الكلام المنطوق والمكتوب , وكأنهم يدركون ما يحي العقول ويشدها إلى التفاعل والإبداع.
وأكثرهم في مقدمات كتبهم يجتهدون في الإيجاز , ويبتعدون عن الإسهاب والإطناب , ويحاولون إسعاد القارئ بما يكتبون لا تدويخه وإزعاجه وتنمية عدم حبه للقراءة.
أجدادنا يختصرون , ويلظمون كلماتهم على السطور كأنها حبات اللؤلؤ وخرز الجمان , فيصنعون منها عقدا معرفيا بهيا.
فالكلمة عندهم غالية , وذات قيمة عالية , والعبارة تدل على فكرة عامرة بالحيوية , والقدرة على التفاعل الأصيل مع الحياة.
وكلما إزدادت قيمة الكلمة إجتهد المبدعون بوضعها في مكانها , والإعتزاز بدورها وتأثيرها في العقول والقلوب.
وتجدنا بعد إنشار الورق وتنوع وسائل الكتابة صرنا نبذّر الكلمات وننثرها , وصار شعارنا “مجرد كلام” , اي أن الكلام بلا قيمة ولا تأثير في الحياة , فهو مجرد أصوات فارغة وكلمات مكتوبة بلا غاية أو مأرب.
وفي زمن توفر أدوات الكتابة السهلة , أصبحنا نحسب حشو الصفحات كتابة أو تأليف الكتب بأنواعها , بلوغ المراتب العلوية في الكتابة , وصارت تجارة الكتاب شائعة , فالمطابع تطبع , والناشر يقبض الثمن , أما قيمة المكتوب وتأثيره ودوره في الحياة فلا معنى له ولا نظر.
فالكم شائع والنوع ضائع واختلط الغث بالسمين , وتوجه الناس إلى الكتابة والنشر لتصريف الطاقات المكبوتة , والإخفاقات والإنكسارات المتراكمة , وبهذا الإنحراف التعبيري تتوهم الأجيال بأنها تقدم شيئا , وتنجز مالم تستطع إنجازه في ميادين أخرى.
والعلة يكمن جوهرها بضياع قيمة العلم ودوره في حياتنا , فلو أن عقول الشباب قد توجهت للعلم والمشاريع الإبداعية المنبثقة عنه , لتغيرت أوضاع الرؤى والتصورات , ولآدركنا أن علينا أن نحترم الكلمة , ونكتب بجدية وإجتهاد , وقدرة على التعبير الواضح اللازم للتفاعل المنير مع العصر.
فكم كتبنا ونشرنا , وكأننا نكتب على وجه الماء , ونطعم الريح كلمات كأنها الهباء المنثور.
وتلك محنة أمة توطنها المهجور , وماعادت ترى بعيون عصرها , وتبحث في نفايات العصور.
فهل من كلمة صافية , وهل سنكتب بموجب إرادة الإختصار؟!!